2007/07/30

شخابيط



كثيراً ما كنت أحث أبنائي على المحافظة على نظافة كتبهم ودفاترهم المدرسية والتجنب ما أمكن الشخبطة والكشط والشطب وإستخدام المزيل الأبيض في تصحيح الكلمات أو تصويب الحروف التي يكتبونها ، وأحثهم كذلك على الكتابة بخط منمق مقروء ، فالخطوط عموماً تعد مدخلاً لتفسير شخصية كاتبها كما تقول بذلك بعض الأبحاث العلمية ، ويعد والدي – متعه الله بالصحة – من أصحاب الخطوط المنمقة والبالغة في الصغر وكان خطه ولا يزال آية في الوضوح والجمال ، وكان من عادته إن أراد أن يكتب خطاباً لأحدنا فإنه يخط خطابه دوماً على ورق أبيض غير مسطر ، ولكننا كنا نجد أن أسطره قد إنتظمت بداية ونهاية دون ميل أو إنحراف أو شطط وكأنه يكتب على أسطر لا نراها وبشكل بديع لا يكاد يُصدق ، بل أنه وإذا شاءت الأقدار أن يخط رسالة على أوراق مسطرة فإنه كان يتجنب الكتابة على الأسطر وإنما كان يكتب على الفراغ الأبيض الكائن بين السطور، ولم أجد تفسيراً لهذا الأمر حتى الآن ، ويبدو أني ورثت عنه هذه العادة بدون أن أرتب لهذا الأمر أو أن أخطط له ، كما كنت أعتقد أني ورثت عنه كذلك النظام والتنميق والترتيب في العمل إلا أنني إكتشفت – أو هكذا بدا لي – أنني لست أقل طفولة من أولادي ، فما أن أدخل غرفتهم وأتصفح بتلصص أبوي عطوف بعض كتبهم ودفاترهم المدرسية حتى أبادر بإلتقاط ورقة فارغة وأنغمس في الرسم عليها خطوطاً غير منتظمة وكتابة أرقام وكلمات بالعربية والإنجليزية ، ويمضي بي الوقت رويداً رويداً حتى أعاود النظر فيما خططته بعد فترة لأكتشف أن هذه الورقة الصغيرة قد توجعت من كثرة ما تداخل بها من حروف ورسومات وأرقام وأشكال بمختلف الأحجام وتبدو عصية على الفهم أحياناً لمن يقع نظره عليها لأول وهلة ، بل ولا يكاد يُصدق أن رب البيت الذي يمطر أولاده بالتعليمات وبما ينبغي وبما لا ينبغي هو صاحب هذه اللوحة السريالية العجيبة والتي لا يكاد يخلو طرف منها إلا وقد نالها قسط من الطلاسم وغريب الصور ، وبد لي في البداية أن الأمر ربما كان محل مصادفة لا ينبغي أن أفسره على غير ما يحتمل ، إلا أنني قد عاودت الإكتشاف بأن الأمر ليس بهذه البساطة ، إذ تبين لي أن هذه العادة متجذرة داخلي ، فبعد إنتهاء يوم عملي أقوم كالمعتاد بلملمة أغراضي وتنظيم مكتبي قبل مغادرته حيث يتبين لي أن هناك بعض من القصاصات هنا وهناك قد نال منها قلمي بلا رحمة جيئة وذهابا طولاً وعرضاً وعلى مدار عملي اليومي ، فهذا رقم هاتف لأحدهم تم بشكل لا إرادي تشويهه ، وذاك أحد الأسماء ُرسم في منتصف حروفه قلباً أصابه سهم ، وهنا أسم ذكر قلبته إسم أنثي ، وهناك إسم يشابه أسم أحد أبنائي قمت بإحاطته بهالة مزركشة ، وفي هذا الجانب إسم شخص قمت بثقب حروفه بقلمي المدبب ، كل ذلك يتم بشكل لا إرادي ، بل أنني أحياناً لا أكاد اذكر متي قمت بذلك وفي أي مناسبة ، ثم أنني حاولت أن أجد تفسيراً فلسفياً ذاتياً لهذا الأمر فلم يسعفني ذلك التفسير إلا بالقدر الذي رأيته مفسراً لمشاعر الغضب أو الرضى أو الميل أو البعد النفسي أوالعاطفي لصاحب هذا الإسم أو ذاك الرقم ، فالأمر مبعثه نفسي إذن لا أكثر ولا أقل ، ومن الممكن التعويل عليه إذا أردنا أن نقف على حقيقة كوامن شخصياتنا ، والطفولة التي تعشعش داخل كل منا بعبثها وجنونها وعبقريتها أحياناً .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة