بقلم : ياسر حجاج
الأخبار السعيدة تأتي غالباً متأخرة ، حسن أيضاً
أنها تأتي ، فبعد قرابة الـ35 عاماً لم تنطفئ فيها ليَّ نارُ ، تأتي رسالة من وراء
الحجب تقول لي : أيها العزيز ، كفاك ، فلن تجد على النار هدى .
في ختام مرحلة الدراسة الإعدادية ، أوعز طبيبُ العيون إلى الأسرة بحاجتي إلى
نظارة طبية ، وبحس صبياني لا يخلو من مرح ، رأيت أن إنفجاراً كونياً على وشك
الوقوع ، دبدبتُ بقدمي على الأرض ، أخيراً سأصبح مثقفاً ، فالمثقفون يلبسون نظارات
طبية ، تُرى ما وقع الأمر إذا ما أضيفت أيضاً نكهة بطعم الدخان ! لا شك ستكون
الأمور إستثنائية تماماً ، لنرى ردود الأفعال على محيا بنات الجيران .
لم يكن التدخين في الحقيقة بالنسبة لي يشكل عامل إغراء من أي نوع ، إلا
بالقدر الذي رأيته متناغماً تماماً مع شخصيتي ، فأنا أحب أن أمسك بالسيجارة ولو
غير مشتعلة ، وأضعها في فمي لفترات طويلة ، خامدة دون دخان ، ثم ألهو في عملي
وسائر شأني ، فأتذكر بعد حين أني قد نسيتُ شيئاً ما في فمي ، كانت علبة دخاني وجراب
نظارتي أول توأم ملتصق في حياتي ، تجري الآن عملية فصل بينهما بكل سلاسة .
كمدخن أحتفظُ بالعديد من الذكريات المرتسمة بأعواد الثقاب وخيوط الدخان وبعض
السعال ، أتذكر ملابسي التي لم أعد أستخدمها إثر إكتشاف ثقب هنا أو هناك نتيجة شرر
متطاير ، أو سقوط رماد ، كثيراً ما كنت أشعل سيجارة - من باب المكايدة - لدي سماعي
أي حديث عن التحذيرات الطبية ، والأثار السلبية للتدخين ، تلك الأثار التي كنت
أتفرسُ فيها باسماً وأنا أرسم بدخاني كلمة .. ولو ! .
كمدخن أعرف أن اليوم الأخير من شهر مايو من كل عام ، هو اليوم العالمي
لمكافحة التدخين ، حيث الندوات والحلقات النقاشية والبحثية ذات الصلة ، إليكم عني
هذا العام ، برجاء المحاولة في وقت لاحق .. كثيراً ما كنت أقول ذلك .
كمدخن أحتفظُ في هاتفي المحمول ببعض الأرقام الخاصة بالمراكز الصحية
المتخصصة التي تقدم مساعداتها لمن يريد أو يفكر في الإقلاع عن التدخين ، ولا مرة
واحدة حاولتُ إستخدام أي من هذه الأرقام ، ولو حتى من باب تجلية الأمر ، لم تكن لدي
الرغبة في الحقيقة في شئ من ذلك ، كنت سعيد بهذه الحالة ، ليس بميسور عليًّ أن
أتنازل هكذا عن مكون معنوي هام من مكونات شخصيتي ، أذكر الآن أنه في بداية
الإحتفال بسنة ميلادية جديدة ، كانت أمنيتي الوحيدة ، أن أجدَ وسيلة تمنع سقوط رماد
سجائري بين أزرار الكيبورد الخاص بحاسوبي ، إلى هذا الحد ؟ نعم .
