2011/03/23

(9) هوى الإستبداد .. شرقي السمات


جمال الدين الأفغاني

( لا تحيا مصر ، ولا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلاً قوياً

عادلاً يحكمه بأهله على غير التفرد بالقوة والسلطان )

*****
عائلة الطغيان


(7) الديكتاتور العادل

نختتم عائلة الطغيان الكريهة بمناقشة هذا المصلح المحبب لدى البعض والذي ُيسمى أحياناً (بالمستبد العادل) أو (الطاغية الخير) ، فقد ظهر هذا المصطلح بداءة في الفكر السياسي الأوروبي للدلالة على نظام معين في الحكم في تاريخ أوربا الحديث ثم ما لبث أن إنتقل للشرق ، فالحل الحقيقي الذي إرتآه مثلاً جمال الدين الأفغاني لمشكلات الشرق إنما هو المستبد العادل الذي يحكم بالشورى ، فهو في كتابه (العروة الوثقى) يرد على القائلين بأن طريق الشرق إلى القوة يكمن في نشر المعارف بين جميع الأفراد .. وأنه متى عمت المعارف كملت الأخلاق وإتحدت الكلمة وإجتمعت القوة ، ويقول الأفغاني رداً على هؤلاء ( ... ما أبعد يظنون ، فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي ماهر يحمل الأمة على ما تكره أزماناً حتى تذوق لذته وتجني ثماره ) .

والملك المستبد المستنير يكون مستنيراً بقدر ما يعتمد في حكمه لا على حق الملوك الإلهي بل على مفهوم العقد الإجتماعي أي عقد تبادل المنافع بين الحاكم والمحكومين ، ويكاد يجمع المؤرخون على إعتبار فريدريك الثني (الأكبر) ملك بروسيا هو النموذج الأول للملك المستنير ، إذ كان يعتبر نفسه الخادم الأول للدولة ويتصرف وكأن عليه تقديم كشف حساب عن عمله أمام مواطنيه ، فيتسامح في الدين ويهتم بالإصلاح القضائي وبإصلاح التعليم وتحسين أوضاع الفلاحين فهو ملك مستنير من هذه الناحية ، لكنه مستبد من زاوية أخرى وهي أنه ما من فرد أو جهة لها صلاحية أو حق مراقبة أعماله ، وهذا الخلط ما بين الإستنارة والإستبداد لخصها أحدهم بالقول ( لقد إختار الناس من بينهم من أعتقدوه أكثر عدالة لحكمهم وأفضل من يخدهم كأب ) ، وهنا يؤكد مؤلف كتاب (الطاغية) بأن مصطلح الطاغية الصالح أو الخير يجب رفضه منذ البداية ، ذلك أنه إذا كانت هناك فكرة واحدة في النظرية السياسية لا خلاف عليها فهي أن الطغيان هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فساداً لأنه نظام يستخدم السلطة إستخداماً فاسداً ولقد لاحظ أرسطو بحق أنه ( لا يوجد رجل حر بقادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم إذا كان في إستطاعته أن يهرب منه ) فالإنسان الحر لا يتحمل مثل هذه الأشكال التعسفية من الحكم إلا مرغماً ، ولهذا فإنه يندر جداً أن ُيذكر الطغيان بطريقة فيها مدح .

والسؤال المطروح هنا هو هل يجوز لمستبد بلغ ما بلغ من عدل وإستنارة أن يفرض على الآخريين أراءه وأفكاره بدعوى أنها تصب في صالحهم ؟ لقد طرح الفيلسوف البريطاني جون مستيوارت مل هذا السؤال في بحثه عن الحرية ثم أجاب عنه بالنفي القاطع فقال ( لا يجوز إجبار الفرد على أداء عمل ما أو الإمتناع عن عمل ما بدعوى أن هذا الأداء أو الإمتناع يحافظ على مصلحته أو يجلب له نفعاً أو يعود عليه بالخير والسعادة بل حتى لو كان ذلك في نظر الناس جميعاً عين الصواب وصميم الحق ، وحسب مل فإن القهر والإجبار والإكراه من جانب سلطة في سلوك الفرد أمر غير جائز على الإطلاق ما لم يكن تصرف هذا الفرد فيه مساس بالغير أو إلحاق الأذى بالآخريين ).

يُتبع

2011/03/12

(8) هوى الإستبداد .. شرقي السمات


عبد الملك بن مروان بن الحكم ( خامس خلفاء بني أمية )
بعدما صعد المنبر ليلقي خطبته الدستورية التي توضح سياسته القادمة قال :
( والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ، ثم نزل ! )
من تاريخ الخلفاء للسيوطي

***

عائلة الطغيان

(4) الشمولية Totalitarianism

الشمولية أو مذهب السلطة الجامعة شكل من أشكال التنظيم السياسي يقوم على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكل الإجتماعي ( مجتمع - شعب - أمة - دولة ) عن طريق العنف والإرهاب ويمثل هذا الكل قائد واحد يجمع في يديه جميع السلطات وهو في الغالب شخصية كاريزمية Charismatic له قوة ساحرة في جذب الجماهير ولهذا يلقبونه بالزعيم ، ويطيعونه طاعة مطلقة ، ومصطلح الشمولية لم يستخدم إلا في أواخر الثلاثينات من القرن 20 ، ومن الأمثلة التي شهدت تطبيقات له إيطاليا في عهد موسوليني ، وألمانيا في عهد هتلر ، وأسبانيا في عهد فرانكو والبرتغال في عهد سالازار وغيرها ولقد عبر موسوليني تعبيراً جيداً عن هذا المذهب في خطاب ألقاه في 1925/10/28 بقوله ( الكل في الدولة ، ولا قيمة لشئ إنساني أو روحي خارج الدولة ، فالفاشية شمولية ، والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها ، وهي التي تفسر هذه القيم ، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها ) ، وعلى ذلك فالدولة الشمولية لا تقبل بمبدأ الفصل بين السلطات أو بأي شكل من أشكال الديمقراطية التي عرفها الغرب ، فلا رأي ولا تنظيم ولا تكتل خارج سلطة الدولة ، والترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب .


(5) السلطة المطلقة Absolutism

مصطلح السلطة المطلقة يعني الحكومة المطلقة نظرياً وعملياً ، أو هي تلك الحكومة التي لا يحدها حد من داخلها ، والواقع أن هذا المصطلح لم يعد له معنى محدد الآن فهو يستخدم على نحو فضفاض ليدل على حكومات تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية أو كوابح دستورية ، وعلى الرغم من أن هذا المصطلح أصبح الآن في ذمة التاريخ ، بمعنى أنه لم يعد أحد يناقشه في العالم المتقدم سوى المؤرخين ، فإنه لا يزال جديراً بالدراسة الفاحصة في دول العالم الثالث التي تتقلب عليها أشكال مختلفة من الحكم المطلق في صور متنوعة .

(6) الأتوقراطية Autocracy

مصطلح يعني الحاكم الفرد الذي يجمع السلطة في يده ويمارسها على نحو تعسفي ، فقد يكون هناك دستور ، وقد تكون هناك قوانين تبدو في ظاهرها أنها تحد من سلطة الحاكم أو ترشده ، غير أنه في الواقع يقدر أن يبطلها إذا شاء أو يحطمها بإرادته ، ومعظم المنظرين يعتقدون أن الحكم الأتوقراطي يتطلب تركيز السلطة في يد شخص واحد لا في يد جماعة أو حزب أو مؤتمر ، فحكم الطغيان الذي مر معنا من قبل يمكن أن يوصف بأنه أتوقراطي ، كذلك حكم اباطرة الرومان ولا سيما في العهد البيزنطي ، كما نجد تطبيقاً للنزعة الأتوقراطية في المعتقدات القديمة المتعلقة بالطبيعة الإلهية للحاكم أو لحق الملوك الإلهي ، بل يمكن أن توصف بها أنظمة متعارضة أتم التعارض ، فحكم قيصر روسيا قبل الثورة كان حكماً أتوقراطياً ، وبالمثل كان حكم ستالين .

ُيتبع

2011/03/11

(7) هوى الإستبداد .. شرقي السمات


ملك بروسيا فريدرك الثاني ( الأكبر )
( لقد إنتهيت أنا وشعبي إلى إتفاق يرضينا جميعا ، يقولون ما يشتهون ، وأفعل ما أشتهي )

***
عائلة الطغيان

(2) الإستبداد Despotism

كلمة المستبد مشتقة من الكلمة اليونانية ديسبوتيس Despotes التي تعني (رب الأسرة) أو سيد المنزل أو السيد على عبيده ،ثم خرجت من هذا النطاق الأسري إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مماثلة لسلطة الأب على أبناء أسرته أو السيد على عبيده ، وهذا الخلط بين وظيفة الأب في الأسرة التي هي مفهوم أخلاقي ووظيفة الملك التي هي مركز سياسي يؤدي في الحال إلى الإستبداد ، ولهذا يستخدمه الحكام عندنا في الشرق للضحك على السذج ، فالحاكم (أب) للجميع ، أو هو (كبير العائلة) ، وهذا يعني أن من حق الحاكم أن يحكم حكماً إستبدادياً ذلك أن الأب لا يجوز أخلاقياً معارضته فقراره مطاع وإحترامه واجب مفروض على الجميع ، والواقع أن الحاكم الذي يبرر حكمه (بأبوته) للمواطنين فإنه يعاملهم كما يعامل الأب أطفاله على أنهم ُقصر غير بالغين أو قادرين على أن يحكموا أنفسهم ، ومن هنا كان من حقه توجيههم ، بل عقابهم إذا إنحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية .

كان الأباطرة البيزنطيون هم أول من أدخل مصطلح (الإستبداد) أو (المستبد) في قاموس السياسة ، إذ كانوا يطلقون لقب المستبد كلقب شرفي يخلعه الإمبراطور على إبنه أو زوج إبنته عند تعيينه حاكماً لإحدى الولايات .. ولكن ظهور مصطلح الإستبداد في قاموس الفكر السياسي في النصف الثاني من القرن 18 يرجع في الواقع إلى الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو الذي جعل الإستبداد أحد الأشكال الأساسية الثلاثة للحكم إلى جانب الحكومتين (الجمهورية والملكية) ، وأدان مونتسكيو الرق والإستعباد بكل صوره وأشكاله وإن إنتهى إلى أن الإستبداد نظام طبيعي بالنسبة للشرق ، وخطر على الغرب .

(3) الديكتاتورية Dictatorship

مصطلح الديكتاتور روماني الأصل، فلقد ظهر أول مرة في عصر الجمهورية الرومانية كمنصب لحاكم يرشحه أحد القناصلة بتزكية من مجلس الشيوخ ، ويتمتع هذا الحاكم بسلطات إستثنائية وتخضع له الدولة والقوات المسلحة بكاملها في أوقات الأزمات المدنية أو العسكرية ولفترة محدودة لا تزيد عادة على ستة أشهر أو سنة على أكثر تقدير ، ولقد كان ذلك إجراءاً دستورياً ، وإن كان يؤدي إلى وقف العمل بالدستور مؤقتاً في فترات الطوارئ البالغة الخطورة ، ومن هنا يتبين أمران أولهما أن هذا المنصب بمفهومه الروماني يختلف إختلافاً تاماً عن مفهوم الديكتاتور في العصر الحديث ، وأقرب مثال يقربنا من وظيفة الديكتاتور الروماني هي ( وظيفة الحاكم العسكري العام ) الذي يعين في أوقات عصيبة تمر بها البلاد بغرض إتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة ولفترة محددة فقط ، أما الأمر الثاني فهو أن طبيعة نظام دولة المدينة في روما كانت تقتضي إتخاذ مثل هذه التدابير الإستثنائية ذلك أن هذا النظام لم يكن يساعد على مواجهة الطوارئ المفاجئة كالغزوات والكوارث والمؤمرات .

أما مصطلح الديكتاتورية في الإستخدام الحديث فهو يعني النظام الحكومي الذي يتولى فيه شخص واحد جميع السلطات وبطريقة غير مشروعة غالباً ، وهو بهذه المثابة لا يكاد يختلف إختلافاً كبيراً عن مصطلح الإستبداد ، وكما أن الطغيان قد يكون لفرد أو جماعة ، فإن الديكتاتورية أيضاً قد ُتطلق على الجماعة كما الفرد وأكثر الأمثلة قرباً لذلك ما ُيسمى ( بديكتاتورية البروليتاريا) أي الطبقة العاملة وهو مصطلح إستخدمه المفكر الروسي كارل ماركس والذي تبناه غيره ممن رأوا حاجتنا إلى ديكتاتورية ثورية ، ولم يوضح ماركس أبداً ما الذي يعنيه بهذا المصطلح فهو أحياناً يتحدث فقط عن (حكم البروليتاريا) ، ثم إتخذ المصطلح فيما بعد دلالات واسعة في الفكر الماركسي ليدل على طبيعة ومشروعية سلطات الدولة خلال فترة التحول من الثورة إلى المجتمع الشيوعي .

ُيتبع

2011/03/10

(6) هوى الإستبداد .. شرقي السمات


الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
( يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون ، أي عند إنتهاك القانون وإلحاق الأذي بالآخرين )

عائلة الطغيان

يقول المؤلف النابه أن أفراد هذه العائلة ( غير الكريمة ) كثيرون ، إذ يبدو أنها هي التي حكمت فترة طويلة من التاريخ ، كما أن كتب التاريخ العظيمة تعطينا إنطباعاً بأن عدد الطغاة والمستبدين يفوق بشكل هائل عدد الحكام الخيرين أو الصالحين ، كما أن هؤلاء الطغاة والمستبدين كانوا دائماً موضوعاً للكراهية والخوف ، ولم يكونوا أبداً موضعاً للحب والإعجاب ، أما أفراد هذه العائلة والمكونة من ( الطغيان - الديكتاتورية - الإستبداد - السلطة المطلقة - الشمولية - الأتوقراطية ) فسنتناولها بقدر من الإيجاز على النحو التالي :-

(1) الطغيان .

الطغيان هو أقدم النظم السياسية عند اليونان وفي الشرق ، ويذكر بطرس البستاني في دائرة معارفه تحت مادة "طاغية" ( ُيقال طغى فلان أي أسرف في الظلم والمعاصي والمراد به هنا من تولى حكماً فإستبد وطغى وتجاوز حدود الإستقامة والعدل تنفيذا لمآربه فيمن تناوله حكمه أو بلغت سلطته إليه ) والواقع أن كلمة الطاغية لم تكت تعني بالضرورة في بداية إستخدامها الحاكم الشرير ، فهي مثلاً في العصور اليونانية القديمة كانت الكلمة التي تعني في بعض إستخداماتها الملك أو الحاكم ، بل قد يُسمى الملك بالطاغية في سياق المديح أو المجاملة حتى بدأت الكلمة تحمل معنىً كريهاً إبتداءاً من الجيل الثاني من طغاة الأغريق وحتى الآن ، وقد كان فلاسفة القرن الرابع قبل الميلاد لاسيما أفلاطون وأرسطو أعلنوا بوضوح حاسم التفرقة بين اللفظين ، فلفظ الملك يُطلق على الحاكم الجيد أو الصالح ، فيما يطلق لفظ الطاغية على الحاكم الفاسد أو الشرير. أما أهم السمات العامة للطغيان التي يمكن إستخلاصها من تاريخ طغاة الأغريق فيما قبل ظهور الفلسفة فتبدو على النحو التالي :-

أولا : الطاغي رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع ، كأن يكون قد إغتصب الحكم بالمؤمرات أو الإغتيالات أو القهر أو الغلبة ، فهو كل شخص ما كان له أن يحكم لو سارت الأمور سيراً طبيعياً وهو لهذا كما يقول عبد الرحمن الكواكبي ( يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم ، ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي فيضع كعب رجله في أفواه ملايين من الناس لسدها عن النطق بالحق ...) .

ثانياً : لا يعترف بقانون أو دستور في البلاد ، بل تصبح إرادته هي التي تحكم، وما يقوله يصبح أمر واجب النفاذ ، وما على المواطنين سوى السمع والطاعة .

ثالثاً : يسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته أو ملذاته أو متعه التي تكون في الأغلب الأعم حسية ، أو تهدف إلى توسيع ملكه وتدعيم ثروته .

رابعاً : يتفرد هذا الحاكم الطاغية بخاصية أساسية في جميع العصور وهي أنه لايخضع للمساءلة أو المحاسبة أو الرقابة ، من هنا ينبغي ألا نندهش عندما نقرأ في كتب التراث مثلاً أن الوليد بن عبد الملك تساءل ذات مرة في عجب ( أيمكن للخليفة أن يُحاسب ؟ ) والسؤال هنا عن الحساب من الله عز وجل ، فدع عنك أن يجرؤ البشر على ذلك .

خامساَ : يقترب الطاغية من التأله ، فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم ويذلهم بالقهر والقوة وسلب المال حتى لا يجدوا ملجئـاً إلا التزلف له وتملقه ، ولهذا خلع الناس على الطاغية صفات الله كـ ( ولي النعم ) ( والعظيم الشأن ) ، ( والجليل القدر ) .

يُتبع

2011/03/05

(5) هوى الإستبداد .. شرقي السمات

6- الإسكندر يؤله نفسه في الشرق .

الشرق بروحانيته وسحره وعطره وبخوره كانت له جاذبية ملفتة في أن يطبع عاداته وتقاليده وطقوسه في أفئدة كل من وطئت قدماه أرضه ، وكأن الموروث الشرقي القديم على تباين نحله وأهوائه قد أبي إلا أن يغرز إبره في مسام الرائح والغادي إلى ومن أرض الشرق ، ولم يكن الإسكندر المقدوني الأكبر إستثناءاً من هؤلاء وفي تفصيل ذلك يقول مؤلف كتاب الطاغية ( بأن المدن اليونانية قد وقعت قرابة القرن ونصف تحت سيطرة الطغاة فيما يسمى عادة بعصر طغاة الأغريق ، إبتداءاً من طاغية كورنثه وإنتهاءاً بطاغية أثينا ، وهي الحقبة التي ذاق المواطن فيها الكثير من الظلم والإضطهاد والمعاناة ، لكن على رغم ذلك لم يحدث أن طلب أحد الطغاة من الشعب أن يسجد له عندما يشرف واحد منهم بالمثول بين يديه .. صحيح أن المدن اليونانية تقلبت عليها الأنظمة وعرفت من بين ما عرفت النظام الملكي لكنه لم يكن بقسوة النظام الشرقي ، وتبعاً لذلك يظل من الصواب أن نقول أن المدينة اليونانية كانت جمهورية في مقابل النظام الملكي في الشرق ، ولهذا فإنه يقال عادة أنه بعد غزو الإسكندر للشرق إنهزمت المدينة اليونانية الجمهورية وإنتصر النظام الملكي ، فقد قامت دولة واسعة الأرجاء كثيرة السكان على أنقاض مقاطعات كثيرة وإنتقل مركز الثقل في العالم اليوناني نحو الشرق ، وأصبح تطور النظام اليوناني أمراً محتوماً ) .

لكن في أي إتجاه يسير هذا التطور ؟ يفصل المؤلف ذلك مبدئياً بالقول ( أن الرجل اليوناني ظل يخضع للقانون الذي يصنعه البشر ولم يخطر بباله أن يكون الحاكم إلهاً أو أنه يمثل الإله على الأرض ، ففكرة تأليه الملك أو الإمبراطور صناعة شرقية محلية فحسب ، ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان بل كان النموذج الأعلى له ) أما عن كيفية التطور بعد أن إلتحم الشرق بالغرب بعد غزو الإسكندر ، فمن المفهوم بداءة أن النظام الملكي الشرقي لا يقبل بمبدأ الحرية السياسية الذي كان سائداً في المدن اليونانية لاسيما في أثينا .. فقد أصبح المواطن الآن تابعاً وحل القصر محل الجمعية الشعبية أو الجمعية الوطنية ، وكانت النتيجة أن أصبحت السلطة الملكية مطلقة وأصبح الملك هو الشريعة الحية لا يقيده شيء ولا يخضع لأي رقابة فإرادته إرادة مطلقة وظهرت عبارة تؤيد ذلك مثل ( إن ما يقره الملك هو عادل أبداً ) ، وقد نقل الإسكندر فكرة التاج من فارس حتى أصبحت مرادفة للمُلك وكذلك لفظ ( العرش ) وإستخدمه كل خلفائه من بعده ، وبعد غزو الإسكندر لفارس أطلق على نفسه ( سيد آسيا ) التي كانت تعني وقتها الإمبراطورية الفارسية ، وكان قبل ذلك قد أطلق على نفسه ( ليث فارس الهصور ) ثم تسمى بإسم الملك وهو لقب لم يستعمله إطلاقاً على العملة التي سكها في مقدونيا وقد أخذت هذه الألقاب في الظهور على بعض من العملات الأسيوية التي كان يصدرها .

