2010/03/29

رمزي ورمزية


بوسعك التبسم إن أردت أن لا يلحظ أحد عليك ضحكاتك ، ويمكنك الإمتعاض بدلا ً من البوح برفضك أو إستهجانك ، وسيكون لك الأنين أفضل ألف مرةٍ من تألم صريح يجر عليك التشفي أو الرثاء ، وربما كان من المجدي لك أن ُتلقم فمك حجر بدلاً من أن تلقيه على عدو متربص تخشى بطشه وغدراته ، ومن الجائز أن يدك قد خانتك غير مرة فصوبتها إلى أقرب جدار أو مرآة حمام بدلاً من أن تصوبها إلى بعض من الوجوه الكالحة التي رأيتها في حياتك ، وإذا كنت ممن يهوون كرة القدم فلربما كانت قدمك اليمنى أو اليسرى – كيفما إتفق – كثيراً ما أطاحت بحصىً وحجارة من الطريق وتمنيت لو أنها كانت بمرمي خصومك وأندادك ، وقد تكون لذت بالصمت مرة أو مرات في مواضع كان يتحتم عليك فيها البيان والتبيين ، كل هذا وأكثر من الجائز حدوثه ، ولكن هل فكرت مرة لما كانت هذه خياراتك ؟

قبل أن تجيب وتقفز إلى إستنتاجات متسرعة دعني أدلي لك أولاً برأيي حول هذا الموضوع ، فأنا شخصياً أميل إلى أهمية رمزية الأفعال ودلالتها في العلاقات الإنسانية والإجتماعية ، ولربما كانت هذه الرمزية أحياناً دليل عقل وحسن تصرف ، كما قد تكون في أحيان أخرى دليل طيش جامج ونزق غير محمود العواقب ، فالتعبيرات الحركية لأحدنا - لاسيما العاقلة منها - يكون لها من الوقع ما لا تقوى الكلمات على إيصاله والتعبير عنه ، وتختلف هذه التعبيرات العاقلة بطبيعة الحال بالنظر إلى مقدار الثقافة التي حصلتها ، ومستوى ذكائك ، وكم الخبرات التي تراكمت عبر سني حياتك ، وإن كان هذا لا يمنع من قيام أحد الأفراد المحسوبين على تيار ثقافي رفيع من الإتيان بتعبيرات حركية لو صحت نسبتها إليه لكان حري به أن يكون خلف القضبان .

ورد بالقرآن الكريم ذكر كثير من التعبيرات الحركية والإيحائية فهناك من ( عبس وتولى ) ، وهناك من (
أعرض ونأى بجانبه ) وهناك من ( إذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدورأعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) وهناك من ( عبس وبسر ) ، وعلى كل حال فنظراتنا ، وتقطيبة جباهنا وإنبساطها ، وحركات شفاهنا ، وتكوير أصابعنا ، وإعراضنا وإقبالنا لرموز في حد ذاتها وردود أفعال ذات دلالة عميقة تترجم بعفوية ما يعتمل في نفوسنا من مشاعر وخواطر ، وتتابين قوة هذه الدلالات من حيث الشكل والمضمون بالنظر إلى المدى الذي أحدثته للتعبيرعما نريد ، وتتحكم فطرتنا ومدى إمساكنا بزمام أنفسنا في أي من التعابير نريد إن كان لدينا أكثر من خيار يمكن إستخدامه ، فإذا كان لدينا خيارات عديدة يوماً ما فلنبادر إلى أرقها وأجملها ولنمسك عن أخسها وأقبحها .

فلئن تشيح بوجهك مثلاً عن أحدهم لهو خير لك من أن تمطره بصوت خفيض بوابل من قاموس شتائمك العامر ، ولئن أطرقت رأساً خجلاً دون أن تهتز جفونك فإنك بهذه المثابة إنما ُتسدي عميق الإعتذار والتأسف لما بدر منك بدلاً من تجابه ندك بالقول له لما لا تذهب إلى الجحيم ؟ وإن أطحت بيدك في الهواء غضباً عندما ترى صورة زعيم بلدك على شاشة التلفاز لهو أفضل كثيراً ربما من أن تملأ الشاشة ببصاقك ، وفي ذات السياق فإن وردة بيضاء اللون تلقيها بحنان على فراشك زوجتك لرسالة جديرة بالإعتبار على الرغم من كونك تعلم بأنها لا تعي مغزي الورود ولا دلالة الألوان ، فلا تحدثك نفسك الأمارة بالسوء بأن هذه المرأة يستوي عندها الأمر إن وضعت لها وردة أو وضعت سكين ، فلتضع الوردة إذن يا عزيزي وتترك لها خيار أن تقوم هي لاحقاً برميها في سلسلة المهملات كالعادة .

وقد يختلط عليك مفهوم الرمزية ودلالته فتعتقد أن كل ردة فعل تأتي بها هي بمثابة رسالة أو رمز لطرف ما ، وهي وإن كانت في الحقيقة كذلك فإنها قد تكون أحياناً دليلاً على حمقك المستعر ورداءة تواصلك مع الأغيار ، وإلا فقل لي لما تبادر إلى تحطيم جهاز هاتفك المحمول وإفراغ أحشائه ونثره من حولك بغل ٍ لمجرد أن أحد أزراره لا يعمل بصورة طيبة ؟ ولما تلكم شاشة حاسوبك بقيضة يدك حال تباطؤه في الإستجابة لطلباتك السخيفة أو حال توقفه فجأة عن العمل ؟ وما ذننب أربطة حذائك إن أبت الإفتكاك فبادرت بهوس ٍإلى تمزيقها وتوزيع أشلائها هنا وهناك ؟ فإن كنت من الصنف الأول من الناس ممن يرمزون برقة فهنيئاً لك ، وإن كنت من الصنف الثاني فتأبى المهادنة وتقبل على المجابهة كيفما كانت فلا شك عندي أنك بحاجة إلى الكشف على قواك العقلية ، وإن كنت تنهل من الصنفين معاً فتأتي بالغث والسمين ، رقة حيناً وغلظة حيناً آخر ، فلا مراء عندي كذلك أن تحليل حمضك النووي سيكون لك ضرورة ملحة لترى بنفسك إلى أي كائنات الأرض أنت أقرب وأشبه ... ولا أبرئ نفسي .

2010/03/23

الموت لحظة .. وأشياء أخرى


بوفاة فضيلة شيخ الأزهر الدكتور/ محمد سيد طنطاوي إنطوت صفحة من تاريخ هذه المشيخة العتيدة والتي ُتصنف تقليدياً على أنها رأس الهرم للمذهب السني في العالم ، كما إنطوت قبلها صفحات كثر بموت غيره من المشايخ الأجلاء الراحلين ، فذهب من ذهب بعدما قدم كل منهم عمله وأفضى إلى ربه ومولاه ، وإزاء حالة كالموت لا يملك المرء منا كثير كلام ، فهذه الحالة الفريدة والإستثنائية لها مقدرة هائلة على الإختصار والإختزال في نفوس المتابعين ، وأياً ما كان وجه رأيك فيمن إعترته هذه الحالة وبات من أصحابها فمن الأفضل لك أن تمسك عن الخوض ، وأن تترفع عن النقد ، فمن كان ينازلك وتنازله ويقارعك وتقارعه قد غاب عن المشهد ومضي بعيداً إلى حال سبيله ، فلا حجة لك بعد الآن عليه ، وليس من المرؤة في شيء أن تظل سهام نقدك تطال عقل وذكرى من لا يقوي على رد ولا بيان بعد أن أبحر بشراعه بعيداً ووحيداً ، فلا أقل من أن نلقي عليه السلام وتتمنى له سلامة الوصول وحسن الوفادة في مبيته الجديد .


ولا أدري حقيقة سر هذه السكينة التي تتلبس بنا ونحن نتابع خبر وفاة أحد ممن نعرفهم ، يبدو لي الأمر وكأنه لحظة عبقرية - وإن كانت عابرة - نقف إزاءها متأملين وبنبل بالغ أحياناً مسترجعين جانباً رأيناه مشرقاً في حياة وسيرة ضيف اللحظة وصاحب مشهدها ، فيما تتراجع على إستحياء كل فنون النقد وتترجل جميع الحجج والدعاوى التي أعملناها طويلاً في أراء ومسالك أحدهم ، وإزاء هذا السمو اللحظي اللافت نتمنى لو أن هذا السمو ظل يعمل عمله فينا فيمتد إلى أولئك الذين لا يزالون يدبون على الأرض ويثيروا من حولنا صخباً وضوضاءاً ، فليس من الحكمة أبداً أن نظل دوماً في إنتظار وفاة أحدنا لنحرم أنفسنا من لحظة عالية القدر كتلك التي نتحلل من خلالها من كل أرجاس النقاش والمناظرات ولوي أعناق الحقائق أحياناً ، فالموت وإن كان لحظة رعد قاصفة تنفلت على أثرها الروح ، فإنها كذلك لحظة برق لامعة تداعب القلوب والنفوس فترفعها إلى مصافٍ من السمو والرقي والنبل .


وأما الضيف الجديد الذي توسد مسند المشيخة فضيلة الدكتور أحمد الطيب فلا أدري حقاً ما هي المعايير التي أهلته لشغل هذا المنصب الرفيع ، ولا أطعن هنا في قدر الرجل ولا مبلغ علمه ، وأما نواياه فموكول أمرها إلى الله ، ولكن من حق المسلمين ليس في مصر فحسب بل في سائر الأقطار الإسلامية أن يعرفوا معيار الإختيار ودواعي الترقي ، ذلك أن الدور المناط بمشيخة الأزهر يتجاوز حدود تخريج حملة الشهادات الجامعية في المجالات الدعوية والفقهية وغيرها من سائر المعارف العلمية العصرية الأخرى ، فالأزهر ومنذ القدم كان مهبط أفئدة التواقين إلى العلم وبات خريجيه يطبقون الأفاق شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ، وينظر إليه المسلمون نظرة روحية ملؤها الإجلال والإكبار بوصفه إحدى قلاع الإسلام الشامخة ، فلا أقل من أن نبدي قدراً من الشفافية والوضوح حول أسس الإختيار أو حتى دواعي الإقصاء التي شملت نفر ممن رشحوا لهذا المنصب الجليل ، والحقيقة أن عدم وضوح المعايير في هذا الشأن وغيره من الشئون إنما يفتح باب الإجتهادات الظنية وإن شئت فقل الشطحات الفكرية التي قد تبعد أو تقترب من الحقيقة ، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يتم فيه إختيار شيخ الأزهر من خلال المجامع الفقهية الإسلامية المختلفة ورابطة علماء المسلمين حتى ولو أفضى الإختيار إلى ترشيخ شيخاً غير مصرياً أو حتى غير عربي لتولى وإدارة شئون المشيخة التي يجب أن ننأى بها عن الأهواء والسياسة والأفق الضيقة والمصالح غير بعيدة المدى ، ولا أرى في النهاية منطقاً في أن نقارب بين مشيخة الأزهر وغيرها من الهيئات الإقليمية التي يحرص القائمون وأصحاب الهوي والسياسة على أن يكون رئيسها من دولة المقر ، فالأزهر مشيخة عالمية جاوزت ولا تزال تجاوز الحدود الجغرافية الحمقاء .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة