2009/12/26

3- الثوري الشريف


في خضم الأحداث الكبيرة والملمات العظيمة تتوه الحقائق أحياناً ، فحادثة إستشهاد الإمام الحسين بكربلاء والظروف السياسية التي سبقتها وواكبتها ما زالت تثير في نفوس المسلمين الشىء الكثير من التحليل والتنظير ، وهذا أمر قد يغدو طبيعياً بالنظر إلى شخص ومكانة الإمام في نفوس المسلمين عامة من ناحية ، وبالنظر كذلك إلى الأهداف النبيلة التي كان يتغياها بخروجه على السلطة التي كانت قائمة آنذاك من ناحية أخرى ، فهو وإن بذل نفسه وقدم بعض من آل بيته الأطهار على مذبح الطغيان فإن هذا لم يكن هدفاً في حد ذاته ولا يقول به عاقل ، وإنما كان الهدف هو كسر شوكة العابثين بدين الله والذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، والعودة بالدين إلى نبعه الصافي كما أرساه جده صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما دافع عنه أبيه رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع جمع من صحبه الكرام .

صحيح ووفق لرأي البعض أن الحادثة قد عجلت بأفول شمس دولة بني أمية ، إلا أن الثابت أن هذا لم يكن على الفور بل تراخى الأمر سنوات طويلة ، بل أنه وبعد مغيب هذه الدولة ، فإن العباسيين في شطر منهم لم يكونوا أفضل حالاً من سابقيهم ، وهذا حسب رأيي المتواضع يرجع إلى أن حادثة إستشهاد الإمام في ذاتها والتفاصيل الأليمة التي صاحبتها قد طغت على المعاني التي أراد أن يبعث بها سبط النبي الأكرم ، ولم تترجم هذه الرسائل في كثير من الأحيان إلى واقع عملي إلا في أحداث قليلة معدودة لا ترقى بحال إلى عمق الرسالة ولا نبل المضامين التي إحتوتها ، ولا فداحة ثمنها ، فما زالت رحى الطغيان تدور بلا كلل أو ملل ، ومازال البسطاء من الناس ينسحقون تحت عجلاتها بلا رأفة أو رحمة ، وما زال الدين يتلاعب به حفنة من الحمقى والجهلاء إلا من رحم الله .

ولكون المضمون قد أطيح به لحساب الشكل والصورة والمشهد فمازال فريق من الناس لا يرى في هذه الحادثة المروعة إلا سهم وسيف ودم ودمع ، وهذا لعمري خطأ فادح في قراءة ما بين السطور وإساءة إلى صاحب الرسالة ، ذلك إن إحياء ذكرى إستشهاد الإمام وغيره ممن سبقه من النبلاء رفيعي القدر لا يكون إلا بإحياء صالح أعمالهم وإقتفاء آثارهم والسير على الطريق التي قطعوها من أجل جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ، فعلى من أساء فهم الرسالة أن يتريث ويعيد القراءة من جديد بعيداً عن الفلكلور الشعبي والمسرحيات المتوارثة التي تؤجج النفوس دونما طائل والتي تسترجع لا معان ٍ ولا أهداف ، بل صور وأشكال لا تغير من واقعهم المتردي شىء ، وإلا فإن الإساءة إلى الثوري الشريف ستتكرر ، مرة بخذلانه والتواني عن نصرته إبتداءاً، ومرات بإساءة فهمه والمتاجرة بدمه إنتهاءاً .

2009/12/23

2- الثوري الشريف


إستمراراً لسياق المقالة السابقة فقد تناول الكاتب المصري الراحل عبد الرحمن الشرقاوي سيرة الحسين في مجلدين ( الحسين ثائراً ) ، و ( الحسين شهيداً ) وقد ظهر كلا المجلدين في عام 1960 فقدم الكاتب فيهما تفسيرياً يسارياً صور ثورته كنضال طبقي نيابة عن الجماهير الفقيرة ، في حين رأي كاتب يساري آخر هو أحمد عباس صالح في كتابه ( اليمين واليسار في الإسلام ) أنه لو كان الحسين قد هادن يزيد من أجل حفظ السكينة لكان بهذا قد خان مثل العدالة الإسلامية ، كما يعتبر الراديكاليون أيضاً أن الشهادة على المدى الطويل إنتصار للقوى التقدمية لأن إيقاظ ضمير العرب المريض النائم عجل في سقوط بني أمية ، وفي بعض المقالات التي ُنشرت في مجلة لواء الإسلام سعى محمد كامل البنا في عدد سبتمبر 1956 في أن يدفع التهمة عن الحسين في أنه تصرف في فتح باب الخصومة مع يزيد دون تفكير ودون روية وصبر .

كما نشرت المجلة نفسها في عدد سبتمبر 1965 ندوة إشترك فيها محمد الغزالي ، وعبد الرحيم فودة ، ومحمد أبو زهرة تناقشوا فيها حول ثلاث قضايا محددة هي :-
1- هل كان الحسين عندما خرج طالب رياسة يشتهي إمارة المؤمنين ؟
2- وهل خرج ينازع الأمر أهله ؟
3- وهل الطريقة التي خرج بها الحسين مع التسليم بأنه لم يكن طالب دنيا ولم يكن ينازع الأمر أهله ، كانت مضمونة النجاح ؟
وكانت إجابة المشاركين على السؤالين الأول والثاني بالنفي ، أما إجابتهم على السؤال الثالث فكانت بالإيجاب .

ويعتبر د.حميد عنايت كتاب الراحل خالد محمد خالد ( أبناء الرسول في كربلاء ) منطلقاً من نظرة مثالية ، كما أنه ينقل حديثاً أثيراً جداً عند الشيعة وفحواه أن الإمام علي بن أبي طالب تنبأ بإستشهاد الحسين إذ ُيقال أن الإمام عندما شاهد صحراء كربلاء في طريقه على صفين قال " هنا محط رحالهم ومهراق دمائهم " .

والخلاصة أن الكتابات السنية الجديدة أجمعت على تخطئة أبو بكر بن عربي في رأيه عن يزيد ، وتحفظت على رأي بن خلدون في أن ثورة الحسين مغامرة وفتنة غير محسوبة النتائج ، وبعضهم يمدحون الحسين بدلائل أخلاقية ، وآخرون بدلائل سياسية ، إلا أنه لم يقم كاتب قط من هؤلاء الكتاب ببناء بحثه وإحتجاجه على تحليل نقدي للنصوص التاريخية بهدف بيان تناقضاتها وإنعدام الدقة فيها ، فكل ما يكتبه الكاتب مبنى على تأمل شخصي .

وينتقل د.حميد عنايت إلى الكتابات الشيعية ذات النزعة التجديدية فيلاحظ أنها قليلة جداً مقارنة بكتابات أهل السنة ، ويعزو ذلك إلى أن مجددي الشيعة الذين يتطرقون إلى هذه القضايا التي تعد قضايا عقائدية بسبب مكانة الإمام الحسين والإيمان بعصمة الأئمة وغير ذلك إنما يتعرضون لأنواع من المتاعب الشديدة .

ولعل أكثر الأعمال جرأة مما ُنشر في هذا المجال كتاب ( شهيد جاويد ) أي الشهيد الخالد من تأليف نعمة الله صالحي نجف آبادي وهو من رجال الدين في قم والذي صدر عام 1968 فتمت مصادرته مباشرة ولم يشتهر إلا في عام 1976 إثر إغتيال شخصية دينية في أصفهان ، وما شاع من أن قاتليه أدعوا أن السبب في قيامهم بإغتياله أنه يؤيد الأراء الواردة في الكتاب المذكور .

وكان هدف نجف أبادي في كتابه الشهيد الخالد مزدوجاً إذ أراد أولاً الرد على من إعتبر ثورة الحسين عملاً غير متزن وخروجاً على السلطة الشرعية وهو مذهب أبو بكر بن عربي ومن تبعه من المعاصرين كمحب الدين الخطيب ، وأراد ثانياً الرد على تلك الجماعة من ُكتاب الشيعة الذين يعتقدون أن أعمال الإمام الحسين المقدرة من العناية الإلهية كانت معلومة لديه قبل وقوعها ، ويخصص المؤلف الجزء الأكبر من هذا الكتاب لرد هذه النظرة الأخيرة وتفنيدها ، فإذا كان الإمام الحسين يمتلك العلم نفسه الذي كان لأئمة الشيعة طبقاً للمعرفة اللدنية الغيبية ، فلماذا سار عامداً في طريق ينتهي بالهلاك له ولأسرته ؟

وعندما نتذكر أن المجتمع الإسلامي آنذاك كان في حاجة إلى قيادة آل البيت يصبح هذا العمل الإنتحاري أكثر إنغلاقاً أمام الفهم ، وينجح نجف أبادي في دحض كثير من أحاديث الشيعة المتعلقة بعلم الإمام المسبق بإستشهاده ، وبذلك ينقذ شهادة الإمام من شبهة الإنتحار وإلقاء النفس والأهل في التهلكة ، غير أن الأحاديث التي يبين ضعفها ووضعها يقول د.حميد عنايت عنها أنها أحاديث الدرجة الثانية عند الشيعة، فمصادر شيعية مثلاً من الدرجة الأولى في هذا المجال من قبيل الموسوعات المعتبرة والمفصلة للكليني ، والطوسي ، والشيخ الصدوق تحتوي على كثير من الأحاديث في تأييد علم الغيب أو المعرفة اللدنية عند الإمام للماضي والحاضر والمستقبل .

ُيتبع

2009/12/22

1- الثوري الشريف



مازالت سحب كربلاء تداعب خيال الكثيرين من محبي آل بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ومازل بوسعها أن تسيل كثير من المداد على ما كان ، وبوسعي القول أنه لا يمكن إعتبارها - في نظر الشيعة على الأقل - حادثة موسمية أو طقساً سنوياً يجرى ممارسته بمناسبة مقدم شهر الله المحرم الحرام ، إذ شكلت هذه الحادثة ولا تزال حجر الزاوية أو نقطة إلتقاء أفئدة الشيعة بينما يسكبون عبراتهم الحارة ، وتختلج قلوبهم الملتاعة وهم يستذكرون بنزف مشبوب بالعاطفة مصارع جمع من كرائم القوم .

تلقفت يداي بعض من كتبي القديمة التي تحفل بها أرفف مكتبتي لمحاولة قراءة المشهد من جديد ، فكان أحدها للباحث والكاتب الكويتي الشيعي الجاد خليل علي حيدر والمعنون العمامة والصولجان ... المرجعية الشيعية في إيران والعراق ، ورغم أن هذا الكتاب لا يتناول حادثة كربلاء تحديداً موضوعاً له ، وإنما كان يتناول تحليل جيد عن أبرز الأفكار والأشخاص والتطورات المتعلقة بالإجتهاد والتقليد ومؤسسة المرجعية في العالم الشيعي الإثني عشري ، إلا أن الكتاب قد عرج بسرعة على موضوع تجديد النظر في شهادة الإمام الحسين ، ورأيت أنه قد يكون من المناسب أن أستعرض معكم بعض من فقرات هذا الموضوع .

فيذكر المؤلف أن حادثة إستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في العاشر من محرم عام ( 61 هـ 680 م ) في كربلاء ذات أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي ، كما كان عنصر الشهادة في هذه الحادثة ذا جاذبية شديدة لكل الحركات الشيعية التي تحدت النظام القائم ، وذا مركز خاص في الثقافة الشعبية الشيعية عموماً ، وشيعة إيران على وجه الخصوص حيث صارت حادثة كربلاء موضوع تمثيليات عزاء سنوية واسعة النطاق .

ومما تميز به تراث الشيعة الديني تمجيد فضائل البكاء على الحسين ، وقد جاء في الأحاديث المروية في الكتب الموثوقة لديهم مثلاً أن أحد العلماء رأي الإمام الحسين في ما يرى النائم قد ُشفي من كل الطعنات والجراح التي أصيب بها في كربلاء فسأله كيف ُشفيت من كل هذا الجراح بما يشبه المعجزة ؟ فقال الإمام بدموع المعزين فيً .

كما أن العديد من الكتب الشيعية التي تصف مأساة كربلاء تحمل عناوين من قبيل ( مفتاح البكاء ) ، ( طوفان البكاء ) ، ( مثير الأحزان ) ، ( اللهوف ) ، ( محيط البكاء ) ، ( محرق القلوب ) .

وكانت شخصية الحسين وشهادته موضع بحث وتمحيص في الأوساط السنية على مدى قرون طويلة ، فأبو بكر بن عربي (468 هـ - 543 هـ) في كتابه العواصم من القواصم يحاول جاهداً في تجريد ثورة الإمام الحسين من أي إعتبار ، ويرى أن يزيد بن معاوية كان رجلاً شريفاً زاهداً رغم الروايات التاريخية التي حاولت تشويه سمعته ، وأن الحسين قد ثار عليه خلافاً لنصائح صحابة بارزين كإبن عباس وإبن عمر وأخيه بن الحنفية ، وقد إندهش أبو بكر بن عربي كيف أن الحسين إستطاع أن يرجح أهواء أوباش الكوفة على رأي هؤلاء الأفاضل .

أما بن خلدون فيصرح بأن الثورة على يزيد كانت بسبب مساوئه ، ولذا فإن الحسين كان على حق عندما إعتبر أن الثورة على يزيد مسئولية من يملكون القدرة عليها ، لكنه يرى الإمام الحسين قد أخطأ عندما خلط بين أحقيته وإستطاعته ، ومنذ أوائل القرن العشرين ومع حركة التجديد التي إقترنت بإسم جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده تعرض الكثير من المسلمات في تاريخ الإسلام لإعادة النظر بما في ذلك معنى ثورة الحسين .

ويرى د. حميد عنايت الأستاذ السابق للعلوم السياسية في جامعة طهران أن أول كاتب سني في العصر الحديث واجه التفسيرات التقليدية لثورة الإمام الحسين كان الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني(1889م - 1949م) ، فقد كتب المازني في مقال نشره في مجلة الرسالة في إبريل سنة 1936 أنه عندما إستمع لأول مرة في منزل أحد الإيرانيين إلى الروضة أو ( العزيـة ) كما ُتسمى في العراق ودول الخليج فكر في أن ُيمعن النظر ويبحث في أهداف الحسين في ثورته ضد يزيد ، وكان كل ما قرأه في هذا المجال لا يتجاوز مقالاً في مجلة إنجليزية ذكرت أن الحسين بادر بهذا العمل عمداً وقصداً ، وكان يعلم تماماً أنه مهزوم في النهاية ، ويتساءل المازني لماذا ينبغي على الحسين أن يضحي بحياته في سبيل عمل لا طائل من ورائه كهذا ؟ وأهم من هذا لماذا إصطحب أفراد أسرته الأبرياء في مثل هذا السفر شديد الخطر ؟ والأجوبة التي يقدمها المازني ترسم للحسين صورة مؤثرة ويقول أن الإمام يعلم من البداية أن الأوضاع ضده تماماً لكنه لما كان يعتبر حكومة بني أمية فاسدة بلا أخلاق أدرك كثوري شريف أنه ينبغي عليه أن يقدم ما يملكه على طبق من الإخلاص ويجاهد للقضاء على هذه الحكومة الفاسدة ، ومن هنا صارت كل قطرة من دمه وحرف من إسمه وهاتف من ذكراه لغماً في أساس الدولة الأموية .

وبعد المازني أدلى المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد بدلوه فكتب الحسين أبو الشهداء الذي عارض فيه أراء بن خلدون وبرر حتى قرار الحسين بإصطحاب أفراد أسرته إلى كربلاء ، فيذكر أنه كان طبقاً لعادة منذ القدم وحتى قبل الإسلام في بلاد العرب حيث كان المقاتلون يصطحبون أهليهم وذريتهم إلى ميدان القتال كشاهد على عزمهم الشجاع في تحمل الشدائد ، وخلص العقاد إلى أن مصرع الحسين كان ذا أثر مباشر على مصير الدولة الأموية ، وكان الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها .

ُيتبع

2009/12/10

غداً .. يوم ولدت فيه


إذا كنت من صنف العقلاء ، وكنت على الرغم من كونك كذلك أحد هؤلاء الذين يحتـفلون ويحتـفون بأعياد ميلادهم فإنك ربما لم تدرك بعد أن العد العكسي - لوصول رحلتك الحياتية على الأرض إلى نهايتها - قد إقترب أكثر فأكثر ، وأن السهم الذي هو مصيبك لا محالة قد إنطلق من قوسه بالفعل لتبدأ على أثر ذلك حفلة جديدة ستكون ضيفها ، وستتابين بالتأكيد أشكال الإحتفاء بمقدمك بالنظر إلى ما حصلت في رحلتك السابقة .

وبالتالي فإن إقتصارك فقط في يوم مولدك على مجرد مطالعة وجهك في المرآة متأملاً الأثر المترتب على إنفراط حبة من حبات عمرك لن يكون بفكرة سديدة على الإطلاق ، وإذا قلت في دخيلة نفسك بظرفك المعهود ( أهاه لم يتغير الكثير أو لم يتغير شىء على الإطلاق ) فعليك عندئذ أن ينتابك القلق فتعيد تبعاً لذلك رسم خارطة جديدة لما عساه أن يكون قادماً من أيامك .

في الحقيقة ُتصنف المراحل السنية عادة ( شباباً وكهولة وشيخوخة ) بالنظر إلى مقدار العمر الذي بلغت ، فكونك فتىً يافعاً أو شاباً فهذا يعني أنك لم تبلغ الثلاثين بعد ، فإن كنت بلغت هذا العمر ولكن دون الأربعين بت كهلا ً ، فإن بلغت الأربعين فما فوق صرت شيخاً ، ولما كنت أنا من أصحاب الصنف الثالث على سلم تصنيف الأعمار المشار إليه فإنني وبطريق الحتم واللزوم أصبحت شيخاً شئت أم أبيت وبالتالي فإن الحناء اليمنية الداكنة التي أخضب بها شعري مع بناتي من حين لآخر لن تغير من حقيقة الأمر شيء إلا ربما في نظر أمهن فحسب التي تراني أصغر من عمري قليلا ً ، وإزاء هذه المجاملة أو المماحكة - لا يهم - والتي ُأتبعها غالباً بإبتسامة واثق الخطى الذي يمشي ملكاً ، فإني في زهوي المصطنع هذا لا تغيب عن ذهني أبداً فكرة قرب محطة الوصول ومراسم الإستقبال .

يقولون في العقود وتحليل نصوصها القانونية أن العبرة فيها دوماً للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ، وبالتالي فإنه وبإسقاط هذه النظرية القانونية على واقع الحال ، فإنه لا يعني بلوغك إحدى المراحل العمرية الثلاث أنك أصبحت بالفعل جديراً بها أو مستأهلاً للقبها وإن تسميت بإسمها ، فمثلاً كثير هم الشيوخ الذين لم يشبوا عن الطوق بعد ومازالوا يسبحون في أمواج ما كان ، لا في ما هو كائن بالفعل ، تتقاذفهم ذكريات الصبا والشباب ، ويرسمون إبتسامات - باهتة أحياناً - وهم يستحضرون عنفواناً قد أفلت شمسه إلى غير رجعة ، وتراهم أحياناً يخوضون - فيما بين بعضهم البعض - في أحاديث السمر الخافتة التي لا تخلو بالطبع من التعريج على عينة من النقاشات التي لا يخوض فيها غالباً سوى الصبية المراهقين وحديثي البلوغ .

فعليك دائماً أن تعيش الحياة وفقاً لمقتضى العمر أو المرحلة التي تحياها ، فلا تأت بغير المأمول أو المنتظر منك فتسقط مهابتك في عيون الآخريين وتكون مرؤتك على المحك ، وعلى كل حال فإنه قد يكون من الأجدى لك - في يوم ميلادك – أن لا تمارس فيه عبثك المعتاد فتعتقد أن له من الخصوصية ما ليس غيره ، فلا الشمس ستتعامد على وجهك كما رمسيس الثاني ، ولن تمطر السماء إيذاناً ببدء موسم الخصب والنماء ، فما هو إلا يوم سيمر كما مر أقراناً له اللهم إلا الجلبة التي ستحدثها في هذا اليوم وأنت تتفحص هدايا أولادك لك والتي إشتروها بالمناسبة من حر مالك .

2009/12/06

شركاء النجاح

لوحة فنية محنطة على جدار رسمتها يد إنسان ، إنصهرت فيها الألوان ، وتداخلت فيها الأشكال ، مررت عليها متأملاً فقلت بعد هنيهة في دخيلة نفسي يا للروعة ، يا للفنان ، كم كان إنفعاله جميلاً ، أتراها تجربة نفسية أم نتاج وقت أسرف فيه الرسام ؟ مر على اللوحة غيري فرأى فيها أحدهم على ممشى الزهور وحيداً متأملاً سقوط الأمطار ، قال في نفسه يا لعزلة الإنسان ، ومر عليها ثالث غير آبه ولا منتبه ثم إلتفت صارخاً لا .. لا .. ستكون رائعة في غرفة الإستقبال ، ذهب الثلاثة لشراء اللوحة وتملكتهم الرغبة في إقتنائها ، ولكنها لن تكون إلا لواحداً فحسب ، إحتكموا جميعاً إلى الفنان فسأل كل واحد منهم على حدة عن دافعه للشراء :-

الأول : مزج الألوان الرائع وتدرج زرقة السماء وتناغمها مع السحب البيضاء .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثاني : رأيتك في اللوحة سائر منفرداً تنازعتك أسباب العزلة فأويت إلى هناك لعلك تجد الرفيق .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثالث : لم أر فيها شيئاً مما قاله صاحباي ، ولكني وجدت فيها ما يمكن أن يلفت نظر الضيوف والخلان .
الفنان : لا لا ليست لك .

ثم أردف قائلاً .. لقد عالجت اللوحة ما إعتلج في نفسي وأنا أتقدم في العمر ، فكان الممشى هو خط حياتي ، وعن يميني وروداً وأزهار مثلت ربيع شبابي ، وعن يساري أشجار غير مورقة ولا مزهرة مثلت خريف عمري والقادم من أيامي ، فوقفت في الطريق متسائلاً إلى أيهما أنا أقرب ؟ .
***

وهكذا تتعاظم قيمة الأشياء في نفوسنا ، وتكبر المعاني في عيوننا ، وتغدو لها قيمة ملموسة بمعزل تام أحياناً عن صانع الشيء ومبدع المعنى ، فالأشياء إنما تكتسب قيمتها بالمشاهدة والتجربة ، والمعاني كذلك يلمع بريقها بتمريرها على النفوس والأرواح ذات الأحاسيس المرهفة ، وبالتالي فإن أي عمل ولو كان ذا قيمة لا يخضع لميزان البحث والتجريب وإختبار النتائج لجدير بأن ُيلقى في زوايا النسيان ، وأن أي معنىً ولو كان عميق في نبله فلن ُيأبه له ما لم ٌيرصد وقعه على النفوس التي خوطبت به .

إن كل القيم الفردية الهامة في الحياة التي أفرزتها قرائح المبدعين إنما إستمدت ينعها وثمرها من خلال تلقي الناس لها بالقبول وشهادتهم لها بالتفرد والرفعة الأمر الذي يجعل من الناس قديماً وحديثاً تبعاً لذلك شركاء في النجاح لهذا المبدع أو ذاك ، فالناس وليس غيرهم هم من يكتب شهادة ميلاد الفكرة أو النظرية ، وهم وليس غيرهم كذلك من يجز هذا الصنف من العلم أو ذاك ، فهم إبتداءاً مصدر الإلهام والحقول الحقيقية للتجارب الإنسانية التي صاغتها أقلام وريش المبدعين .

فما ما كان لنا مثلاً أن نسمع عن ولي أو شيخ طريقة بدون مريد أو محب ، وما كان لبيت من الشعر أن يجوب الأفاق بدون ُمردد له أو شارحاً لبواطن معانيه أو مستشهداً به ، وما كان لبذرة طيبة أن تعيش ولا أن تأخذ طريقها إلى أفواه الناس ثمرة ً لولا أن هناك مزارعاً مجداً سهر على سقيها وتعدها بالرعاية ، وما كان لوليد لا صنعة له سوى البكاء أن يشب عن الطوق لولا أم رؤوم أو أب شفوق ، فالناس هم مبدأ النجاح وإنتهاؤه ، ولا يعني هذا الكلام بطبيعة الحال إغفال دور المبدعين أنفسهم فهم أصحاب السبق دوماً وذوي اللفتات الفكرية الخلاقة ، فبهم ُتطهى التجارب وُتصاغ المشاعر الإنسانية .

إن لوحة فنية واحدة عبثت بخيال نفر من الناس وهم يحاولون كشف أسرار جمالها ، إلى الحد الذي ربما لم يجل بخاطر الفنان ، كما أن خاطرة عابرة لأحدهم ، أو قطعة نثر مبتسرة لأخر تخضع للتأويل والتحليل إلى القدر الذي يجاوز أحياناً حدود المعقول ، ويجاوز ربما ما عناه أي منهما ، ذلك أننا إنما نرى الشئ بأعيننا نحن وليس بعين صاحبه ، ونتتبع أثره في نفوسنا نحن لا كما وقع في نفس صاحبه ، ونقسه بزوايانا نحن لا كما أراده صاحبه .

ولكن لا بأس من ذلك أيضاً فمجموع هذه الأراء وإن تباينت من شأنها إثراء العمل ورفع قيمته طالما كان هناك أسباب أو مبررات جدية لإبدائها ، وإزاء هذه الحالة النفسية الطريفة أحياناً ننتج أنا وأنت كم لا بأس به من تنظيرات رائعة ورؤىً رقيقة من روافدنا وبنات أفكارنا فنضيفها بسذاجة أو بخفة إلى رصيد وخيال الكاتب أو الفنان ، فيعلوا - من حيث لا ندري - شأنه ونزيد من وتيرة بيع كتبه أو لوحاته دون أن نطلب بالطبع أن نقاسمه أرباحه على الرغم من كوننا بشكل أو بآخر شركاء نجاحه .

2009/11/30

مواطن صباي


أياً كان العمر الذي بلغت ، وأيا كان الشأن الذي حصلت فإنك بلا شك قد يممت وجهك خلف سنين عمرك المنقضي وطالعت - من خلال خبرتك المتراكمة - تلك السنين العزيزة التي شهدت لهوك البريء ، ولا ريب أيضاً في أنك وعبر تلك الإطلالة قد إشتقت أو منيت النفس لو تعود بك الأيام إلى سوالف عهدها حيث ترتسم في ناظريك تلك الأيقونات الطفولية التي كانت تحيط بك بدءاً من البيت مروراً بالمدرسة وإنتهاءاً بالشوارع والحارات والأزقة التي شهدت صولاتك وصيحاتك بل وصخبك أيضاً ، والمرء غالباً إنما يتطلع إلى هذه الحقبة ليس فراراً بالضرورة من واقعه المزركش بكل صنوف التعقيدات والمعاناة الحياتية ، وإنما ربما يفعل ذلك إحياءاً أو إستنهاضاً للبذور الفطرية الطيبة التي تحفل بها نفسه لعله يجابه بها - أو ما تبقى منها - صروف الدهر ، ووجدت أن خير سبيل لذلك - أو ربما هذا ما كان متاح لدي - هو إعادة إستنساخ وقتي لهذه المرحلة بالمرور والتجوال على مواطن صبايً .

في آخر زياراتي لمنزل العائلة بإحدى المدن الساحلية وفي الطريق إلى هناك تأزم الموقف قليلاً فألتبس عليً العنوان وظل قائد السيارة يدور هنا وهناك بحثاً عن البيت ، حتى أنني طلبت مساعدة بعض المارة ، يا لها من بداية !! ومن خلال شرفة بالطابق الثالث بدأت جولة بصرية فتطلعت إلى الأجواء المحيطة بي عبر منظار طوله أربعة عقود ونصف ، وعلى الكبر النسبي لهذا المنظار طولاً وعرضاً وعمقاً بدت لي المشاهد مختلفة ، فالشوارع أضيق ، والبنايات أكثر قرباً وإلتصاقاً ، وبدا لي أيضاً أن أشكال الناس ذواتهم تغيرت وكأن تركيبة جديدة قد أخذت طريقها إلى خارطتهم الجينية فأصحبوا على غير ذات الهيئة التي ألفتهم عليها قديماً ، حتى ملاعب الصبا بالساحة المقابلة لمنزلنا خلتها أصغر مما كانت ، وتفقدت الشرفات المقابلة والمجاورة فإذا هي كئيبة قياساً على ليلة صيف كانت إستثنائية النسمات ، وسألت نفسي عن الذي حل بالأشياء ، أيمكن أن يكون العمق مسطحاً أو أن يستحيل البعيد قريبا ؟ تفقدت منزلنا من الداخل ، أفكان هو ذات المكان الذي شهد المولد والنشأة ؟ ما لي أرى الأسقف منخفضة وحجرة نوم أخوتي باتت أضيق من ذي قبل ؟ .

تركت التجوال البصري ، ورأيت أن أجول على قدمي حول المكان ، تفرست في كل الأشياء كما السياح ، وكان الموقف في حاجة إلى كاميرا لتوثيق أبعاد التغير الحادث ، كنت أتعثر في البداية على الطريق وكأنني أمشي على ألواح من الثلج ، أهذا هو إرتفاع الأرصفة غالباً ؟ أكان المسجد أبعد بعض الشئ ؟ أهاه ...فها هو محل المصور ، وهاهي أم عبده على طاولة بيع الجرائد لم تغيرها السنون الطوال سوى تجاعيد الكفاح المرسومة بعمق وبشرف على وجهها ، كما أن نظارتها الطبية صارت أكثر سماكة ، راقبتها عن بعد ، كانت في إغفاءة المكدود من عناء سفرها الطويل ، تمنيت لو حادثتها ، إحترمت غفوتها ولهوت في تجوالي ، وبعد شراء بعض الحاجيات تنبهت صاحبتنا أخيراً ورأيت بجوارها طفل صغير ربما كان أحد أحفادها ، بينما إنكمهت هي في تقطيع أوصال برتقالة له ، تقدمت إليها وطلبت جريدة الأهرام الصباحية التي ما إنقطعت عن شراءها منها زمناً بعيداً ، وددت أني لو ذكرتها بنفسي فتسألني عن حالي ، ولكني في هكذا مواقف لا أحسن التصرف غالباً ، كنت أسير وعيناي معلقة بالأعلى ، وحاولت إشتمام رائحة الصبا فلم أفلح .

بإنقضاء أيام زيارتي لمواطن الصبا إنتبهت ... فالحقيقة كل الحقيقة أن شيئاً ما لم يتغير ... فما ضاقت الشوارع ولا قربت البنايات ، ولا تغيرت صفحات الوجوه ، وإنما ما تغير حقاً هو تلك النفس التي أشقتها الجفوة ، جفوة المكان وجفوة الزمان ، فعندما تأنس النفس بالغربة أو التغرب تغدو الأشياء مختلفة ، وتختلط فيها كل أنواع القياسات ، فيلتبس عليها الأمر فلا تكاد تفرق حتى بين الأضداد ، وتبدو المسلمات عصية على الفهم أحياناً ، فإذا إنتبهت النفس ولو قليلاً من غربتها وحاولت أن تستوطن المكان والزمان من جديد فحينئذ قد تتمكن من إستظهار زرقة مياه البحر بدلاً من رماديته التي تبدت لها ، وعندها قد تستعيد النفس عذريتها المفقودة ، وتوقن أن القياسات والأحجام والأشكال لم تزل على عهدها ولم تتغير إلا في عيون متغرب أو مغترب فقد حاسة الشم .

2009/11/23

مصر والجزائر ... لم ينجح أحد !!

تلبس القوم في الجزائر فحملوا عصا موسى لتأديب فرعون من جديد ، وحالوا إستنبات تفسير عصري لآية إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ، فهب المصريون صارخين ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ، وإذا مات منا سيدُُ ُ قام سيدُ .

في الحقيقة أن شخص ما في القاهرة كان يمسك بطرف الخيط ، وشخص آخر في العاصمة الجزائر كان يمسك بالطرف الآخر ، وعلى طول الخيط المشدود كان يتأرجح الجميع ، وحبس الناس أنفاسهم من أن يقوم أحد الطرفين بإفلات الخيط من يده فيهوي المتأرجحون إلى هاوية من المجهول واللا معقول .. هذا إنطباع أولي رسخ بمخيلتي وأنا أتابع مجريات الأحداث التي تلت مبارة الكراهية التي جمعت بين المنتخبين المصري والجزائري يوم الثامن عشر من نوفمبر الجاري بالسودان في التصفيات المؤهلة لبطولة كأس العالم 2010 والتي كسب الفريق الجزائري بطاقة التأهل لها بينما خسرها نظيره المصري ، وبإنقضاء المباراة تم تدشين أحد أكثر فصول الحمق بين بلدين عربيين على خلفية ما قيل أنها إعتداءات طالت الجمهور المصري الذي كان حاضراً للمبارة من قبل الجمهور الجزائري ، فنصبت على عجل خيام عصرية لسوق عكاظ رسم الشعراء فيها صور قاتمة وباكية وإستحثوا الهمم الجائعة والنفوس النهمة فتنادى القوم فيما بينهم أن أصبروا وصابروا ورابطوا ، إن هذا لشئ ُيراد ، وبات البلدان في قلب الإعصار ، وقرع المتعصبون طبول الحرب في إنتظار إشارة لبدء موسم طويل من الأحزان .


وفي خضم الموسم الشاتي أيقظ الجميع التاريخ من سباته وقلبوا صفحاته العتيقة وأعادوا محاولة قراءة سطوره من جديد لعل في ثنايا السطور ما يعين على حرب المن والمعايرة فتطايرت إلى الأسماع أيقونات متحفية من عينة دولة المرابطين وحرب التحرير الجزائرية ، وهواري بومدين ، وجميلة بوحريد ، وجمال عبد الناصر ، حتى وردة الجزائرية لم تكن غائبة عن المشهد .

أما على الصعيد الشخصي وبصراحة فقد رسبت في إمتحان الثبات والقدرات ، فبعد المباراة وعلى طريقة الكبار في لعبة التنس أطحت بجهاز الريموت كنترول بضربة Back Hand رائعة خرجت على أثرها أحشائه جميعاً في لقطة أظهرت كم جينات الغوغائية التي أتمتع بها ، وبدا لي الأمر بعد ذلك وكأنه في حاجة إلى تبرير أمام إبني الذي كان يشاهد المبارة معي فألقيت عليه سؤال على طريقة مدرسي اللغة العربية ذوي النظارات الطبية السميكة مسائلاً إياه :-
- ضع علامة () أو علامة (×) أمام العبارة التالية :

لست حزيناً لهزيمة المنتخب المصري ، ولكن ما يحزنني حقاً هو أن تصعد الجزائر .
فأجابني إبني بسرعة ملفتة ... أضع علامة ()
قلت في نفسي .. نعم .. نعم .. فها هو غوغائي آخر في الطريق .

2009/11/03

لزوم ما لا يلزم .. أحياناً



لعله من قبيل الترف أو الضرورة أحياناً الإهتمام ومتابعة التفاصيل الحياتية لأناس أو بلدان أو جماعات لم يخطر على بال أحدنا قط أن تكون واحدة ضمن سلم أولوياته أو إهتماماته ، وإن كان الأمر ترفاً أو ضرورة أو حتى عبثاً فالثابت أن هذا يحدث أحياناً ، وإلا فما هي جدوى الإهتمام مثلاً بأمور حياتية بل ومحلية صرفة تحدث في بقعة من بقاع العالم لا تربطك بها عادة صلة من أي نوع اللهم إلا هذه الرباط النفسي العميق الذي يشدك شداً للتواصل إنسانياً ولو من بعيد مع مواطن بسيط ، أو مزارع مجد أو جماعة مكافحة هنا وهناك .

حقاً ربما لن يضيرك كثيراً أمر بقايا الهنود الحمر في نطاق كفاح من تبقى منهم للمحافظة على هويتهم الثقافية من الإندثار ، وربما لن تلتفت كثيراً إلى قبائل الطوارق في الصحراء المغاربية في إطار جهودها لتوفير سبل العيش في حده الأدنى ، وقد لا تشغلك أبداً معضلة ندرة المياه وقلة الأمطار والجفاف والتصحر التي تصيب بعض البلدان الأفريقية ، ويجوز أن الأرق لم يعرف طريقه إليك بعدما علمت
أن شخصاً واحداً من بين كل ستة أشخاص في العالم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ، ومن المحتمل أيضاً أنه لم يهتز لك جفن وأنت تشاهد جموع المشردين أو المنكوبين لا يجدون ما يدرأ عنهم الغوائل سوى التنقيب عن لقمة في أكوام النفايات والمبيت في أكواخ من صفيح .

حقاً قد لا تنشغل بأي من هذه القضايا مفضلاً أو مضطراً - كيفما أتفق - إلى الإنكباب على قضاياك الضيقة والشخصية وستجد بالتأكيد كثير من التبريرات إزاء موقفك هذا ، وعليه فإنه سيكون من الإجحاف مثلاً أن نطلب من المواطن العراقي البسيط الذي يعاين صباح مساء مشاهد حية من حمامات الدم اللا منتهية أن يولي قدر من إهتمامه بأمر مواطن فقير يسكن على أطراف إحدى الغابات الأفريقية ، وسيكون ربما من المستفز تماماً أن تحث مواطناً عربياً يقع فريسة المرض أوالفقر أو إنتهاك أبسط حقوقه الأساسية على أن يبدى تعاطفاً ما مع مزارع بسيط بحقول الأرز بفيتنام .

كل هذا صحيح ومن الممكن تفهمه ، ولكن ما أود قوله أن الهموم الإنسانية غالباً ما تتشابه وُتذرف بشأنها ذات الدموع وتعتمل بداخلنا إزاءها نفس المشاعر تقريباً ، وصحيح أيضاً أن المواطنين البسطاء في أقاصي المعمورة قد لا يعلمون بأمر إهتمامك بأي منهم ولا بمبلغ تبنيك أو تفاعلك مع أي من قضاياهم المعيشية والعملية أو حتى بقدر تعاطفك معهم على أقل تقدير ، إنما الأهم أنك وبوصفك إنساناً تكون قد لبيت بذاك الإهتمام أو التعاطف أو حتى بتلك المشاركة الوجدانية البسيطة الحدود الدنيا لإنسانيتك ورويت ظمأ نفسك التواقة دوماً للتواصل ولو عن بعد مع أقران لك على الضفة الأخرى من النهر .

وإذا كان الرباط الروحي للمنتسبين إلى جماعة دينية أو مذهبية معينة أمر في غاية الإهتمام بالنسبة لهم لإتصاله الوثيق والمباشر بالمعتقد الواحد الذي يجمعهم والإله الواحد الذي يتوجهون إليه بالصلاة والدعاء والرسول الواحد الذي يعملون على إقتفاء أثره وهديه بما يبرر لهم ربما قصر جهودهم المتعلقة بالتأييد والمساندة على أفراد هذه الجماعة أو تلك الفرقة التي ينتمون إليها دون غيرها ، فإن هذا الرباط الروحي رغم أهميته الظاهرة بل والمنطقية ينبغي أن لا يكون معناه التقوقع أو الإنصراف والإلتفات كلية عن ما يحدث في الأطراف الأخرى من العالم قل شأنها أم عظم أمرها ، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال أن ُتصرف ذهنك وكلياتك إلى الإهتمام بقضايا كتلك التي يهتم بها بعض الظرفاء منا كموضوع المكونات الخاصة بالسيجار الكوبي الفاخر ، أو نوعية الطعام الذي ُيقدم مثلاً لكلب ملكة بريطانيا ، أو نوع ورق التواليت المعطر الذي يستخدمه الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي بحمامه .

2009/10/25

شباب القلوب

شباب على طول


لئن تغمد سكيناً في خاصرة إمرأة لهو أهون عليها من أن تسألها عن عمرها ... هذه فكرة نمطية ربما تعبر عن تحسس النساء كثيراً إزاء خوض أحدهم أو إحداهن في أمر أعمارهن التي يجب حسب رأيهن أن تظل منطمرة ومكنونة لإتصالها الوثيق بدواعي أمنها الأنثوي الذي يجب أن يظل إستراتيجياً وغامضاً أحياناً ، وهذا إتجاه أرى أنه لا غبار عليه على أية حال لا لشيء إلا من باب وجوب إحترام رغباتهن وخصوصياتهن ، وإلى هنا فالأمر يبدو عادياً ولكن أن يتحول الأمر إلى هوس المبالغة في الإخفاء والتستر والمداراة ، فعندئذ يبدو الأمر وكأنه سير في إتجاه عكسي لعقارب الساعة ، ولا أظن أن عاقلة شرعت أو فكرت بجدية في مقارعة الزمن إلا من باب المماحكات الخفيفة التي غالباً ما يتسامح فيها الرجال الذين يتندرون على الأمر بالقول بأن المرأة غالباً ما ُتنقص من عمرها عشرين عاماً وتضيف نصفها إلى عمر أعز صديقاتها .

في لقاء عمل سريع مع إحدى الفتيات تشعب بنا الحديث إلى دراستها الجامعية والقسم الذي تخصصت فيه ، وسألتها - بطيبة حسبتها ملفتة -عن تاريخ تخرجها فأبت أن تجيبني بعدما إمتقع وجهها قليلاً ، ولما رأت علامات التعجب والدهشة تعلو محياي أردفت قائلة أن معرفتي بتاريخ تخرجها سيقودني بالتأكيد إلى الوصول بشكل تقريبي لتاريخ ميلادها وهو ما لا تريده . والحقيقة أنني وإن كنت تجنبت سؤالها بشكل مباشر عن حقيقة عمرها فإنها قد فطنت لهذه الحيلة الساذجة ، وعندها أيقنت أني أوقعت نفسي في مأزق حرج ما كان لي أن أتورط فيه ، وتذكرت على الفور أن أحد الصحفيين المصريين منذ زمن كاد أن يكون مستقبله الصحفي على المحك أثر نشره مقالة تطرق فيها إلى الإفصاح عن عمر الفنانة فاتن حمامة بعدما ذكر أن تاريخ ميلادها يعود إلى عام 1929 على ما أذكر ، وهو أمر أثار ضجة في حينها لا تثيره عادة سوى التسريبات المتعلقة بالأمن القومي للبلاد .

كل هذا مفهوم أو من الممكن تفهمه على أقل تقدير ، ولكن أن يكون هذا الهوس المتعلق بإخفاء حقيقة العمر مستشرياً إلى نفوس الرجال إستشرائه في نفوس النساء لأمر جدير بأن يكون مدعاة للإستغراب، ذلك أن تقدم أعمار الرجال إنما ُيصنف نمطياً كذلك على أنه مؤشر على مدى إكتمال عناصر النضوج والرجولة لديهم والمقترن كذلك بمدى أهليتهم لتحمل المسئوليات المناطة بهم والملقاة على عواتقهم ، وكلنا معشر الرجال نحب هذا التصنيف عموماً ، ذلك أن إنقضاء عام تلو عام إنما هو رصيد حياتي إضافي وخبرة تراكمية يصب كل منهما في الخانة الإيجابية لمسارات حياتنا ، وعليه فإن الرجال الذي فشى فيهم هذا الإستشراء العجيب لن يكونون بمنأى عن المتطفلين ولن تفلح رابطات عنقهم بألوانها المزركشة الزاهية ولا قمصانهم الملونة ولا صبغات شعرهم الداكنة في إخفاء واقع ما كان يجدر بهم أن يخجلوا منه .

ولعل من نافلة القول الإشارة إلى سذاجة المهووسين من الصنفين ( رجالاً ونساءاً ) الذين يؤلمهم للغاية تغير الرقم في خانة أعمارهم عاماً من بعد عام بوصفه الرقم الذي يقربهم رويداً رويداً من الأمتار الأخيرة لمضمار حياتهم ، ولو فطن هؤلاء وأولئك إلى مغزى القدوم على الله ما هالهم أمر ذاك العمر كبر أو نقص فنحن كما يقول أحد الفلاسفة إنما نقترب من الموت ساعة أن نولد .

2009/10/17

بسلامته مترجم

إذا أردت أن تحصل على تأييد ومساندة الفرنسيين فليس كافياً أن تكون مجيداً للغة الفرنسية ، بل يلزم أيضاً أن تنطق الإنجليزية بلكنة فرنسية ، بهذه الجملة المعبرة والمرحة خاطب د./ بطرس بطرس غالي أحد الدبلوماسيين الأفارقة والذي بدا وكأنه أحد منافسي الدبلوماسي المصري العتيد على منصب الأمين العام للأمم المتحدة ، أورد ذلك د./ غالي نفسه في كتابه القيم "خمس سنوات في بيت من زجاج" وهو يتناول فترة توليه المنصب الدولي الأرفع في العالم وما أحاط بها من أحداث ، وما بين سطور هذه العبارة يتبين أن حصول المرء منا على تأييد أو مساندة أو تعاطف ما لا يتأتى في الحقيقة لمجرد إلمامه بلغة من ينشد تأييده ومساندته وتعاطفه ، وإنما الأمر بتعلق في حقيقته بحالة نفسية عميقة تتمثل في أن تعيش هذه اللغة حقاً بكافة أمزجتها حتى وأنت تتحدث بلغة أخرى ، فهكذا هم - على خلافنا - يحبون لغتهم ويدللونها .

ذكرني الأمر على حال بالأيام الخوالي ، فعلى الرغم أنني من الناطقين باللغة العربية والمعتزين بها أيما إعتزاز ، فإني أحمل وداً عميقاً للإنجليزية ، ووداً مشبوباً بالدفء للفرنسية ، ويعود الأمر في حقيقته إلى سنوات الإطلاع الأولى حيث كانت الكتب والروايات الأدبية العالمية أقرأها مترجمة إلى العربية من باب العجز عن قراءتها بلغتها الأم ، ويبدو أن حبي للإنجليزية أثناء الدراسة ونيلي علامات جيدة بها قد دفعني بإهتمام إلى التفكير في قراءة الكتب بلغتها الأصلية وهو تفكير محمود إذا كان المرء يملك من الإمكانات ما يؤهله للقيام بذلك ، فالفضول الإيجابي والنوايا الطيبة لا يكفيان بذاتهما لجعل أحدناً مترجماً ذواقاً أو قارئاً محنكاً ، وفي لحظة طيش جامح من لحظات ذاك السن إنتويت إمتطاء جواد الحمق على عجل في رحلة بائسة لا لقراءة كتاب بالإنجليزية فحسب وإنما لترجمته كذلك إلى اللغة العربية ، ولما كان هوسي بالتاريخ بلا حدود فقد قمت بشراء كتاب باللغة الإنجليزية كان يتناول عصور الإمبراطوريات الصينية لا سيما عصر أسرة منشو.
وكما لم أحب فإن هذه الترجمة باءت بالفشل المدوي بعد الإنتهاء من ترجمة الصفحة الثانية من كتاب يتجاوز الثلاثمائة من القطع المتوسط ، نحيت الأمر جانباً بشكل مؤقت حتى ينمو لدي الغراس اللازم لهكذا مغامرات ، فما لم يكن للمرء حس لغوي آخاذ للغته الأصلية ومثيله للغة التي يترجم منها فإن جهوده ستراوح مكانها، ولكن مع ذلك ظل الإهتمام بالإنجليزية يداعبني ، ورويداً رويداً وبتدافع عجلات الزمن إلى الإمام نبت الحد الأدنى للغراس اللازم ولكن قمت بتوجيهه هذه المرة إلى أولادي للعمل على الإلمام الكامل والدقيق للإنجليزية وأن ييمموا شطر وجوههم لما يجاوز مناهجم الدراسية الكئيبة التي تصيبهم بالبلاهة ، ويبدو أنني قطعت في شأن ذلك شوطاً لا بأس به ، أما عن اللغة الفرنسية فقد كانت في مرحلة ما لغة أهل الصفوة والثقافة والصالونات الأدبية في عصور ما يسمى بالتنوير فما زالت تحتفظ بدفئها داخلي وأتمنى أن أقطع بشأنها ما قطعته في الإنجليزية ، إذ إقتصر الأمر فرنسياً على المعلومات التي ظلت محفوظة قي تلك الذاكرة المنهكة من أيام الدراسة الثانوية والجامعية .
وياليت القائمين على أمور التعليم في بلادنا يولون قدر من إهتمامهم للغات الأجنبية فقد أضحى مستوى طلابنا والجامعيين من جملتهم في وضع مزرٍ ومخجل ، ويكفيك أن تطالع أحدهم وهو يتحدث بلغة أجنبية كالإنجليزية مثلاً لتقف بنفسك علة مقدار الإهانة التي تلحق بهذه اللغة جراء التهتهات والتلعثمات اللا منتهية ، هذا بالطبع إذا قمنا بإستثناء دول المغرب العربي المجيدون بشدة للغة الفرنسية والتي طبعت ملامح الحياة هناك وإن كان ذلك على حساب لغتم الأم التي يبدو أن ستأخذ طريقها لتكون هي اللغة الثانية للأسف .
إن الإهتمام باللغات الأجنبية أمر ضروري للغاية لنتمكن من العيش بإيجابية في هذا العالم الذي تم تقسيمه آلياً إلى قسيمن كبيرين ، قسم التجارة الدولية والأعمال والحاسوب وتمثله الإنجليزية بإمتياز ، وقسم للدبلوماسية والثقافة وتمثله الفرنسية بإمتياز أيضاً ، إن نظرة عابرة على الإحصائيات المتعلقة بحركة الترجمة العالمية ستظهر لك بلا مواربة أن مجموع ما ترجمته الدول العربية مجتمعة من كتب أجنبية في عقود طويلة لا يقارب مثلاً ما ترجمته اسبانياً في عام واحد وذلك إنما يعود في المقام الأول إلى عدم تشجيع مترجمينا وتقديرهم أدبياً ومادياً بالشكل اللازم واللائق بهم الأمر الذي يؤدي إلى إنصرافهم عن الإهتمام بهكذا أمور ذلك أن الترجمة إنما يجب أن ُتجند لها مؤسسات متخصصة ذات إمكانات مالية كافية والأهم أن يكون لدى القائمين عليها إيماناً بأهمية الترجمة بوصفها مقربة لسبل وأسباب التواصل الإنساني بين جميع الأمم ويبدو أن هذا الإيمان لن يجد طريقه قريباً إلى عقول وقلوب القائمين على شئون الثقافة في بلادنا .
أما عن اللغة العربية التي هي أكثر ثراءاً وقدرة أكبر على التعبيرفحدث ولا حرج فقد ُأدخلت بفعل فاعل إلى القاعات العتيقة لمجامعها ولم تخرج بعد ، وحلت محلها أو كادت تلك المصطلحات والأيقونات العصرية التي تسيل على الألسنة بلا خجل ، وباتت مجامع اللغة العربية في أفضل الأحوال تصب جل إهتمامها على مجرد تعريب الكلمات الأجنبية التي أخذت طريقها إلى الألسنة مع منحها تعريباً مسخاً ومضحكاً كالتي التي تروي عن تعريب كلمة sandwich والتي ُعربت فأصبحت " شاطر ومشطور وبينهما كامخ " .

2009/10/11

مهلاً يا صاحب الفضيلة

أزمة تتلـوها أزمة 1/3


تزايدت ردود الفعل على عدة مستويات في اليومين الماضيين على خلفية قيام فضيلة الإمام الأكبر الشيخ / محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر بزجر طالبة صغيرة لإرتدائها النقاب بمعهدها الدراسي الأزهري ، ويبدو أن ردود الأفعال المناوئة قد مست عصباً ملتهباً لدى صاحب الفضيلة فجمع فضيلته على عجل المجلس الأعلى للأزهر بالأمس وإستصدر قراراً بمنع المنتقبات من الطالبات حتى من الدخول إلى المدينة الجامعية التابعة لجامعة الأزهر والمخصصة لإسكانهن وإيوائهن ، وبذلك فإن فضيلته آثر إتخاذ منحىً تصعيدياً جديداً وحاداً مع أولئك الذين خالفوه الرأي ولم يلفوا لفه وقام بتوسيع فجوة التوتر التي لا يهنأ له عيش فيما يبدو إلا في قعرها .

فمن لهؤلاء الطالبات المغتربات وما ذنبهن وهن في مقتبل عامهن الدراسي الجديد وقد وجدن أنفسهن بلا مأوى وُسدت أبواب المدينة الجامعية في وجوههن ؟ كيف يتسنى لهن مباشرة دراستهن بلا مأوى ولا سكن ؟ ومن أين لهن بتكلفة السكن الخاص ؟ ولما ُيخيرن ذلك الخيار الصعب المرير .. إما نقابك .. وإما المدينة الجامعية ؟ وعلى حد علمي فإن المدينة الجامعية التابعة لجامعة الأزهر ليست من ضمن أملاك صاحب الفضيلة الخاصة ولا أورثها له والديه رحمهما الله ليتصرف يشأنها تصرف المالك لما يملك ، وإنما هو مأذون في إدارتها ورعاية شئونها بما ينعكس إيجاباً على الدارسين والخريجين خدمة وصوناً لدين الله والتي ما ُأنشئت مؤسسة الأزهر من أساسها ولا ُأبتدعت له مشيخة إلا رعاية لهذه الغاية وتحقيقاً لهذا الهدف النبيل ، ومن المعلوم أن الإصرار على هكذا قرار سيزيد من مرارة الخلاف وسيحدث قدراً من اللغط والشحناء وسيكون الأزهر وشيخه الخاسران الأكبران من ورائهما ، وإذا كان قرار منع المنتقبات من دخول المدينة الجامعية كان بداعي المحافظة عليهن وصونهن فمن المعلوم أن تكلفة رحلة واحدة لشيخ الأزهر خارج البلاد إلى حيث المدن والبلدات الإسلامية المترامية الأطراف كرحلته الأخيرة إلى طشقند لكفيلة بتوظيف مشرفات وموظفات مختصات يكون عملهن هو التأكد من شخصية كل منتقبة تلتحق بالمدينة الجامعية كلما غدت أو راحت فيتحقق مراد الأمن المنشود لتلك الطالبات المنتقبات دون أن نضيق عليهن أو نوقعهن في حرج خلع النقاب الذي يمثل لهن فضيلة يتقربن بها إلى الله ، ومن المعلوم شرعاً أن الضرورة إنما ُتقدر بقدرها ، وأن الأمر إذا ضاق إتسع يعني أنه إذا ظهرت مشقة في أمر ُيرخص فيه ويوسع بالتدابير الشرعية والعملية طالما كانت ممكنة .. نقول لك ذلك يا صاحب الفضيلة لتعلم أن عوام المسلمين كخواصهم يفهمون في الدين كذلك هم واللي خلفوهم أيضاً .

وفي سياق متصل ومساء الأمس السبت الموافق 10/10/2009 طل علينا فضيلته بطلعة غير طيبة ولا بهية في برنامج العاشرة مساءاً بقناة دريم الفضائية في حضرة مقدمته السيدة / منى الشاذلي في محاولة منه لتجميل ما لا ُيجمل فإذا به يزيد الطين بلة وبدا عصبياً متوتراً حاداً وهو يجيب عن أسئلة مقدمة البرنامج والتي بالمناسبة لم تكن لا منتقبة ولا مختمرة ولا محجبة ولا يوجد حتى غطاء بسيط على رأسها يعانق شعرها المتهدل بإنسيابية أخاذة على كتفيها بل على العكس تماماً كانت في حلة ناعمة كاملة الأنوثة وهي في حضرة صاحب الفضيلة والذي بدا وكأنه أنه لم يجد في أي من ذلك غضاضة ولا حرجاً بل واصل حديثه معها دون أن يحول ناظريه عنها وهو المأمور بغض البصر شأنه في ذلك شأن عموم المسلمين ، والحقيقة فإن مشكلته ليست مع هؤلاء وأمثالهن وإنما مع ذلك الصنف الفاضل المبالغ في التعفف والتستر ، وأخيراً أقول لك يا صاحب الفضيلة مهلاً .. مهلاً فعند الله ستجتمع الخصوم ، فإلزم غرزك وأعد ليوم لقاء الله عدتك


أزمة تتلـوها أزمة 2/3


أزمة تتلـوها أزمة 3/3

2009/10/07

شيخ الأزهر ... الشيخ الأزمة


في الحقيقة إن الحديث عن أرباب المناصب الدينية الرفيعة والرتب الروحية يتطلب قدراً عالياً من اللياقة لدى طرح أي من القضايا التي ترتبط بأصحاب هذه المناصب والرتب وذلك بالنظر إلى طبيعة هذا المنصب أو تلك الرتبة لإتصالهما معاً بقدسية الدين أو المذهب الذي يمثله كل منهم وهذا أمر بديهي مستقر ، ذلك أن لكل مقام مقال ، كما أن إنزال الناس منازلهم التي يستحقونها لهو أمر جدير بالإعتبار ، بيد أنني وللأسف لا أجد فضيلة الإمام الأكبر الشيخ / محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر ممن تنطبق عليهم هذه القاعدة بل وأراه إستثناءاً صارخاً لها وذلك لدأبه الحثيث على البقاء في دائرة ومحور الأزمات الإعلامية والمجتمعية بتصرفاته وتصريحاته المثيرة للجدل حتى أنه ليخيل لي أن فضيلته ما عاد يألف مباشرة مهام منصبه الرفيع دون إفتعال أزمة هنا وأخرى هناك .

وما واقعة نهره لإحدى التلميذات بأحد المعاهد الأزهرية الإعدادية لإرتدائها النقاب إلا حلقة جديدة وليست أخيرة من فصوله الباردة بل أن فضيلته إعتزم إصدار قرار رسمي بمنع ارتداء النقاب داخل المعاهد الأزهرية ومنع دخول أي طالبة أو مربية المعهد مرتدية إياه ، وإني والله ليبلغ بي العجب مبلغه ، فما الذي يضير فضيلته في إرتداء طفلة أو صبية أو سيدة لنقابها ؟ لماذا يضع نفسه كحجر عثرة في دروب المتقربات إلى الله ؟ فإرتداء النقاب على إختلاف الأراء الفقهية فيه ما بين أنه واجب أو مستحب وأنه عادة أكثر منها عبادة فإنما شأنه يعود في المقام الأول لمن ترتديه وكان حرياً به وهو الشيخ المتولي لسدة أرفع المناصب لمؤسسة دينية في العالم الإسلامي أن ينأى بنفسه عن هكذا منزلق وأن ينحاز إلى اللائي يردن العفاف وصون الأعراض وأن يكرس وقته للعمل على ترسيخ مبادىء الدين الحنيف في نفوس أتباعه ، ولكنه الهوس الذي يستشري في أوصال الشيخ ليظل في خصومة فكرية أو قطيعة مع من يخالفونه الرأي ولا يذهبون مذهبه حتى من بين العلماء والنظراء والأنداد له.

وبدا لي أن الشيخ ربما يحفل كثيراً وهو يرى كثير من المداد ينسال تعليقاً على أرائه ، وأرى أن مشيخة الأزهر أكبر كثيراً من أن يملأها هذا الشيخ الذي بات وبإمتياز مستحقاً للقب الشيخ الأزمة التي أدعوا الله أن تجد طريقها إلى الحل قريباً ، أما عن قوله للطالبة المسكينة أنه يفهم في الدين أكثر منها ومن اللي خلفوها ، فبدا لي الأمر وكأنه في حاجة إلى دليل عليه ذلك أن الدين الذي يتحدث عنه فضيلته إنما يحث أتباعه على التحلي بمكارم الأخلاق والمجادلة ليس بالحسن فقط وإنما بالتي هي أحسن ، إن أقل ما يجب فعله من ذاك الشيخ أن يقدم إعتذاراً علنياً للطالبة المنكوبة بلقاءه وفي ذات الفصل الدراسي الذي نهرها فيه مع إعتذار آخر علني للي خلفوها ، وعندها .. وعندها فقط قد نقول له هكذا تورد الأبل يا فضيلة الشيخ .

صوت يعظ

لعل المصريون يبتهجون كثيراً بعبارة لا أعرف مصدرها ومفادها أن القرآن الكريم إذا كان نزل بمكة المكرمة ، وُطبع في تركيا ، فإنه لم ُيقرأ إلا في مصر ، أي أن قراءة القرآن الكريم ترتيلاً وتجويداً لا تجد لها مثيلاً من الإبداع والإتقان ومهارة الأداء سوى لدى القراء المصريين على إختلاف مدارسهم في القراءة ، وهذه العبارة وإن كانت تقرر أمراً واقعاً تفردت به مصر منذ حقب طويلة فإنها لا ينبغي على حال أن تتجاهل مراتب القراء الرفيعة في دول العالم الإسلامي الأخرى ، فالكل مأجور إن شاء الله ، وإن كانت المدرسة المصرية في القراءة – لاسيما القديمة منها - تظل لها الريادة والسبق في هذا المضمار الطيب .
فهاهم القراء المصريين يجوبون العالم إحياءاً للمناسبات الدينية وتتلقفهم جموع المستمعين بشوق كبير وترحاب بالغ فليس أجل من إمرىء يحمل بين جنباته القرآن يتلوه حق تلاوته مصطحباً المنصتين له في رحلة شائقة ومحلقاً بهم في أجواء تصويرية ومشاهد تكاد تلامس الواقع بذاك الصوت العذب المتدرج ما بين طبقاته الشجية والفرحة بإختلاف المعنى الذي تعالجه الآيات الكريمات .
ولابد أنك عزيزي القارىء قد قلبت مؤشر مذياعك دونما كلل أو ملل وأنت تبحث بحثاً حثيثاً عن ذاك الصنف من القراء الذين تستعذب صوتهم ولا تمل صحبتهم ولابد كذلك أنك قد تفاعلت يوماً ما مع شيخك المحبب لنفسك وهو يردد كلام العلي القدير لاسيما إن كان لديك تلك الأذن التي تضبط مواضع الكلمات وقفاً وإبتداءاً وتتقن مخارج الألفاظ وما يتركه وقعها من أثر حبيب على النفس .
والحقيقة أني قد وجدت ضالتي بين كثير من هؤلاء القراء الأفاضل ومن بينهم صاحب البضاعة النفيسة والعرض المبهر الشيخ / مصطفى إسماعيل "رحمه الله" الذي يمثل أحد الأعمدة العتيقة في صرح المدرسة القرآنية بمصر والعالمين العربي والإسلامي فالشيخ ذو الأسلوب الماهر حاذق التلاوة بهي الأداء قد دأب على الأخذ بمجامع عقول وقلوب المستمعين مستعرضاً بهم الآيات القرآنية مبيناً مفسراً لمعانيها وبمجرد التلاوة فقط مستخدماً في ذلك المقامات المختلفة التي تناسب الجو النفسي والبعد الروحاني للآيات فكبرت هامته في نفوس المحبين وصار له تلاميذ كثر يسيرون على ذات دربه ، ولا يكاد يمر يوم إلا وأشنف أذاني بمقاطع من تسجيلات الشيخ "رحمه الله " وتلامذته النجباء الأوفياء لطريقته فتمتلىء النفس بهجة حيناً وعظة أحياناً ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد إستعذب جمال صوت قارىء القرآن وتغنيه به فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه لما سمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويتغنى به قال له ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) ، فرحمة الله على الشيخ الكبير ولا حرمنا صحبة صوته الأثير

فاتحة الكتاب بصوت الشيخ
رحمه الله

مقطع من سورة التحريم

2009/02/09

حذاء معولم


كل ما كنت أعلمه عن الحذاء أنه ذلك الشيء الذي أنتعله في قدماي كلما رحت أو غدوت والذي تتعدد أشكاله وألوانه وقياساته بتدافع الأيام ومرور السنين ، وهو ذاك الذي أوليه عناية خاصة من حيث الأناقة والنظافة والتناسق مع ألوان الجوارب حتى أن سعره في كثير من الأحيان كان يجاوز قيمة ما أرتديه من ملابس ، حتى صحوت على حقيقة غيرت - أو كادت - من مفهومي عن الحذاء .

ففي سياق في عدم إلتفاته لدعاوى الغوغاء والمناوئين كان الشاعر يقول لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالاً بدينار ، دلالة على أنك إن دأبت على رجم مناوئيك أو معانديك أو من يختلفون معك في الرأي بحجر لأصبح هذا الحجر من كثرة الطلب عليه وتكرار إستعماله مثمناً بالمال ويعلو سعره ، ويبدو أن هذا البيت البليغ من الشعر أصبح مرشح للتغيير والقفز خطوات واسعة إلى الإمام بتغير مفهوم رجم المعاندين إنتقالاً من مرحلة الحجر إلى مرحلة الحذاء .

فبعد واقعة الصحفي العراقي منتصر الزيدي الذي رمي بحذائه في وجه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش إستيقظ العالم على لون جديد ومبتكر في وسائل التعبير عن الرأي وكان العرب كدأبهم – وبلا فخر وإن شئت بلا خجل – مصدر الإلهام لهذا اللون من الفكر ، وكان من الغريب بل ومن الطريف أحياناً أن تُنظم المظاهرات هنا وهناك تأييداً لمسلك الصحفي العراقي ومساندة له ، ولم يغب عن مشهد المظاهرات بطبيعة الحال مجسماً لحذائه وقد ُرفع فوق الأعناق وُرسم على البيارق والأعلام ، بل أن من الناس من إعتبر هذا الواقعة بمثابة الفتح الجديد لأمتنا الناهضة بعد طول خمول وأن بها من الرجال ممن يقدرون على مقارعة المعتدي والمحتل حتى بحذائه ، وها هو أحد رجال أعمالنا من أبدى الإستعداد لشراء هذا الحذاء بملايين الدولارات ولو أنفق المسكين عشرها لإطعام الجوعى لكان خيراً له ، ثم ما لبث أن إمتلئت الشبكة العنكبوتية بالتعليقات المرحة والنكات المرة حول هذه الواقعة .

في الحقيقة تطلب الأمر مني بعض الوقت لمحاولة الفهم .. فلما الحذاء بالذات ؟ وبدأت التنقيب المشبوب بظرف يعتريني إزاء هكذا حوادث ، فقد ورد بمعجم مختار الصحاح في مادة ( حذا ) حَذا النعل بالنعل أي قدّر كل واحدة منهما على صاحبتها وحَذَاهُ قعد بحذائه ، وبابهما عدا ، والحِذاءُ النعل ، واحْتَذى انتعل ، والحِذاءُ أيضا ما وطئ عليه البعير من خفه ، والفرس من حافره وحِذاء الشيء إزاؤه ، يقال جلس بحذائه ، وحاذَاهُ أي صار بحذائه ، واحْتَذَى مثاله اقتدى به .

وفي الثقافة الشعبية العربية يعد التلويح بالحذاء في وجه المتخاصمين والفرقاء تلويحاً بأخس أنواع الأسلحة وأحقرها وكأن من يرفع الحذاء إنما يقول لخصمه أو عدوه إنك حتى لا تستحق أكثر من حذائي لأنازلك به .

وطالما أن الشيء بالشيء ًيذكر فقد حدث أن تبادلت أطراف الحديث مع صديق لي فيما يخص علاقة عمل جمعته وأحد الدبلوماسيين رفيعي المستوي في بلد أجنبي وبدأ هذا الصديق يشرح لي كيف أن هذا الدبلوماسي به من صفات الكبر والتجبر ما الله به عليم ، وبدأ صديقي يعدد مثالب الرجل ويعرج على عناوين تفاهته ثم إختتم حديثه بالتأكيد لي بأنني لو عرفت هذا الرجل عن قرب فلن أخلعه من قدمي ، ثم إختتم بمرح قائلاً ( مع الإعتذار بطبيعة الحال لحذائك ) دلالة على أن حذائي ربما سيكون أكثر قيمة من ذاك الدبلوماسي .

كما تطلب الأمر الحديث مع إحداهن ذات مرة لأصل إلى الأهمية المتعاظمة للحذاء في الوجدان العربي حيث قالت لي في معرض حديثها أنها في نطاق الحكم على ما تقابلهم من رجال بحكم عملها فإن أول ما يلفت نظرها في الشخص لا هندامه الخارجي ولا رابطة عنقه بل ولا حتى عطره ، إنما حذائه .. أخذتني المفاجأة قليلاً .. إذن فللحذاء أهمية إجتماعية ولا أقول ثقافية تزيد عن كونه أداة لرجم الآخريين أو إهانتهم .

ولن أستغرب أبداً - بعد واقعة الزيدي - لو أصبح الحذاء رمزاً للعلم الوطني لدولة من الدول ، أو إذا اقدم أحد المهووسين بالحاسوب إلى جعله أيقونة أنيقة أو خليفة لأحد أزرار الأوامر الخاصة بحذف الملفات أو إتلافها .

على أية حال فقد صار حذاء الزيدي رمز العولمة الجديدة وآن للعرب أن يفاخروا أن منتجهم الجديد وفنهم المستحدث أصبح على قوائم الطلب حتى في الدول الغربية الديمقراطية ، فها هو معارض صيني يلقي بحذائه في إتجاه رئيس وزارء الصين أثناء إلقائه لمحاضرة بجامعة كمبريدج ، وها هو السفير الإسرائيلي بالسويد يتلقى حذاء من المعارضين لأحداث غزة ، وأخيراً فإن أحد أعضاء مجلس الشعب المصري يلوح بحذائه في وجه أحد زملائه بالمجلس .

وبالنسبة لي فإنني لا أناقش هنا مسلك الزيدي ودوافعه وإن كنت أتفهمه فإني أراني في الوقت نفسه لا أؤيد هكذا تصرفات ولا أعتبرها مثاراً للسخرية أو التندر ، لأنني إذا إنتهجت سياسة الرجم بالحذاء فأخشى ما أخشاه أن لا أجد ضمن خزانة أحذيتي ما يكفي لرجم من يستحقون ذلك .

2009/02/02

دموع فيدرر


إذا بكى الأطفال فهذا دأبهم ، وإذا بكت المرآة فتلك طبيعتها ، أما إذا بكى الرجل فذاك عنوان ضعفه ، هذه هي الفكرة النمطية المترسخة في وجداننا كشرقيين حول البكاء ، ولا أرى سبباً وجيهاً لوصم أحدنا بالضعف لمجرد إجهاشه بالبكاء ، فالبكاء مسلكاً إنسانياً رائعاً ومظهراً شاعرياً لا يوصف ، ولا أدري لما على الرجل أن يترفع فوق أحزانه ويتجاوز المكنون من مشاعره ؟ ولما عليه دائماً وحده أن يقف كجبل أشم أو أصم لا تنال منه رياح التغير وتقلبات الزمان ؟ فكثيراً ما كانت تدمع عين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) في مناسبات متعددة ، وكان نبي الله يعقوب كثير ما يذرف الدمع حزناً على فقد إبنه يوسف عليه السلام حتى قال الله تعالي في محكم التنزيل واصفاً حاله { وإبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } دلالة على كثرة بكاءه .

تذكرت هذه الخواطر وغيرها بينما كنت أتابع المبارة النهائية على لقب بطولة إستراليا المفتوحة للتنس والتي جمعت بين المصنفين الأول والثاني الأسباني رافاييل نادال ، والسويسري روجير فيدرر والتي كانت الغلبة فيها للأول على حساب الثاني والذي لم يتمالك نفسه وهو يخاطب الجمهور بعد المباراة في كلمة مقتضبة إعتيادية في مثل هذا الأحوال ، فقد غالب فيدرر دموعه أكثر من مرة ، إلا أن نفسه لم تطاوعه فتعثرت كلماته وغلبته نفسه وتلآلآت الدموع في عيونه في مشهد رأيته مؤثراً نال تعاطف الجميع من الجماهير الحاضرة والمتابعين عبر التلفاز حول العالم ، وإذا كانت دموعه في النهاية معبرة عن عوالج نفسه لفقد لقب هام في مسيرته الرياضية الزاخرة ، فهي لم تنل لا من شخصه ولم تحط من رجولته بل ربما رفعت من قدره في أنظار المعجبين به وبقدراته الهائلة في فن رياضته ، فهو وإن خسر لقباً أمام غريمه التقليدي فإن قد حصد لقب صاحب أجمل دموع ، فالدموع إن صدقت تعد إحدى فنوننا البيضاء ورياضاتنا النبيلة ، فلا تتعجلون مسح دموعكم ، ولا تخجلـون أبداً من عنوان إنسانيتكم

دموع فيدرر

2009/01/11

موسم الهجرة إلى كراكاس

{ غلبت قطع تذاكر وتعبت ياربي هجرة }

قالها من قبل الشاعر الراحل بيرم التونسي بعد أن تقطعت به السبل وُنفي مرات عديدة ما بين مصر وفرنسا وتونس وغيرها وظل ردحاً من الوقت مبعداً مطارداً يدفع ثمن سخريته اللاذعة ورأيه الحر . وها نحن نعاود ترديدها لأسباب مختلفة فعندما تضيق بنا نفوسنا وتتقطع بنا المسافات فلا بأس من الهجرة والسياحة ولو عبر الزمن . وستقف بنفسك عزيزي القارىء على أنك لم تكن الوحيد المهاجر ، ولا الفريد المرتحل ، فهناك الكثير- لو دققت النظر- ممن يحلق حولك حيث قد قدموا من أجواء متقلبة ، وطقساً ليس أفضل حالاً ، فإختلسوا من أوقاتهم سويعات قاصدين الهجرة حيث لا حدود ولا قيود وعلى جناحين قوامهما الوهم والأمل إنطلقوا متجاوزين الفيافي وعابرين البحار مهاجرين إلى ذواتهم ، وإن شئت فإن ذواتهم هي التي تهاجر إليهم ، فهجرتهم إذن لها ما يبررها وعناء الرحلة محتمل .. إلي أين إذن ؟ إلى فنزويلاً .... نيابة عني وعنك قالها هوجو شافيز رئيسها ، كأنه يحرك فينا الموات الطويل ، فلا هو منا ولا نحن منه ، ولكن أخوته لنا إنسانياً دفعته لقولها ، دفعته لطرد سفير إسرائيل من بلده إحتجاجاً على هولوكست غزة ، لم أسمع أن فنزويلياً واحداً قضى أو أصيب هناك ، لم أر أن إمدادات النفط الفنزويلية تأثرث بهذه الأحداث ، وعلى حد علمي فإن شافيز لا يجيد العربية ، ولكنه قالها ونحن بكل لغتنا وبحور شعرنا عجزنا ، فلم تسعفنا معلقاتنا ولا وقوافينا ، إذن فلا بأس من الهجرة ولو مؤقتاً إلى فينيسيا الصغيرة .. إلى فنزويلاً.. إلى العاصمة كراكاس فما زالت شمس الحرية والثورة تسطع في سماءها رغم غزارة الأمطار.. مرحا مرحا شافيز .. لقد أرقت يا رجل من حيث لا تحتسب ماء وجوهنا وأسقطت ورقة التوت المهترئة التي كنا نظن أنها تغطي سوءاتنا ، فيا سيدي الرئيس أتيتك معتذراً .. فلقد فرضوا الحراسة على مساجدنا وشاركوا في قتل عنترة بن شداد بدم بارد ، ياسيدي لقد أصبح حليب نياقنا خمراً ، وخيامنا لم تعد خيامنا ، لقد صادروا ديوان المتنبي وألغوا من حصصنا قصائد الحماسة ، وتجلطت الدماء جبنـاً في عروقنا أم تراه أضحى ماءا ؟ يا سيدي أتراك تعلم أن عشب التحرر تكاسل عـن النمو في أرضنا ؟ فأي حبوب تبذر أنت وأي نتـاج تحصد وأي فن نبيل تمارس ؟

2009/01/05

غزة .. لحن كربلائي


إن التاريخ في دورانه المسرع لم يكن ليتوقف إلا عند محطات فارقة ، وعلامات مضيئة ، وهو بهذه المثابة يتجاوز المحطات الخاملة أو تلك الباهتة كونها لا تستحق الوقوف متابعة أو مشاهدة أو توثيقاً ، وبوسعك إن شئت أن تقلب دونما ملل صفحاته قديمها وحديثها وستقف بنفسك بالتأكيد على أنه في جزء كبير منه قد أولى إهتمامه لأولئك الصنف من الناس الذين أبوا إلا أن يحيون بكرامة ويموتون بعزة ، فعاشوا وماتوا وما ماتت ذكراهم ولا خبت المعاني النبيلة التي أورثونا إياها ، فهؤلاء لا يقبلون العيش تحت ظلال من المهانة ، وضربوا للخاملين من الناس أروع الأمثال في كيفية التضحية وبذل النفس والمال والولد ، فتراهم لا يتدثرون بعباءة باغٍ ولا عادٍ ، تجري الحرية في عروقهم مجرى الدم ، فهي وقود حياتهم ، ومبعث أرواحهم ، يتعرقون نبلاً ويزفرون حكمة .

من هؤلاء بل في مقدمتهم من تحل ذكرى إستشهاده يوم العاشر من محرم الحرام الإمام أبي عبد الله الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي جابه بصدر عارٍ وعزيمة لا تلين ذلك الإصطفاف الطويل لأقوام رضوا أن يكونوا وقوداً للطغيان ، فبهم إستعرت المظالم وعلى كواهلهم إنتصبت قامات البغي ، فخلدوا أسمائهم كأسوأ ما يكون الذكر ، فإستحقوا مذمة الرائح والغاد ، لا أدري لماذا تذكرت الآن هذه الشخصية الفريدة ، هل لأننا في شهر الله المحرم ؟ لا .. بل أن ذكراه وغيره من كرام النفس تأوي إلى مخيلاتنا كلما مر بأمتنا ملمة من الملمات كتلك التي تدور رحاها في غزة الآن ، فهاهي صور الأيتام والثكالى والأيامى تفت فؤاد من كان قلبه ُقد حتى من حجر .. وهاهي مشاهد الدماء الزكية تتشكل جداول وعيون ممضية العزم سيراً إلى تربة جديدة ونبتة جديدة تينع في سماء الفداء .. بالتأكيد لا توجد مقارنة ما بين مشهدي كربلاء وغزة ، فالبون بينهما واسع ، والعمق جد بعيد ولكنها ربمــا الذكريات...نعم ... ذكـريات تتداعى متشحة بقتـامة المشهد وفجيعـة الخذلان .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة