2009/11/30

مواطن صباي


أياً كان العمر الذي بلغت ، وأيا كان الشأن الذي حصلت فإنك بلا شك قد يممت وجهك خلف سنين عمرك المنقضي وطالعت - من خلال خبرتك المتراكمة - تلك السنين العزيزة التي شهدت لهوك البريء ، ولا ريب أيضاً في أنك وعبر تلك الإطلالة قد إشتقت أو منيت النفس لو تعود بك الأيام إلى سوالف عهدها حيث ترتسم في ناظريك تلك الأيقونات الطفولية التي كانت تحيط بك بدءاً من البيت مروراً بالمدرسة وإنتهاءاً بالشوارع والحارات والأزقة التي شهدت صولاتك وصيحاتك بل وصخبك أيضاً ، والمرء غالباً إنما يتطلع إلى هذه الحقبة ليس فراراً بالضرورة من واقعه المزركش بكل صنوف التعقيدات والمعاناة الحياتية ، وإنما ربما يفعل ذلك إحياءاً أو إستنهاضاً للبذور الفطرية الطيبة التي تحفل بها نفسه لعله يجابه بها - أو ما تبقى منها - صروف الدهر ، ووجدت أن خير سبيل لذلك - أو ربما هذا ما كان متاح لدي - هو إعادة إستنساخ وقتي لهذه المرحلة بالمرور والتجوال على مواطن صبايً .

في آخر زياراتي لمنزل العائلة بإحدى المدن الساحلية وفي الطريق إلى هناك تأزم الموقف قليلاً فألتبس عليً العنوان وظل قائد السيارة يدور هنا وهناك بحثاً عن البيت ، حتى أنني طلبت مساعدة بعض المارة ، يا لها من بداية !! ومن خلال شرفة بالطابق الثالث بدأت جولة بصرية فتطلعت إلى الأجواء المحيطة بي عبر منظار طوله أربعة عقود ونصف ، وعلى الكبر النسبي لهذا المنظار طولاً وعرضاً وعمقاً بدت لي المشاهد مختلفة ، فالشوارع أضيق ، والبنايات أكثر قرباً وإلتصاقاً ، وبدا لي أيضاً أن أشكال الناس ذواتهم تغيرت وكأن تركيبة جديدة قد أخذت طريقها إلى خارطتهم الجينية فأصحبوا على غير ذات الهيئة التي ألفتهم عليها قديماً ، حتى ملاعب الصبا بالساحة المقابلة لمنزلنا خلتها أصغر مما كانت ، وتفقدت الشرفات المقابلة والمجاورة فإذا هي كئيبة قياساً على ليلة صيف كانت إستثنائية النسمات ، وسألت نفسي عن الذي حل بالأشياء ، أيمكن أن يكون العمق مسطحاً أو أن يستحيل البعيد قريبا ؟ تفقدت منزلنا من الداخل ، أفكان هو ذات المكان الذي شهد المولد والنشأة ؟ ما لي أرى الأسقف منخفضة وحجرة نوم أخوتي باتت أضيق من ذي قبل ؟ .

تركت التجوال البصري ، ورأيت أن أجول على قدمي حول المكان ، تفرست في كل الأشياء كما السياح ، وكان الموقف في حاجة إلى كاميرا لتوثيق أبعاد التغير الحادث ، كنت أتعثر في البداية على الطريق وكأنني أمشي على ألواح من الثلج ، أهذا هو إرتفاع الأرصفة غالباً ؟ أكان المسجد أبعد بعض الشئ ؟ أهاه ...فها هو محل المصور ، وهاهي أم عبده على طاولة بيع الجرائد لم تغيرها السنون الطوال سوى تجاعيد الكفاح المرسومة بعمق وبشرف على وجهها ، كما أن نظارتها الطبية صارت أكثر سماكة ، راقبتها عن بعد ، كانت في إغفاءة المكدود من عناء سفرها الطويل ، تمنيت لو حادثتها ، إحترمت غفوتها ولهوت في تجوالي ، وبعد شراء بعض الحاجيات تنبهت صاحبتنا أخيراً ورأيت بجوارها طفل صغير ربما كان أحد أحفادها ، بينما إنكمهت هي في تقطيع أوصال برتقالة له ، تقدمت إليها وطلبت جريدة الأهرام الصباحية التي ما إنقطعت عن شراءها منها زمناً بعيداً ، وددت أني لو ذكرتها بنفسي فتسألني عن حالي ، ولكني في هكذا مواقف لا أحسن التصرف غالباً ، كنت أسير وعيناي معلقة بالأعلى ، وحاولت إشتمام رائحة الصبا فلم أفلح .

بإنقضاء أيام زيارتي لمواطن الصبا إنتبهت ... فالحقيقة كل الحقيقة أن شيئاً ما لم يتغير ... فما ضاقت الشوارع ولا قربت البنايات ، ولا تغيرت صفحات الوجوه ، وإنما ما تغير حقاً هو تلك النفس التي أشقتها الجفوة ، جفوة المكان وجفوة الزمان ، فعندما تأنس النفس بالغربة أو التغرب تغدو الأشياء مختلفة ، وتختلط فيها كل أنواع القياسات ، فيلتبس عليها الأمر فلا تكاد تفرق حتى بين الأضداد ، وتبدو المسلمات عصية على الفهم أحياناً ، فإذا إنتبهت النفس ولو قليلاً من غربتها وحاولت أن تستوطن المكان والزمان من جديد فحينئذ قد تتمكن من إستظهار زرقة مياه البحر بدلاً من رماديته التي تبدت لها ، وعندها قد تستعيد النفس عذريتها المفقودة ، وتوقن أن القياسات والأحجام والأشكال لم تزل على عهدها ولم تتغير إلا في عيون متغرب أو مغترب فقد حاسة الشم .

2009/11/23

مصر والجزائر ... لم ينجح أحد !!

تلبس القوم في الجزائر فحملوا عصا موسى لتأديب فرعون من جديد ، وحالوا إستنبات تفسير عصري لآية إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ، فهب المصريون صارخين ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ، وإذا مات منا سيدُُ ُ قام سيدُ .

في الحقيقة أن شخص ما في القاهرة كان يمسك بطرف الخيط ، وشخص آخر في العاصمة الجزائر كان يمسك بالطرف الآخر ، وعلى طول الخيط المشدود كان يتأرجح الجميع ، وحبس الناس أنفاسهم من أن يقوم أحد الطرفين بإفلات الخيط من يده فيهوي المتأرجحون إلى هاوية من المجهول واللا معقول .. هذا إنطباع أولي رسخ بمخيلتي وأنا أتابع مجريات الأحداث التي تلت مبارة الكراهية التي جمعت بين المنتخبين المصري والجزائري يوم الثامن عشر من نوفمبر الجاري بالسودان في التصفيات المؤهلة لبطولة كأس العالم 2010 والتي كسب الفريق الجزائري بطاقة التأهل لها بينما خسرها نظيره المصري ، وبإنقضاء المباراة تم تدشين أحد أكثر فصول الحمق بين بلدين عربيين على خلفية ما قيل أنها إعتداءات طالت الجمهور المصري الذي كان حاضراً للمبارة من قبل الجمهور الجزائري ، فنصبت على عجل خيام عصرية لسوق عكاظ رسم الشعراء فيها صور قاتمة وباكية وإستحثوا الهمم الجائعة والنفوس النهمة فتنادى القوم فيما بينهم أن أصبروا وصابروا ورابطوا ، إن هذا لشئ ُيراد ، وبات البلدان في قلب الإعصار ، وقرع المتعصبون طبول الحرب في إنتظار إشارة لبدء موسم طويل من الأحزان .


وفي خضم الموسم الشاتي أيقظ الجميع التاريخ من سباته وقلبوا صفحاته العتيقة وأعادوا محاولة قراءة سطوره من جديد لعل في ثنايا السطور ما يعين على حرب المن والمعايرة فتطايرت إلى الأسماع أيقونات متحفية من عينة دولة المرابطين وحرب التحرير الجزائرية ، وهواري بومدين ، وجميلة بوحريد ، وجمال عبد الناصر ، حتى وردة الجزائرية لم تكن غائبة عن المشهد .

أما على الصعيد الشخصي وبصراحة فقد رسبت في إمتحان الثبات والقدرات ، فبعد المباراة وعلى طريقة الكبار في لعبة التنس أطحت بجهاز الريموت كنترول بضربة Back Hand رائعة خرجت على أثرها أحشائه جميعاً في لقطة أظهرت كم جينات الغوغائية التي أتمتع بها ، وبدا لي الأمر بعد ذلك وكأنه في حاجة إلى تبرير أمام إبني الذي كان يشاهد المبارة معي فألقيت عليه سؤال على طريقة مدرسي اللغة العربية ذوي النظارات الطبية السميكة مسائلاً إياه :-
- ضع علامة () أو علامة (×) أمام العبارة التالية :

لست حزيناً لهزيمة المنتخب المصري ، ولكن ما يحزنني حقاً هو أن تصعد الجزائر .
فأجابني إبني بسرعة ملفتة ... أضع علامة ()
قلت في نفسي .. نعم .. نعم .. فها هو غوغائي آخر في الطريق .

2009/11/03

لزوم ما لا يلزم .. أحياناً



لعله من قبيل الترف أو الضرورة أحياناً الإهتمام ومتابعة التفاصيل الحياتية لأناس أو بلدان أو جماعات لم يخطر على بال أحدنا قط أن تكون واحدة ضمن سلم أولوياته أو إهتماماته ، وإن كان الأمر ترفاً أو ضرورة أو حتى عبثاً فالثابت أن هذا يحدث أحياناً ، وإلا فما هي جدوى الإهتمام مثلاً بأمور حياتية بل ومحلية صرفة تحدث في بقعة من بقاع العالم لا تربطك بها عادة صلة من أي نوع اللهم إلا هذه الرباط النفسي العميق الذي يشدك شداً للتواصل إنسانياً ولو من بعيد مع مواطن بسيط ، أو مزارع مجد أو جماعة مكافحة هنا وهناك .

حقاً ربما لن يضيرك كثيراً أمر بقايا الهنود الحمر في نطاق كفاح من تبقى منهم للمحافظة على هويتهم الثقافية من الإندثار ، وربما لن تلتفت كثيراً إلى قبائل الطوارق في الصحراء المغاربية في إطار جهودها لتوفير سبل العيش في حده الأدنى ، وقد لا تشغلك أبداً معضلة ندرة المياه وقلة الأمطار والجفاف والتصحر التي تصيب بعض البلدان الأفريقية ، ويجوز أن الأرق لم يعرف طريقه إليك بعدما علمت
أن شخصاً واحداً من بين كل ستة أشخاص في العالم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ، ومن المحتمل أيضاً أنه لم يهتز لك جفن وأنت تشاهد جموع المشردين أو المنكوبين لا يجدون ما يدرأ عنهم الغوائل سوى التنقيب عن لقمة في أكوام النفايات والمبيت في أكواخ من صفيح .

حقاً قد لا تنشغل بأي من هذه القضايا مفضلاً أو مضطراً - كيفما أتفق - إلى الإنكباب على قضاياك الضيقة والشخصية وستجد بالتأكيد كثير من التبريرات إزاء موقفك هذا ، وعليه فإنه سيكون من الإجحاف مثلاً أن نطلب من المواطن العراقي البسيط الذي يعاين صباح مساء مشاهد حية من حمامات الدم اللا منتهية أن يولي قدر من إهتمامه بأمر مواطن فقير يسكن على أطراف إحدى الغابات الأفريقية ، وسيكون ربما من المستفز تماماً أن تحث مواطناً عربياً يقع فريسة المرض أوالفقر أو إنتهاك أبسط حقوقه الأساسية على أن يبدى تعاطفاً ما مع مزارع بسيط بحقول الأرز بفيتنام .

كل هذا صحيح ومن الممكن تفهمه ، ولكن ما أود قوله أن الهموم الإنسانية غالباً ما تتشابه وُتذرف بشأنها ذات الدموع وتعتمل بداخلنا إزاءها نفس المشاعر تقريباً ، وصحيح أيضاً أن المواطنين البسطاء في أقاصي المعمورة قد لا يعلمون بأمر إهتمامك بأي منهم ولا بمبلغ تبنيك أو تفاعلك مع أي من قضاياهم المعيشية والعملية أو حتى بقدر تعاطفك معهم على أقل تقدير ، إنما الأهم أنك وبوصفك إنساناً تكون قد لبيت بذاك الإهتمام أو التعاطف أو حتى بتلك المشاركة الوجدانية البسيطة الحدود الدنيا لإنسانيتك ورويت ظمأ نفسك التواقة دوماً للتواصل ولو عن بعد مع أقران لك على الضفة الأخرى من النهر .

وإذا كان الرباط الروحي للمنتسبين إلى جماعة دينية أو مذهبية معينة أمر في غاية الإهتمام بالنسبة لهم لإتصاله الوثيق والمباشر بالمعتقد الواحد الذي يجمعهم والإله الواحد الذي يتوجهون إليه بالصلاة والدعاء والرسول الواحد الذي يعملون على إقتفاء أثره وهديه بما يبرر لهم ربما قصر جهودهم المتعلقة بالتأييد والمساندة على أفراد هذه الجماعة أو تلك الفرقة التي ينتمون إليها دون غيرها ، فإن هذا الرباط الروحي رغم أهميته الظاهرة بل والمنطقية ينبغي أن لا يكون معناه التقوقع أو الإنصراف والإلتفات كلية عن ما يحدث في الأطراف الأخرى من العالم قل شأنها أم عظم أمرها ، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال أن ُتصرف ذهنك وكلياتك إلى الإهتمام بقضايا كتلك التي يهتم بها بعض الظرفاء منا كموضوع المكونات الخاصة بالسيجار الكوبي الفاخر ، أو نوعية الطعام الذي ُيقدم مثلاً لكلب ملكة بريطانيا ، أو نوع ورق التواليت المعطر الذي يستخدمه الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي بحمامه .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة