بقلم : ياسر حجاج
ككل الأشياء الكبيرة ، لا أستطيع التعبير عنها بسهولة ، جغرافية مصطنعة ،
عرفت طريقها إلى أطلس العالم منذ زمن ، لعل الكل منشغل الآن بإعادة رسم الأبعاد ،
وإستبدال البقع الصفراء بخط أزرق دقيق ، جدول جديد نبت في عرق الوطن ، وبرهان على
أن الأصالة لن تجدها فحسب مطمورة في كتب الحكمة التي صاغها الأقدمون ، نظرة إلى الشاطئ
، قدم تلامس حافة المجرى ، فشل قديم في تعلم السباحة ، الإكتفاء بلملمة السمك الذي
وقع أسيراً في شباك الخال رحمه الله ، الثلج المجروش ، رائحة الفجر لدى العودة من
رحلة الصيد .
في العام 1975 .. عدنا إلى الإسماعيلية بعد رحلة هجرة قسرية عقب النكسة ،
تهيأت للحصول على شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية ، وقبل أن أبدأ في التعرف على
معالم مدينتنا التي هجرتها في عمر الرابعة ، يممت وجهي تلقاء بحيرة البلاح المطلة
على القناة لأبدأ رحلة من المرح الطفولى الممزوج بالدهشة والعجب بهذا الممر
الملاحي العتيد ، أذكر أني كثيرا ما كنت أستخدم المنظار المكبر أثناء جلوسي على
الشاطئ قبل الغروب ، حيث كنت ألوح للسفن الأجنبية المارة ، وأولئك النفر هناك
الذين كانوا يعتلون أسطحها ، لا أدري إن كان أحداً منهم قد بادلني التحية .
توالت رحلات الصيد ، وإلتصقت وجدانياً برائحة الماء ، وقبل أن يبلغ بي الحب
الحافة ، هجرة قسرية جديدة لاحت في الأفق ، تعكرت الأجواء ، ولم تُحسب فروق التوقيت
، ولا المقتضيات المرعية ، رُسمت الصورة ، واختيرت الألوان ، بقي الإتفاق على شكل
إطار ، والمكان المناسب للتحنيط على وجه جدار ، لم يكن الأمر على هواي ، كانت
الحركة على الأرض تفرض هيبتها ، لم يكن لي أن ألاطم الريح أنذاك لوقت طويل ، وقبل
أن ترسم الهزيمة المذلة خطوطها الغائرة ، بدأت في خطة إنسحاب ، لا أعلم الآن إن
كان منظماً بدرجة كافية ، لكني على ضوء تحليل النتائج بعد عدة عقود ، أستطيع التأكيد
أنني قد نجوت بنفسي ، ولكن الثمن كان باهظاً .. الحياة كلها ، فقد غادرت المدينة
الرائعة ، للبحث على بصمة وراثية متطابقة ، أزعم الآن أنني لم أجدها .
قناة السويس الموازية هيجت الذكرى ، ونكأت الجراح من جديد ، منذ أيام كنت
قي زيارة لبعض من أفراد العائلة هناك ، كان حديث القناة يتصدر الجلسات ، الآمال
المعقودة كثيرة ، والأماني باتت على مرمى حجر ، عدت إلى الوراء كما هي عادتي ، هل
من عودة قريبة إلى مدينة ميلادي ، وموطن صباي ، ولو حتى في مناسبة كرنفالية ؟ لا
أعتقد هذا ، ففي اليوم الذي يصادف إفتتاح
القناة ، سأكون ُملقىً على مقعد طائرة ، مخلفاً ورائي تاريخ قديم كأنه حبيبات الجمر
المتناثر ، مازالت حرارته تسكن الأمكنة ، وتتسرب إلى الشقوق رغماً عني ، وكمالك
الذي هو خازن النار ، أقف بوجه بارد يعلوه الحياد ، أقلب الجذوة بعود من حديد ،
لكي لا تبرد الذكرى ، ولا يخفت بكاء السنين ، ولتبقى من بعد ذلك أكوام الملح تعالج
الجروح ، ويعلو صوت الأنين .
مدينتي الصغيرة التي تخترق خاصرتها قناة السويس ، لم تتح لي فرصة كافية
لممارسة فنون العناق ، مازال أملي كبير في أن أتمكن من تبيان الخيط الأبيض من
الخيط الأسود ، ومع كل تطمينات الأهل ودعاء الأقربين ، أغادر من جديد ، مخترقاً طرقاً
ومدناً ، هنا ... لافتة صادمة على الطريق تقول : محافظة الإسماعيلية .. صحبتكم
السلامة .