زوجتي سيدة صالحة مستجابة الدعاء ، أنا شاهدٌ على ذلك لربع قرن على الأقل ،
كثيراً ما كانت تُبدي دهشتها من أنه على الرغم من كونها تلهجُ بالدعاء ، وتتخيرُ ساعات الإجابة ، فإن دعاءها لي بالإقلاع عن التدخين ، لم يظهر له أثر ، أو ثمة
إمارة ، الآن يا زوجتي العزيزة إليك المفاجأة ، ففي وقت أدعيتك وتوسلاتك ، كان
هناك وغدٌ في الشرفة ، يدخنُ ويرفع عيناه على إستحياء لمعانقة حافة السماء ، ويدعوا
الله أن لا يستجب .
أذكرُ أنني قد حاولتُ مراراً الإقلاع عن التدخين ، أو تنظيمه على أقل تقدير ،
كافة المحاولات لم يُكتب لها النجاح لأسباب مختلفة ، بمرور الوقت أدركتُ أن الموضوع
بات يشكل خطراً على صحتي النفسية من حيث أنه بهذه المثابة سيُسهم في كسر إرادتي ،
ويجعلني أشعرُ بالضآلة أمام نفسي .
حانت لحظة لم أكن أرتبُ لها ، أو أخططُ لحدوثها ، صلاة الجمعة في الـ14 من
أغسطس الفائت ، تحديداً وقت السجود ، كلمات بسيطة يبدو أنها كانت صادقة ، اللهم
أعني على هذا الأمر ، فرغتُ من أداء الصلاة ، وعدت إلى المنزل مواصلاً حفل التدخين
حتى المساء كالمعتاد ، عدت إلى المسجد مجدداً لصلاة العشاء ، دون دعاء هذه المرة ،
وفي طريق العودة مررت على البقال لشراء علبتي سجائر كالمعتاد ، إذا بي أختار شراء
علبتي زبادي ، صادفت أحد الأصدقاء يشتري سجائره ، قلت له ممازحاً : أما زلت تدخن ؟
، نظر لي بإستغراب وكأنه يستنكر عليَّ سؤالي بحسبانه يعلمُ أنني مدخنةٌ تمشي على
قدمين ، حتى فاجاته : لقد أقلعتُ عن التدخين اليوم ، وقد كان .
الأيام الثلاثة الأولى كانت صعبة للغاية ، لم أكن أطيق أن أبقي على مقعدي ،
ولكنني تماسكتُ وضغطتُ على أعصابي بشدة ، الأمر لم يكن يحتمل أي فشل هذه المرة ،
بمرور الساعات ، كانت تتحسن معنوياتي ، وأقول لنفسي ، أرأيت .. لقد مرت خمس ساعات
الآن بلا دخان ، إستمر ، إنك قادر على إنجاز المهمة ، في اليوم التالي ، نمت لي
خلايا جديدة من الأمل ، وتحليتُ بمزيد من الثقة ، هيا أيها الهمام ، لم يعد يقف في
طريقك شئ ، ها أنت تطيح بقدميك أكثر من ثلاثة عقود من الإحباط والفشل .
كانت ردود الأفعال مرحبة ومشجعة ، وبعضها متوجسة من إخفاقٍ محتمل ، أتتني
تمنيات الأصدقاء والأسرة (بالتثبيت!!) ، وكأنني ذلك الذي لم يعرف طُهرٌ في حياته ،
وهو الآن على وشك أن يعانقَ أثواب الفضيلة للمرةِ الأولى ، ما علينا .. وأياً ما كان
الأمر ، فما أعرفه حقيقة أنني لن أعود مجدداً للعيش على هذا الكوكب ، ذلك أنني قد
إتخذتُ قرار الإقلاع عن التدخين بإرادة حرة ، وليست تحت أية ضغوطات جسدية ، أو
توصيات طبية بائسة ، ومع مرور الشهر الأول ، تبدو الأمور رائعة حقاً ، والقادم لابد أنه
سيكون أروع ، إختبار واحد ينقصني للتأكيد بشكل نهائي على صواب قراري ، وهو أن
أتمكن من الإتيان بوصف دقيق للقبلات من خلال شفاهِ خالية من النيكوتين .