كل ما كنت أعلمه عن الحذاء أنه ذلك الشيء الذي أنتعله في قدماي كلما رحت أو غدوت والذي تتعدد أشكاله وألوانه وقياساته بتدافع الأيام ومرور السنين ، وهو ذاك الذي أوليه عناية خاصة من حيث الأناقة والنظافة والتناسق مع ألوان الجوارب حتى أن سعره في كثير من الأحيان كان يجاوز قيمة ما أرتديه من ملابس ، حتى صحوت على حقيقة غيرت - أو كادت - من مفهومي عن الحذاء .
ففي سياق في عدم إلتفاته لدعاوى الغوغاء والمناوئين كان الشاعر يقول لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالاً بدينار ، دلالة على أنك إن دأبت على رجم مناوئيك أو معانديك أو من يختلفون معك في الرأي بحجر لأصبح هذا الحجر من كثرة الطلب عليه وتكرار إستعماله مثمناً بالمال ويعلو سعره ، ويبدو أن هذا البيت البليغ من الشعر أصبح مرشح للتغيير والقفز خطوات واسعة إلى الإمام بتغير مفهوم رجم المعاندين إنتقالاً من مرحلة الحجر إلى مرحلة الحذاء .
فبعد واقعة الصحفي العراقي منتصر الزيدي الذي رمي بحذائه في وجه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش إستيقظ العالم على لون جديد ومبتكر في وسائل التعبير عن الرأي وكان العرب كدأبهم – وبلا فخر وإن شئت بلا خجل – مصدر الإلهام لهذا اللون من الفكر ، وكان من الغريب بل ومن الطريف أحياناً أن تُنظم المظاهرات هنا وهناك تأييداً لمسلك الصحفي العراقي ومساندة له ، ولم يغب عن مشهد المظاهرات بطبيعة الحال مجسماً لحذائه وقد ُرفع فوق الأعناق وُرسم على البيارق والأعلام ، بل أن من الناس من إعتبر هذا الواقعة بمثابة الفتح الجديد لأمتنا الناهضة بعد طول خمول وأن بها من الرجال ممن يقدرون على مقارعة المعتدي والمحتل حتى بحذائه ، وها هو أحد رجال أعمالنا من أبدى الإستعداد لشراء هذا الحذاء بملايين الدولارات ولو أنفق المسكين عشرها لإطعام الجوعى لكان خيراً له ، ثم ما لبث أن إمتلئت الشبكة العنكبوتية بالتعليقات المرحة والنكات المرة حول هذه الواقعة .
في الحقيقة تطلب الأمر مني بعض الوقت لمحاولة الفهم .. فلما الحذاء بالذات ؟ وبدأت التنقيب المشبوب بظرف يعتريني إزاء هكذا حوادث ، فقد ورد بمعجم مختار الصحاح في مادة ( حذا ) حَذا النعل بالنعل أي قدّر كل واحدة منهما على صاحبتها وحَذَاهُ قعد بحذائه ، وبابهما عدا ، والحِذاءُ النعل ، واحْتَذى انتعل ، والحِذاءُ أيضا ما وطئ عليه البعير من خفه ، والفرس من حافره وحِذاء الشيء إزاؤه ، يقال جلس بحذائه ، وحاذَاهُ أي صار بحذائه ، واحْتَذَى مثاله اقتدى به .
وفي الثقافة الشعبية العربية يعد التلويح بالحذاء في وجه المتخاصمين والفرقاء تلويحاً بأخس أنواع الأسلحة وأحقرها وكأن من يرفع الحذاء إنما يقول لخصمه أو عدوه إنك حتى لا تستحق أكثر من حذائي لأنازلك به .
وطالما أن الشيء بالشيء ًيذكر فقد حدث أن تبادلت أطراف الحديث مع صديق لي فيما يخص علاقة عمل جمعته وأحد الدبلوماسيين رفيعي المستوي في بلد أجنبي وبدأ هذا الصديق يشرح لي كيف أن هذا الدبلوماسي به من صفات الكبر والتجبر ما الله به عليم ، وبدأ صديقي يعدد مثالب الرجل ويعرج على عناوين تفاهته ثم إختتم حديثه بالتأكيد لي بأنني لو عرفت هذا الرجل عن قرب فلن أخلعه من قدمي ، ثم إختتم بمرح قائلاً ( مع الإعتذار بطبيعة الحال لحذائك ) دلالة على أن حذائي ربما سيكون أكثر قيمة من ذاك الدبلوماسي .
كما تطلب الأمر الحديث مع إحداهن ذات مرة لأصل إلى الأهمية المتعاظمة للحذاء في الوجدان العربي حيث قالت لي في معرض حديثها أنها في نطاق الحكم على ما تقابلهم من رجال بحكم عملها فإن أول ما يلفت نظرها في الشخص لا هندامه الخارجي ولا رابطة عنقه بل ولا حتى عطره ، إنما حذائه .. أخذتني المفاجأة قليلاً .. إذن فللحذاء أهمية إجتماعية ولا أقول ثقافية تزيد عن كونه أداة لرجم الآخريين أو إهانتهم .
ولن أستغرب أبداً - بعد واقعة الزيدي - لو أصبح الحذاء رمزاً للعلم الوطني لدولة من الدول ، أو إذا اقدم أحد المهووسين بالحاسوب إلى جعله أيقونة أنيقة أو خليفة لأحد أزرار الأوامر الخاصة بحذف الملفات أو إتلافها .
على أية حال فقد صار حذاء الزيدي رمز العولمة الجديدة وآن للعرب أن يفاخروا أن منتجهم الجديد وفنهم المستحدث أصبح على قوائم الطلب حتى في الدول الغربية الديمقراطية ، فها هو معارض صيني يلقي بحذائه في إتجاه رئيس وزارء الصين أثناء إلقائه لمحاضرة بجامعة كمبريدج ، وها هو السفير الإسرائيلي بالسويد يتلقى حذاء من المعارضين لأحداث غزة ، وأخيراً فإن أحد أعضاء مجلس الشعب المصري يلوح بحذائه في وجه أحد زملائه بالمجلس .
وبالنسبة لي فإنني لا أناقش هنا مسلك الزيدي ودوافعه وإن كنت أتفهمه فإني أراني في الوقت نفسه لا أؤيد هكذا تصرفات ولا أعتبرها مثاراً للسخرية أو التندر ، لأنني إذا إنتهجت سياسة الرجم بالحذاء فأخشى ما أخشاه أن لا أجد ضمن خزانة أحذيتي ما يكفي لرجم من يستحقون ذلك .