بدأ الإسكندر يأخذ بعادات الشرق وثيابهم ويتزوج منهم إلى أن وصل إلى أعلى عادةعندهم ألا وهي تأليه الحاكم ، وشيئاً فشيئاً بدأ الإسكندر يعتقد أنه إلهاً حقاً وبأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ ، وبمرور الوقت أزمع الإسكندر على إقتباس عادة جديدة وهي ( السجود ) التي كان يتعين بمقتضاها على جميع من يقتربون من الملك أن يؤدوها ، غير أن هذا الأمر كان يعني في نظر اليونانيين والمقدونيين عبادة حقة للإمبراطور وهو أمر لم يألفوه من قبل ، وعندما إبتدع الإسكندر عادة السجود هذه تطورت الأمور على نحو غير منتظر ، فقد عارضها المقدونيون بشدة وأظهر البعض إستيائه وغضبه بل أن أحد قواده فعل ما هو أسوأ من المعارضة ، فعندما سمع بمطلب الإسكندر إستولت عليه نوبة من الضحك ، وأخيراً إتفقوا معه على أن يُقصر هذه العادة الأسيوية على الأسيويين فحسب ، وكان الإسكندر قد أوتي قدرة فائقة على الإحساس بما هو ممكن من الأمور فأسقط السجود من حسابه نهائياً ، وهكذا نجد أن الإسكندر لم يفكر في تأليه نفسه إلا في الشرق ( موطن تأليه الحكام ) ولهذا كانت آسيا هي الأصل والمنبع للإستبداد في كل الفلسفة السياسية في أوروبا ، وكان الطغيان الشرقي هو النموذج الذي تحدث عنه المفكرون في عصر التنوير .

نظر الرومان لاحقاً إلى فكرة تقديس الشرقيين للملك في إفتتان ورهبة ، ويقال أن قيصر كان يلهو بالتأليه وأصبح مارك أنطونيو بغير خجل هو ديونسيوس ( أوزوريس ) زوج كليوباترا ( إيزيس ) ملكة مصر وأطلقا على طفليهما الشمس والقمر ، ورغم أن هناك بعض من طغاة أوربا قديماً ممن أصيبوا بجنون العظمة مثل (كاليجولا) ، (نيرون) ، (دوميتيان) فهم وحدهم الذين طالبوا بأن يُعبدوا في حياتهم وأن يُنظر إلى كل منهم بوصفه سيداً وإلهاً أي مالكاً للعبيد وإلهاً الفانين ، لكنها كانت كلها محاولات باهتة تحاكي الأصل وهو النموذج الشرقي الذي هو تأليه حقيقي للحاكم .

يتبع لاحقاً

2011/03/04

(4) هوى الإستبداد .. شرقي السمات

تأليه الحاكم في الشرق

3- الطاعة البابلية



كانت السلطة السياسية في بلاد ما بين النهرين تستند بإستمرار إلى مصدر إلهي ، فلقد هبط النظام الملكي من السماء ، والملك هو (حاكم المدينة ) ، وهو ( الكاهن الأعظم ) وهو نائب الآلهة ومندوبها ، ويفاخر الملوك بالأصل الذي ينتسبون إليه ، ولكنهم في الوقت ذاته لا يفتأون يذكرون الناس بإختيار الآلهة لهم ، وإذا ما إختار الملك إبناً ليتولى الحكم بعده حرص على أن يعرض هذا الإختيار على الآلهة لتقره ، وبعد المصادقة على الإختيار يقسم الإبن يمين الولاء والخضوع والإحترام لأبيه ، ويدخل ( المختار ) إلى بيت الوراثة ) حيث ًيدرب على مهام منصبه المقبل ، ولم يكن ملك بابل من الوجهة القانونية إلا وكيلاً لإله المدينة ومن أجل هذا كانت ُتفرض الضرائب بإسم الإله ، وكان الملك أثناء تتويجه يُقام له حفل كبير فتخلع عليه الكهنة سلطته الملكية .

يستطرد مؤلف كتاب الطاغية فيقول أن الفضيلة الكبرى في بلاد ما بين النهرين عموماً وبابل بصفة خاصة هي الطاعة التامة ، فالدولة تقوم أساساً على الطاعة والخضوع للسلطة حيث كان الفرد يقف في مركز مجموعة من الدوائر المتلاحقة تحد من حرية عمله ونشاطه حيث ُيوصي العراقي القديم بهذه العبارة ( إسمع كلمة أمك كما تسمع كلمة إلهك ، وإسمع كلمة أخيك الأكبر كما تسمع كلمة أبيك ) ، وعموماً فإن دور الملك الرسمي في بلاد ما بين النهرين أنه ممثل الآلهة على الأرض أو أنه ينوب عنها وهي - أي الآلهة - تتوقع منه أن يعامل الناس بالعدل وبلا محاباة بحيث يدافع عن الضعيف أمام القوي وأن يكون نصيراً لليتامى والأرامل ، وكان يوجه إلى الإعتبارات الأخلاقية لما تجلبه من رضا الآلهة وبركاتها وما يمنع لعناتها .

4- بلاد فارس



كان الفرس يطلقون على الإمبراطور لقب ( ملك الملوك ) وهو صاحب السلطة المطلقة في طول البلاد وعرضها ، وقلماً كان أحد من الأهالي ومنهم كبراء وأعيان يجرؤ على إنتقاد الملك أو لومه لدرجة أن كان كل ما يفعله من يرى الملك أن يقتل إبنه أمام عينيه رمياً بالسهام أن ُيثني على مهارة الملك العظيمة في الرماية ، وكان المذنبون الذين تلهب السياط أجسادهم بأمر الملك يشكرون له تفضله بأنه لم يغفل عن ذكرهم ! ، وكانت هناك عادة السجود للملك على كل من يقترب منه .

5- الصين



كان التنظيم السياسي في الصين القديمة يقوم على أساس أن الإمبراطور يستمد سلطته من السماء ، فهو يحكم وفقاً للحق الإلهي الذي يخوله سلطة مطلقة وكانت عبارة ( مقبول من السماء ) عن طريق الشعائر هي رخصة المُلك والسيادة ، وهي التي تزوده بالنفوذ السياسي القوي الذي يُلزم رعاياه بالولاء له ، فهو إبن السماء وممثل الكائن الأعلى ، ومن أجل ذلك فإن مملكته ُتسمى أحياناً ( تيان شان ) أي التي تحكمها السماء وقد ترجم الأوربيون هذه العبارة بالمملكة السماوية ، وبفضل سلطات الإمبراطور الإلهي كانت له السيطرة على الفصول ، فكان يأمر الناس أن يوفقوا بين أعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر على العالم ، وكانت حكمته هي القانون وأحكامه هي القضاء الذي لا مرد له ، فهو المدبر لشئون الدولة ورئيس ديانتها ويختار من يخلفه على العرش ، وكان إذا ظلم الإمبراطور أو فسد حكمه خسر بحكم العادات المرعية وبإتفاق أهل الدولة ( تفويض السماء ) وأمكن خلعه دون أن ُيعد ذلك خروجاً على العادات والدين أو الأخلاق ، فقد كانت السماء ُتبدي غضبها بأن تقلب الطقس في غير أوانه أو ترسل علامات أخرى كالصواعق .

وإختصاراً فإنه لم يكن هناك أي لون من ألوان الرقابة الشعبية على الملك فهذا الأمر لا أثر ، فالملك يستشير إذا شاءت إرادته الملكية ومن حقه ألا يستشير فلا شيء يلزمه بقبول المشورة أو الإلتزام بآراء الآخرين ، فليس هناك سوى الإرادة الملكية التي هي إرادة السماء ، أما الشعب فلا وجود له ، وإذا كان الإمبراطور يتحدث إلى الشعب بإستمرار بجلال ورقة وعطف أبوي ، فإن الشعب ليس لديه عن نقسه إلا أسوأ المشاعر الذاتية ، فهو يعتقد بأنه لم يولد إلا ليجر عربة الإمبراطور ، فذلك هو قدره المحتوم ، ولا يبدو لهم الأمر مزعجاً أن يبيعوا أنفسهم كعبيد وأن يأكلوا خبز العبودية المر .

ُيتبع

2011/03/03

(3) هوى الإستبداد .. شرقي السمات

عبد الرحمن الكواكبي
( ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله ، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله )

*****
تأليه الحاكم في الشرق
1- الحكم الثيوقراطي Theocracy

ظهرت في كل عصر مجموعة من أتباع هذا الدين أو ذاك تلجأ إلى تأويل بعض النصوص الدينية وتقدم إجتهادات شخصية وتفسيرات ذاتية تمكنها من الوصول إلى السلطة فتكون لها مقاليد الأمور ، وهي تستخدم في الأعم الأغلب أحط السبل كالدسائس والقتل والرشوة وإستمالة الأشخاص بالمال أو الإرهاب والنفاق والكذب على الله عز وجل ، والواقع أن هذا النوع من الحكم ينشأ عندما ينقسم المجتمع السياسي إلى قسمين أو فئتين متمايزتين ( حاكمة ومحكومة ) ، والسؤال الذي يظهر هنا ( من أين جاء هذا التمايز ؟ ) وإذا كان الحكام بشراً كالمحكومين فكيف تكون إرادتهم حرة تحدد نفسها بنفسها ، بينما إرادات المحكومين تخضع لهم وتتقيد وتتحدد وفقاً لمشيئتهم ؟ كيف نتصور إرادتين من طبيعة بشرية واحدة ليستا على درجة واحدة ، بل إحداهما تعلو على الأخرى ؟


يقول المؤلف أن أبسط وأسرع إجابة هي أنه لابد أن يكون الحكام من طبيعة غير طبيعة البشر، هكذا تصور القدماء الحاكم من طبيعة إلهية ، فهو إله على الأرض أو هو إبن الله ، ومن هنا جاء سمو إرادته ، فهي سامية لأنها إرادة إلهية عليا ، ثم تدرج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم إختياراً مباشراً ليمارس السلطة بإسمه على الأرض ، وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول أن التفكير قد إتجه أولاً إلى تأسيس السلطة على أساس إلهي ، فقيل أن السلطة مصدرها الله يختار من يشاء لممارستها ، ومادام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين إذ هو منفذ للمشيئة الإلهية ، ولقد لعبت هذه الفكرة دوراً كبيراً في التاريخ ، وقامت عليها السلطة في معظم الحضارات وأقرتها المسيحية في أول عهدها وإن حاربتها فيما بعد ثم إستند إليها الملوك في أوروبا في القرنين 16 ، 17 لتبريرسلطاتهم المطلقة وإختصاصاتهم غير المقيدة .


ويؤكد المؤلف أن هذه الفكرة قد تطورت وإتخذت ثلاث صور متتابعة هي :-

الصورة الأولى : في الأصل كان الحاكم ُيعد من طبيعة إلهية ، فهو لم يكن مختاراً من الإله بل كان هو الإله نفسه ، وقد قامت الحضارات القديمة عموماً في مصر وفارس والهند والصين على أساس هذه النظرية ، وقد ُوجدت هذه الفكرة كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلهاً وإن كان الشرق هو أصلها ومنبعها .

الصورة الثانية : تطورت النظرية مع ظهور المسيحية ولم يعد الحاكم إلهاً أو من طبيعة إلهية ولكنه يستمد سلطته من الله ، فالحاكم إنسان يصطفيه الله ويودعه السلطة ، وفي هذه المرحلة تسمى النظريـة بــــ ( نظرية الحق الإلهي المباشر ) لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة دون تدخل إرادة أخرى في إختياره ومن ثم فهو يحكم بمقتضى هذا الحق الإلهي المباشر .

الصورة الثالثة : منذ العصور الوسطى وأثناء الصراع بين الكنيسة والإمبراطورقامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة وأن السلطة وإن كان مصدرها الله، فإن إختيار الشخص الذي مارسها يكون للشعب ، فالسلطة في ذاتها من الله ولكن الله لا يتدخل مباشرة في إختيار الحاكم ، وإن كان من الممكن أن يرشد الأقراد إلى الطريق الذس يؤدي بهم إلى إختيار حاكم معين ، ومن ثم فإن الله يختار الحاكم بطريقة غير مباشرة ، ويكون الحاكم بناء على ذلك يكون قد تولى السلطة عن طريق الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية أو بمقتضى الحق الإلهي غير المباشر ( نظرية الحق الإلهي غير المباشر ) .

2- تأليه الحاكم في مصر القديمة


كان الملك في مصر الفرعونية إلهاً منذ بداية النظام الملكي فيها ، ولم تكن هذه الألوهية رمزية أو مجازية تشير فقط إلى سلطته المطلقة ومكانته السامية ، بل هي تعبر حرفياً عن عقيدة كانت إحدى السمات التي تميزت بها مصر الفرعونية وهي عقيدة تطورت على مر السنين ، بل هناك من النصوص ما يمجد الملك وتصفه بأنه في وقت واحد مجموعة من الآلهة وليس مجرد إلهاً بينها ، فهو (سيا) إله الإدراك ، وهو (رع) إله الشمس ، وهو (خنوم) خالق البشر ، وهو (باسنث) الآلهة الحامية ، و(سخمت) آلهة العقاب ، ومعنى ذلك أن الفهم والإدراك والحكم الأعلى وإكثار السكان والحماية والعقاب هي كلها من خواص الملك ، والملك هو كل واحد منها فالملك هو ( كل هذه الآلهة ) ، وعندما يعتلي فرعون العرش كان على الناس أن يفرحوا لأن أحد الأرباب أقيم رئيساً على كل البلاد ، ويرافق إسم الملك شارات ترمز إلى ( الحياة والصحة والقوة ) ، كما أن فرعون الذي هو الملك يتحول إلى إله بعد وفاته ، ومن هنا يستحق مناسك العبادة والتكريم الواجبة ، ذلك أنه سيصعد إلى السماء ليتحد بقرص الشمس ويندمج مع أبيه (رع)

ولهذا كله فإن الملك يتسم في مصر بالسمات التالية :-

1- شخصية إلهية مقدسة ، وبالتالي فهو أقدس من أن يخاطبه أحد مباشرة ، بل أن كل ما هو جزء من شخصية الملك كظله مثلاً مترع بالقداسة فلا يقوى البشر على الدنو منه .

2- هذه الشخصية الإلهية تتمتع بعلم إلهي فلا تخفى عليها خافية ، ويقول أحد الوزراء أن ( جلالته عليم بكل شيء ، بما حدث وبما يقع ، وليس هناك في الدنيا شيء لا يعلمه ) .

3- إن ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن ينفذ ، بل لابد أن يتحقق فوراً ، ذلك أن مشيئة الملك وإرادته هي القانون ، ولها ما للعقيدة الدينية من قوة وشكيمة .. وهكذا كان لا يسع المواطن المصري العادي إلا التسليم والخضوع لأوامره ونواهيه .

4- ترتب على شخصية الملك الأسطورية نتيجة هامة مفادها أنه لم تكن هناك قواعد قانونية مكتوبة أو مفصلة ، إذ لم تكن هناك حاجة إليها مادامت كلها متمثلة في شخص الإله .

5- كان القضاة يحكمون حسب العادات والتقاليد المحلية التي يرون أنها توافق الإرادة الملكية التي يمكن أن تتغير إذا إقتضت رغبته ذلك .

6- كان الملك هو همزة الوصل الوحيدة بين الناس والآلهة ، فهو الكاهن الأكبر وهو الذي يعين الكهنة لمساعدته ، ولهذا كان من المفاهيم الأساسية أن الإرادة الملكية لا يمكن أن تهدف إلا لسعادة مصر ورخائها .

7- من مجموع ما تقدم يتبين أن فرعون في مصر هو المشرع والمنفذ وهو الذي يحكم القضاء بإسمه وهو الذي يعرف رغبات الآلهة وينفذها وكثيرا ما كان يقول في أوامره لإبنه أو وزيره ( إن الآلهة ترغب في إحقاق الحق وهي تكره أشد الكراهية الأخذ بالوجوه والتحيز ) .

ُيتبع

2011/03/02

(2) هوى الإستبداد .. شرقي السمات

الفيلسوف الفرنسي شارل مونتسكيو
( موقف الطاغية هو موقف ذلك الذي يقطع الشجرة لكي يقطف ثمرة )

السياسي والكاتب البريطاني لورد آكتون
( كل سلطة مفسدة .. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة )

ضرورة السلطة :

يقول مؤلف كتاب الطاغية ( أن الحياة الإنسانية لا بد لها من قدر من التنظيم إن أردنا أن تحقق شيئاً ذا قيمة ، لا أن تكون مجرد عبث لا معنى له أو فوضى تقترب من حياة الحيوان ، لا يقوم نظام دون قانون ، وحيث لا يكون نظام يضل الناس السبيل ، فلا يعرفون كيف يتوجهون ولا يعرفون ما يفعلون ، والخارجون على السلطة كالقراصنة ورجال العصابات لهم قانونهم الخاص الذي لا يستطيعون العيش من دونه ... والتنظيم يحتاج إلى سلطة منظمة إذ لا يمكن تصور المجتمع السياسي بغير سلطة حاكمة تنظمه وتضع له القواعد ، فكما يقول الكاتب الإنجليزي تشيسترتون " لو أن جماعة كانت كلها قادة أبطالاً مثل هانيبال ونابليون ، فمن الأوفق ألا يحكموا جميعاً في وقت واحد " ، لذلك فإن النظام السياسي يفترض حتماً وجود سلطة تتولى إدارة الجماعة وتسير شئونها، وهكذا ينشأ المجتمع السياسي عندما يحدث فيه ما يسميه فقهاء القانون بالإختلاف أو التمايز السياسي ، أي عندما ينقسم هذا المجتمع إلى فئتين : فئة حاكمة تتولى السلطة السياسية وتصدر القرارات والأوامر ، وفئة أخرى محكومة لا يكون لها إلا الطاعة والتنفيذ ، ونظراً إلى ما للسلطة السياسية في الدولة من صفات فقد أطلق عليها الفقه الفرنسي إسم " السيادة " ، وصفة السيادة مقتضاها أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسود عليها شيئ ولا تخصع لأحد ، ولكن تسمو فوق الجميع وتفرض نفسها على الجميع ) .

وينقل المؤلف مثالاً عن الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في مجال التدليل على أهمية التنظيم السياسي الذي هو ضد حالة ضد الإضطراب والفوضي ، ومفاد هذا المثال أنه ( قد جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن ُيترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والإضطراب جميع أنحاء البلاد ، وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية هذه الأيام الخمسة وبعد أن يصل السلب والنهب والإغتصاب إلى آخر مدى فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد ، إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية ) .

ويبدو أن المثال الفارسي كان له – على قدم عهده – وبشكل ما جاذبية أخاذة لدى نفر من السياسيين والقادة الأمنيين المصريين إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 فعمدوا إلى إفراغ الشارع من قوى الأمن المنوط بها أصلاً حفظ النظام وتطبيق القانون فإنتشر الهرج والمرج وبلغ الحرق والسلب والفوضى غايتها ومنتهاها ، وبات الجميع يعيش على وجل إزاء الفراغ الأمني المتعمد حتى أن بعض من الناس كان يتمنى لو يعود الأمن ولو من خلال السلطة المستبدة حتى وإن كان ذلك على حساب الأهداف التي قامت من أجلها الثورة حقناً وذلك حقناً للدماء وطلباً للسكينة والإطمئنان لهول ما رأوا من فوضى ودمار .

ويمضي المؤلف قائلاً أن ( السلطة السياسية في الماضي كانت تختلف بإختلاف الحكام ، فهم يجسدون هذه السلطة ويمارسونها على أنها إمتياز شخصي يكتسبونه بفضل مواهبهم أو أشخاصهم، ومن هنا كانت العصور القديمة لم تكن تفرق بين الحاكم والسلطة .. غير أن تأسيس السلطة والإنتقال من مرحلة السلطة الشخصية التي يتمتع بها الحاكم على أنها ملك له ومرتبطة بشخصه إلى مرحلة السلطة المجردة التي تجد مصدرها في الجماعة ، هذا الإنتقال لم يتم دفعة واحدة ، فقد كان الحاكم كل شيئ في الجماعة ، يمارس عليها سلطة مطلقة يستمدها من شخصيته أو بسبب ما له من قوة مادية أو ما يتمتع به من شجاعة هيأت له الإستيلاء على السلطة ، وإخضاع الأفراد لنفوذه الذي لا حد له ، ولكن هذا الوضع الذي ساد العصور الوسطى الأوروبية لم يكن من الممكن أن يستمر ) .

يُتبع

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة