2010/04/20

أصل وفصل


( قد أكون أفغانياً منذ خمسين عاماً ، وقد أكون مسلماً منذ ألف وأربعمائة عام ، غير أنني بشتونياً منذ ثلاثة ألاف عام ) بهذه العبارة لخص أحد المواطنين الأفغان المنتمي إلى قبائل البشتون قصة طويلة عمرها ربما يقدر بعمر نشأة الجماعات وتطور المجتمعات ، إذ إنحاز هذا المواطن بكل فخر لا إلى وطنه حيث يعيش ، ولا إلى دينه الذي يتعبد به ، وإنما إنحاز إلى عرقه القديم وأصله التليد ، فمن المبهر حقاً أن يتجاوز أحدنا حدود زمنه الراهن ، وحتى حدود زمنه البعيد نسبياً قافزاً قفزات واسعة إلى الوراء حيث الزمن الأبعد والأقدم .

يبدو الأمر وكأن هناك جاذبية ما تشدنا شداً إلى الوراء وتستنهض فينا الرغبة إلى إعادة الرؤية والتبصر ولو عبر منظار طوله ألوف السنين ، ولابد أن أحدكم قد راودته يوماً ما على حين غرة فكرة السؤال أو حتى البحث والتقصي عن أصول عائلته ومنابت جذوره ، فإن توصلت بعد عناء مفترض إلى الوصول إلى حقيقة النشأة عبر سلسلة طويلة من أرحام النساء وأصلاب الرجال ووجدت في هذه النشأة ما يستحق الذكر والتنويه كأن يكون نسبك مثلاً عائداً إلى إحدى القبائل الشريفة أو جماعة ُعرفت بالشجاعة والإقدام أو الكرم وإغاثة اللهفان ، فإنك ستجد نفسك متلبساً في نهاية المطاف برائحة التاريخ العتيقة ، فيأخذك الحنين محلقاً بك إلى مرابط أجدادك الأولين ، ولربما إتسعت حدقة رؤيتك فتراك تطوف بخيامهم وتتفقد مواضع جيادهم وتتقلد سيفاً من سيوفهم ، ولربما عاينت بعين الشفيق المعارك التي خاضوها والدماء التي أراقوها من أجل الدفاع عن حياض القبيلة وشرف العائلة .

ولكن السؤال هو ... لما يفعل أحدنا ذلك ؟ قد تكون الإجابة في أبسط صورها أن اليأس من حواضرنا والتوجس من مستقبل أيامنا هو ما يدفعنا ربما دفعاً إلى البحث عن ومضات مضيئة قديمة وإن غدت بفعل الزمن خافتة لعلنا نجد فيها ما يساهم في رفع روحنا المعنوية ويدفعنا ولو دفعة بسيطة إلى الإمام ، فبالهروب إلى مواطن ثراءنا الغابرة تتجلى صور من تعزية النفس وتهدئة الخواطر ، وربما الإسترخاء إلى فكرة أن الأمور ليست بهذا السوء ... على الأقل فيما مضى .

هذا نمط من تحليل الظاهرة غير أنني لا أستريح إليه ، ذلك أن البحث عن الجذور أمر لا يقتصر على أولئك الذي يعانون في حواضرهم ويترقبون بخوفٍ قادمات أيامهم ، ذلك أن كثير من المجتمعات والتي غالباً ليس لديها مشكلات إقتصادية آنية كبيرة ، أو قلق أو توجس من المستقبل لدى أفرادها ذات الهوى والجامح أحياناً إلى الإرتداد إلى حيث بواكير نشأة العرق أو الأصل الأول ويظل الولاء إلى هذا الأصل متجذراً في نفوس هؤلاء الأفراد مهما بلغ شأنهم وعلت مكانتهم ، وما أشجار النسب المنتشرة في كثير من البلدان إلا دليلاً على ولع الكثير منا - لاسيما ذوي الأصول القبلية – بالبحث والتمحيص عن منابعهم القديمة ، بل أن البعض يعتبر هذا الأمر من الضرورات الشرعية لما يترتب عليه من حفظ الأصول والأنساب .

ولكن إزاء هذه العبور الإرتدادي اللافت إلى الوراء سيحملك الشوق ربما إلى محاولة التأسي بأخلاق القوم وشيمهم ، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنك قد بت حقاً واحداً منهم منتسباً إليهم ، فما لم تكن شريفاً في ذاتك فإن شرف قومك الأقدمين وعراقة نشأتهم لن يغني عنك من الأمر شيء ، وإذا كنت ممن تنخلع قلوبهم من مجرد صوت لصرير باب غرفتك في ليلة ظلماء ، أو من صوت هبة ريح عاتية فإن شجاعة قومك ستقف عاجزة كل العجز عن أن تهدئ من روعك ، بل أن كرم جدك الأعلى وإن كان حاتم الطائي ذاته لن يفلح في معالجة إمتقاع وجهك وإعراضك عن سؤال واحد من أصحاب الحاجة والفاقة ،
فكن أنت نفسك ، ودع عظام أجدادك ترقد في سلام ، قال تعالى { فاذا نُفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } « سورة المؤمنون 101 » .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة