2009/12/26

3- الثوري الشريف


في خضم الأحداث الكبيرة والملمات العظيمة تتوه الحقائق أحياناً ، فحادثة إستشهاد الإمام الحسين بكربلاء والظروف السياسية التي سبقتها وواكبتها ما زالت تثير في نفوس المسلمين الشىء الكثير من التحليل والتنظير ، وهذا أمر قد يغدو طبيعياً بالنظر إلى شخص ومكانة الإمام في نفوس المسلمين عامة من ناحية ، وبالنظر كذلك إلى الأهداف النبيلة التي كان يتغياها بخروجه على السلطة التي كانت قائمة آنذاك من ناحية أخرى ، فهو وإن بذل نفسه وقدم بعض من آل بيته الأطهار على مذبح الطغيان فإن هذا لم يكن هدفاً في حد ذاته ولا يقول به عاقل ، وإنما كان الهدف هو كسر شوكة العابثين بدين الله والذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، والعودة بالدين إلى نبعه الصافي كما أرساه جده صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما دافع عنه أبيه رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع جمع من صحبه الكرام .

صحيح ووفق لرأي البعض أن الحادثة قد عجلت بأفول شمس دولة بني أمية ، إلا أن الثابت أن هذا لم يكن على الفور بل تراخى الأمر سنوات طويلة ، بل أنه وبعد مغيب هذه الدولة ، فإن العباسيين في شطر منهم لم يكونوا أفضل حالاً من سابقيهم ، وهذا حسب رأيي المتواضع يرجع إلى أن حادثة إستشهاد الإمام في ذاتها والتفاصيل الأليمة التي صاحبتها قد طغت على المعاني التي أراد أن يبعث بها سبط النبي الأكرم ، ولم تترجم هذه الرسائل في كثير من الأحيان إلى واقع عملي إلا في أحداث قليلة معدودة لا ترقى بحال إلى عمق الرسالة ولا نبل المضامين التي إحتوتها ، ولا فداحة ثمنها ، فما زالت رحى الطغيان تدور بلا كلل أو ملل ، ومازال البسطاء من الناس ينسحقون تحت عجلاتها بلا رأفة أو رحمة ، وما زال الدين يتلاعب به حفنة من الحمقى والجهلاء إلا من رحم الله .

ولكون المضمون قد أطيح به لحساب الشكل والصورة والمشهد فمازال فريق من الناس لا يرى في هذه الحادثة المروعة إلا سهم وسيف ودم ودمع ، وهذا لعمري خطأ فادح في قراءة ما بين السطور وإساءة إلى صاحب الرسالة ، ذلك إن إحياء ذكرى إستشهاد الإمام وغيره ممن سبقه من النبلاء رفيعي القدر لا يكون إلا بإحياء صالح أعمالهم وإقتفاء آثارهم والسير على الطريق التي قطعوها من أجل جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ، فعلى من أساء فهم الرسالة أن يتريث ويعيد القراءة من جديد بعيداً عن الفلكلور الشعبي والمسرحيات المتوارثة التي تؤجج النفوس دونما طائل والتي تسترجع لا معان ٍ ولا أهداف ، بل صور وأشكال لا تغير من واقعهم المتردي شىء ، وإلا فإن الإساءة إلى الثوري الشريف ستتكرر ، مرة بخذلانه والتواني عن نصرته إبتداءاً، ومرات بإساءة فهمه والمتاجرة بدمه إنتهاءاً .

2009/12/23

2- الثوري الشريف


إستمراراً لسياق المقالة السابقة فقد تناول الكاتب المصري الراحل عبد الرحمن الشرقاوي سيرة الحسين في مجلدين ( الحسين ثائراً ) ، و ( الحسين شهيداً ) وقد ظهر كلا المجلدين في عام 1960 فقدم الكاتب فيهما تفسيرياً يسارياً صور ثورته كنضال طبقي نيابة عن الجماهير الفقيرة ، في حين رأي كاتب يساري آخر هو أحمد عباس صالح في كتابه ( اليمين واليسار في الإسلام ) أنه لو كان الحسين قد هادن يزيد من أجل حفظ السكينة لكان بهذا قد خان مثل العدالة الإسلامية ، كما يعتبر الراديكاليون أيضاً أن الشهادة على المدى الطويل إنتصار للقوى التقدمية لأن إيقاظ ضمير العرب المريض النائم عجل في سقوط بني أمية ، وفي بعض المقالات التي ُنشرت في مجلة لواء الإسلام سعى محمد كامل البنا في عدد سبتمبر 1956 في أن يدفع التهمة عن الحسين في أنه تصرف في فتح باب الخصومة مع يزيد دون تفكير ودون روية وصبر .

كما نشرت المجلة نفسها في عدد سبتمبر 1965 ندوة إشترك فيها محمد الغزالي ، وعبد الرحيم فودة ، ومحمد أبو زهرة تناقشوا فيها حول ثلاث قضايا محددة هي :-
1- هل كان الحسين عندما خرج طالب رياسة يشتهي إمارة المؤمنين ؟
2- وهل خرج ينازع الأمر أهله ؟
3- وهل الطريقة التي خرج بها الحسين مع التسليم بأنه لم يكن طالب دنيا ولم يكن ينازع الأمر أهله ، كانت مضمونة النجاح ؟
وكانت إجابة المشاركين على السؤالين الأول والثاني بالنفي ، أما إجابتهم على السؤال الثالث فكانت بالإيجاب .

ويعتبر د.حميد عنايت كتاب الراحل خالد محمد خالد ( أبناء الرسول في كربلاء ) منطلقاً من نظرة مثالية ، كما أنه ينقل حديثاً أثيراً جداً عند الشيعة وفحواه أن الإمام علي بن أبي طالب تنبأ بإستشهاد الحسين إذ ُيقال أن الإمام عندما شاهد صحراء كربلاء في طريقه على صفين قال " هنا محط رحالهم ومهراق دمائهم " .

والخلاصة أن الكتابات السنية الجديدة أجمعت على تخطئة أبو بكر بن عربي في رأيه عن يزيد ، وتحفظت على رأي بن خلدون في أن ثورة الحسين مغامرة وفتنة غير محسوبة النتائج ، وبعضهم يمدحون الحسين بدلائل أخلاقية ، وآخرون بدلائل سياسية ، إلا أنه لم يقم كاتب قط من هؤلاء الكتاب ببناء بحثه وإحتجاجه على تحليل نقدي للنصوص التاريخية بهدف بيان تناقضاتها وإنعدام الدقة فيها ، فكل ما يكتبه الكاتب مبنى على تأمل شخصي .

وينتقل د.حميد عنايت إلى الكتابات الشيعية ذات النزعة التجديدية فيلاحظ أنها قليلة جداً مقارنة بكتابات أهل السنة ، ويعزو ذلك إلى أن مجددي الشيعة الذين يتطرقون إلى هذه القضايا التي تعد قضايا عقائدية بسبب مكانة الإمام الحسين والإيمان بعصمة الأئمة وغير ذلك إنما يتعرضون لأنواع من المتاعب الشديدة .

ولعل أكثر الأعمال جرأة مما ُنشر في هذا المجال كتاب ( شهيد جاويد ) أي الشهيد الخالد من تأليف نعمة الله صالحي نجف آبادي وهو من رجال الدين في قم والذي صدر عام 1968 فتمت مصادرته مباشرة ولم يشتهر إلا في عام 1976 إثر إغتيال شخصية دينية في أصفهان ، وما شاع من أن قاتليه أدعوا أن السبب في قيامهم بإغتياله أنه يؤيد الأراء الواردة في الكتاب المذكور .

وكان هدف نجف أبادي في كتابه الشهيد الخالد مزدوجاً إذ أراد أولاً الرد على من إعتبر ثورة الحسين عملاً غير متزن وخروجاً على السلطة الشرعية وهو مذهب أبو بكر بن عربي ومن تبعه من المعاصرين كمحب الدين الخطيب ، وأراد ثانياً الرد على تلك الجماعة من ُكتاب الشيعة الذين يعتقدون أن أعمال الإمام الحسين المقدرة من العناية الإلهية كانت معلومة لديه قبل وقوعها ، ويخصص المؤلف الجزء الأكبر من هذا الكتاب لرد هذه النظرة الأخيرة وتفنيدها ، فإذا كان الإمام الحسين يمتلك العلم نفسه الذي كان لأئمة الشيعة طبقاً للمعرفة اللدنية الغيبية ، فلماذا سار عامداً في طريق ينتهي بالهلاك له ولأسرته ؟

وعندما نتذكر أن المجتمع الإسلامي آنذاك كان في حاجة إلى قيادة آل البيت يصبح هذا العمل الإنتحاري أكثر إنغلاقاً أمام الفهم ، وينجح نجف أبادي في دحض كثير من أحاديث الشيعة المتعلقة بعلم الإمام المسبق بإستشهاده ، وبذلك ينقذ شهادة الإمام من شبهة الإنتحار وإلقاء النفس والأهل في التهلكة ، غير أن الأحاديث التي يبين ضعفها ووضعها يقول د.حميد عنايت عنها أنها أحاديث الدرجة الثانية عند الشيعة، فمصادر شيعية مثلاً من الدرجة الأولى في هذا المجال من قبيل الموسوعات المعتبرة والمفصلة للكليني ، والطوسي ، والشيخ الصدوق تحتوي على كثير من الأحاديث في تأييد علم الغيب أو المعرفة اللدنية عند الإمام للماضي والحاضر والمستقبل .

ُيتبع

2009/12/22

1- الثوري الشريف



مازالت سحب كربلاء تداعب خيال الكثيرين من محبي آل بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ومازل بوسعها أن تسيل كثير من المداد على ما كان ، وبوسعي القول أنه لا يمكن إعتبارها - في نظر الشيعة على الأقل - حادثة موسمية أو طقساً سنوياً يجرى ممارسته بمناسبة مقدم شهر الله المحرم الحرام ، إذ شكلت هذه الحادثة ولا تزال حجر الزاوية أو نقطة إلتقاء أفئدة الشيعة بينما يسكبون عبراتهم الحارة ، وتختلج قلوبهم الملتاعة وهم يستذكرون بنزف مشبوب بالعاطفة مصارع جمع من كرائم القوم .

تلقفت يداي بعض من كتبي القديمة التي تحفل بها أرفف مكتبتي لمحاولة قراءة المشهد من جديد ، فكان أحدها للباحث والكاتب الكويتي الشيعي الجاد خليل علي حيدر والمعنون العمامة والصولجان ... المرجعية الشيعية في إيران والعراق ، ورغم أن هذا الكتاب لا يتناول حادثة كربلاء تحديداً موضوعاً له ، وإنما كان يتناول تحليل جيد عن أبرز الأفكار والأشخاص والتطورات المتعلقة بالإجتهاد والتقليد ومؤسسة المرجعية في العالم الشيعي الإثني عشري ، إلا أن الكتاب قد عرج بسرعة على موضوع تجديد النظر في شهادة الإمام الحسين ، ورأيت أنه قد يكون من المناسب أن أستعرض معكم بعض من فقرات هذا الموضوع .

فيذكر المؤلف أن حادثة إستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في العاشر من محرم عام ( 61 هـ 680 م ) في كربلاء ذات أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي ، كما كان عنصر الشهادة في هذه الحادثة ذا جاذبية شديدة لكل الحركات الشيعية التي تحدت النظام القائم ، وذا مركز خاص في الثقافة الشعبية الشيعية عموماً ، وشيعة إيران على وجه الخصوص حيث صارت حادثة كربلاء موضوع تمثيليات عزاء سنوية واسعة النطاق .

ومما تميز به تراث الشيعة الديني تمجيد فضائل البكاء على الحسين ، وقد جاء في الأحاديث المروية في الكتب الموثوقة لديهم مثلاً أن أحد العلماء رأي الإمام الحسين في ما يرى النائم قد ُشفي من كل الطعنات والجراح التي أصيب بها في كربلاء فسأله كيف ُشفيت من كل هذا الجراح بما يشبه المعجزة ؟ فقال الإمام بدموع المعزين فيً .

كما أن العديد من الكتب الشيعية التي تصف مأساة كربلاء تحمل عناوين من قبيل ( مفتاح البكاء ) ، ( طوفان البكاء ) ، ( مثير الأحزان ) ، ( اللهوف ) ، ( محيط البكاء ) ، ( محرق القلوب ) .

وكانت شخصية الحسين وشهادته موضع بحث وتمحيص في الأوساط السنية على مدى قرون طويلة ، فأبو بكر بن عربي (468 هـ - 543 هـ) في كتابه العواصم من القواصم يحاول جاهداً في تجريد ثورة الإمام الحسين من أي إعتبار ، ويرى أن يزيد بن معاوية كان رجلاً شريفاً زاهداً رغم الروايات التاريخية التي حاولت تشويه سمعته ، وأن الحسين قد ثار عليه خلافاً لنصائح صحابة بارزين كإبن عباس وإبن عمر وأخيه بن الحنفية ، وقد إندهش أبو بكر بن عربي كيف أن الحسين إستطاع أن يرجح أهواء أوباش الكوفة على رأي هؤلاء الأفاضل .

أما بن خلدون فيصرح بأن الثورة على يزيد كانت بسبب مساوئه ، ولذا فإن الحسين كان على حق عندما إعتبر أن الثورة على يزيد مسئولية من يملكون القدرة عليها ، لكنه يرى الإمام الحسين قد أخطأ عندما خلط بين أحقيته وإستطاعته ، ومنذ أوائل القرن العشرين ومع حركة التجديد التي إقترنت بإسم جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده تعرض الكثير من المسلمات في تاريخ الإسلام لإعادة النظر بما في ذلك معنى ثورة الحسين .

ويرى د. حميد عنايت الأستاذ السابق للعلوم السياسية في جامعة طهران أن أول كاتب سني في العصر الحديث واجه التفسيرات التقليدية لثورة الإمام الحسين كان الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني(1889م - 1949م) ، فقد كتب المازني في مقال نشره في مجلة الرسالة في إبريل سنة 1936 أنه عندما إستمع لأول مرة في منزل أحد الإيرانيين إلى الروضة أو ( العزيـة ) كما ُتسمى في العراق ودول الخليج فكر في أن ُيمعن النظر ويبحث في أهداف الحسين في ثورته ضد يزيد ، وكان كل ما قرأه في هذا المجال لا يتجاوز مقالاً في مجلة إنجليزية ذكرت أن الحسين بادر بهذا العمل عمداً وقصداً ، وكان يعلم تماماً أنه مهزوم في النهاية ، ويتساءل المازني لماذا ينبغي على الحسين أن يضحي بحياته في سبيل عمل لا طائل من ورائه كهذا ؟ وأهم من هذا لماذا إصطحب أفراد أسرته الأبرياء في مثل هذا السفر شديد الخطر ؟ والأجوبة التي يقدمها المازني ترسم للحسين صورة مؤثرة ويقول أن الإمام يعلم من البداية أن الأوضاع ضده تماماً لكنه لما كان يعتبر حكومة بني أمية فاسدة بلا أخلاق أدرك كثوري شريف أنه ينبغي عليه أن يقدم ما يملكه على طبق من الإخلاص ويجاهد للقضاء على هذه الحكومة الفاسدة ، ومن هنا صارت كل قطرة من دمه وحرف من إسمه وهاتف من ذكراه لغماً في أساس الدولة الأموية .

وبعد المازني أدلى المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد بدلوه فكتب الحسين أبو الشهداء الذي عارض فيه أراء بن خلدون وبرر حتى قرار الحسين بإصطحاب أفراد أسرته إلى كربلاء ، فيذكر أنه كان طبقاً لعادة منذ القدم وحتى قبل الإسلام في بلاد العرب حيث كان المقاتلون يصطحبون أهليهم وذريتهم إلى ميدان القتال كشاهد على عزمهم الشجاع في تحمل الشدائد ، وخلص العقاد إلى أن مصرع الحسين كان ذا أثر مباشر على مصير الدولة الأموية ، وكان الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها .

ُيتبع

2009/12/10

غداً .. يوم ولدت فيه


إذا كنت من صنف العقلاء ، وكنت على الرغم من كونك كذلك أحد هؤلاء الذين يحتـفلون ويحتـفون بأعياد ميلادهم فإنك ربما لم تدرك بعد أن العد العكسي - لوصول رحلتك الحياتية على الأرض إلى نهايتها - قد إقترب أكثر فأكثر ، وأن السهم الذي هو مصيبك لا محالة قد إنطلق من قوسه بالفعل لتبدأ على أثر ذلك حفلة جديدة ستكون ضيفها ، وستتابين بالتأكيد أشكال الإحتفاء بمقدمك بالنظر إلى ما حصلت في رحلتك السابقة .

وبالتالي فإن إقتصارك فقط في يوم مولدك على مجرد مطالعة وجهك في المرآة متأملاً الأثر المترتب على إنفراط حبة من حبات عمرك لن يكون بفكرة سديدة على الإطلاق ، وإذا قلت في دخيلة نفسك بظرفك المعهود ( أهاه لم يتغير الكثير أو لم يتغير شىء على الإطلاق ) فعليك عندئذ أن ينتابك القلق فتعيد تبعاً لذلك رسم خارطة جديدة لما عساه أن يكون قادماً من أيامك .

في الحقيقة ُتصنف المراحل السنية عادة ( شباباً وكهولة وشيخوخة ) بالنظر إلى مقدار العمر الذي بلغت ، فكونك فتىً يافعاً أو شاباً فهذا يعني أنك لم تبلغ الثلاثين بعد ، فإن كنت بلغت هذا العمر ولكن دون الأربعين بت كهلا ً ، فإن بلغت الأربعين فما فوق صرت شيخاً ، ولما كنت أنا من أصحاب الصنف الثالث على سلم تصنيف الأعمار المشار إليه فإنني وبطريق الحتم واللزوم أصبحت شيخاً شئت أم أبيت وبالتالي فإن الحناء اليمنية الداكنة التي أخضب بها شعري مع بناتي من حين لآخر لن تغير من حقيقة الأمر شيء إلا ربما في نظر أمهن فحسب التي تراني أصغر من عمري قليلا ً ، وإزاء هذه المجاملة أو المماحكة - لا يهم - والتي ُأتبعها غالباً بإبتسامة واثق الخطى الذي يمشي ملكاً ، فإني في زهوي المصطنع هذا لا تغيب عن ذهني أبداً فكرة قرب محطة الوصول ومراسم الإستقبال .

يقولون في العقود وتحليل نصوصها القانونية أن العبرة فيها دوماً للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ، وبالتالي فإنه وبإسقاط هذه النظرية القانونية على واقع الحال ، فإنه لا يعني بلوغك إحدى المراحل العمرية الثلاث أنك أصبحت بالفعل جديراً بها أو مستأهلاً للقبها وإن تسميت بإسمها ، فمثلاً كثير هم الشيوخ الذين لم يشبوا عن الطوق بعد ومازالوا يسبحون في أمواج ما كان ، لا في ما هو كائن بالفعل ، تتقاذفهم ذكريات الصبا والشباب ، ويرسمون إبتسامات - باهتة أحياناً - وهم يستحضرون عنفواناً قد أفلت شمسه إلى غير رجعة ، وتراهم أحياناً يخوضون - فيما بين بعضهم البعض - في أحاديث السمر الخافتة التي لا تخلو بالطبع من التعريج على عينة من النقاشات التي لا يخوض فيها غالباً سوى الصبية المراهقين وحديثي البلوغ .

فعليك دائماً أن تعيش الحياة وفقاً لمقتضى العمر أو المرحلة التي تحياها ، فلا تأت بغير المأمول أو المنتظر منك فتسقط مهابتك في عيون الآخريين وتكون مرؤتك على المحك ، وعلى كل حال فإنه قد يكون من الأجدى لك - في يوم ميلادك – أن لا تمارس فيه عبثك المعتاد فتعتقد أن له من الخصوصية ما ليس غيره ، فلا الشمس ستتعامد على وجهك كما رمسيس الثاني ، ولن تمطر السماء إيذاناً ببدء موسم الخصب والنماء ، فما هو إلا يوم سيمر كما مر أقراناً له اللهم إلا الجلبة التي ستحدثها في هذا اليوم وأنت تتفحص هدايا أولادك لك والتي إشتروها بالمناسبة من حر مالك .

2009/12/06

شركاء النجاح

لوحة فنية محنطة على جدار رسمتها يد إنسان ، إنصهرت فيها الألوان ، وتداخلت فيها الأشكال ، مررت عليها متأملاً فقلت بعد هنيهة في دخيلة نفسي يا للروعة ، يا للفنان ، كم كان إنفعاله جميلاً ، أتراها تجربة نفسية أم نتاج وقت أسرف فيه الرسام ؟ مر على اللوحة غيري فرأى فيها أحدهم على ممشى الزهور وحيداً متأملاً سقوط الأمطار ، قال في نفسه يا لعزلة الإنسان ، ومر عليها ثالث غير آبه ولا منتبه ثم إلتفت صارخاً لا .. لا .. ستكون رائعة في غرفة الإستقبال ، ذهب الثلاثة لشراء اللوحة وتملكتهم الرغبة في إقتنائها ، ولكنها لن تكون إلا لواحداً فحسب ، إحتكموا جميعاً إلى الفنان فسأل كل واحد منهم على حدة عن دافعه للشراء :-

الأول : مزج الألوان الرائع وتدرج زرقة السماء وتناغمها مع السحب البيضاء .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثاني : رأيتك في اللوحة سائر منفرداً تنازعتك أسباب العزلة فأويت إلى هناك لعلك تجد الرفيق .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثالث : لم أر فيها شيئاً مما قاله صاحباي ، ولكني وجدت فيها ما يمكن أن يلفت نظر الضيوف والخلان .
الفنان : لا لا ليست لك .

ثم أردف قائلاً .. لقد عالجت اللوحة ما إعتلج في نفسي وأنا أتقدم في العمر ، فكان الممشى هو خط حياتي ، وعن يميني وروداً وأزهار مثلت ربيع شبابي ، وعن يساري أشجار غير مورقة ولا مزهرة مثلت خريف عمري والقادم من أيامي ، فوقفت في الطريق متسائلاً إلى أيهما أنا أقرب ؟ .
***

وهكذا تتعاظم قيمة الأشياء في نفوسنا ، وتكبر المعاني في عيوننا ، وتغدو لها قيمة ملموسة بمعزل تام أحياناً عن صانع الشيء ومبدع المعنى ، فالأشياء إنما تكتسب قيمتها بالمشاهدة والتجربة ، والمعاني كذلك يلمع بريقها بتمريرها على النفوس والأرواح ذات الأحاسيس المرهفة ، وبالتالي فإن أي عمل ولو كان ذا قيمة لا يخضع لميزان البحث والتجريب وإختبار النتائج لجدير بأن ُيلقى في زوايا النسيان ، وأن أي معنىً ولو كان عميق في نبله فلن ُيأبه له ما لم ٌيرصد وقعه على النفوس التي خوطبت به .

إن كل القيم الفردية الهامة في الحياة التي أفرزتها قرائح المبدعين إنما إستمدت ينعها وثمرها من خلال تلقي الناس لها بالقبول وشهادتهم لها بالتفرد والرفعة الأمر الذي يجعل من الناس قديماً وحديثاً تبعاً لذلك شركاء في النجاح لهذا المبدع أو ذاك ، فالناس وليس غيرهم هم من يكتب شهادة ميلاد الفكرة أو النظرية ، وهم وليس غيرهم كذلك من يجز هذا الصنف من العلم أو ذاك ، فهم إبتداءاً مصدر الإلهام والحقول الحقيقية للتجارب الإنسانية التي صاغتها أقلام وريش المبدعين .

فما ما كان لنا مثلاً أن نسمع عن ولي أو شيخ طريقة بدون مريد أو محب ، وما كان لبيت من الشعر أن يجوب الأفاق بدون ُمردد له أو شارحاً لبواطن معانيه أو مستشهداً به ، وما كان لبذرة طيبة أن تعيش ولا أن تأخذ طريقها إلى أفواه الناس ثمرة ً لولا أن هناك مزارعاً مجداً سهر على سقيها وتعدها بالرعاية ، وما كان لوليد لا صنعة له سوى البكاء أن يشب عن الطوق لولا أم رؤوم أو أب شفوق ، فالناس هم مبدأ النجاح وإنتهاؤه ، ولا يعني هذا الكلام بطبيعة الحال إغفال دور المبدعين أنفسهم فهم أصحاب السبق دوماً وذوي اللفتات الفكرية الخلاقة ، فبهم ُتطهى التجارب وُتصاغ المشاعر الإنسانية .

إن لوحة فنية واحدة عبثت بخيال نفر من الناس وهم يحاولون كشف أسرار جمالها ، إلى الحد الذي ربما لم يجل بخاطر الفنان ، كما أن خاطرة عابرة لأحدهم ، أو قطعة نثر مبتسرة لأخر تخضع للتأويل والتحليل إلى القدر الذي يجاوز أحياناً حدود المعقول ، ويجاوز ربما ما عناه أي منهما ، ذلك أننا إنما نرى الشئ بأعيننا نحن وليس بعين صاحبه ، ونتتبع أثره في نفوسنا نحن لا كما وقع في نفس صاحبه ، ونقسه بزوايانا نحن لا كما أراده صاحبه .

ولكن لا بأس من ذلك أيضاً فمجموع هذه الأراء وإن تباينت من شأنها إثراء العمل ورفع قيمته طالما كان هناك أسباب أو مبررات جدية لإبدائها ، وإزاء هذه الحالة النفسية الطريفة أحياناً ننتج أنا وأنت كم لا بأس به من تنظيرات رائعة ورؤىً رقيقة من روافدنا وبنات أفكارنا فنضيفها بسذاجة أو بخفة إلى رصيد وخيال الكاتب أو الفنان ، فيعلوا - من حيث لا ندري - شأنه ونزيد من وتيرة بيع كتبه أو لوحاته دون أن نطلب بالطبع أن نقاسمه أرباحه على الرغم من كوننا بشكل أو بآخر شركاء نجاحه .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة