بقلم : ياسر حجاج
إذا كنت في عجلة من أمرك ، فلابد أن خبر تأخر إقلاع طائرتك لأكثر من
ساعة سيثير حفيظتك ، ويجعلك تتململ في مقعدك ، بينما
تطالع عقرب الدقائق الكسول ، وهو لا يدور - كما عهدته - في محجر ساعتك ، أما إن كنت من هواة
التسكع في ردهات المطارات مثلي ، فلابد أن ذات الخبر سيشكل لك دفعة إيجابية ، من أجل أن
تفوز بإطلالة ولو عابرة على المكتبات المجاورة ، هذا ما حدث معي ، فقد تلقفتُ خبر
تأخر إقلاع الطائرة المتجهة من القاهرة للكويت بشئ من الرضا ، من أجل تذكير النفس
بما دأبت عليه قديماً ، من الوقوف والتسمر طويلاً أمام الواجهة الخارجية للمكتبات ،
دون أن تجترئ على الولوج إليها ، لضيق ذات اليد ذاك الزمان .
من المفيد التنويه هنا ، أن لديَّ نظر لا بأس به في بائعي الكتب ، بحكم
المعاشرة ، والمناهدة أحياناً ، فما أن دلفتُ إلى إحدى المكتبات المجاورة لصالة الإنتظار ، حتى لقيني شابٌ في منتصف الثلاثينات بإبتسامة ودودة ، رددتُ عليها
بإيماءة باردة ، تحملُ قدراُ عالياً من الوضوح ، مفادها أنني قد جئت لأتسكع ، لا لأشتري
، أمهلني هذا الشاب قرابة الدقيقتين فقط ، ثم عاد ليسألني السؤال الذي يمثل الجانب الشرير في شخوص بائعي الكتب حول العالم ( عزيزي .. كيف لي أن أساعدك ، هل تبحث عن كتاب ما
بعينه ؟ ) .
ولأنني قد ترقبتُ السؤال مسبقاً بحكم الخبرة ، فقد أعددت له الإجابة مسبقاً أيضاً ،
قلت له : أنني في الحقيقة أبحث عن أية مؤلفات لدان براون ، وقد إخترت هذا الأسم
تحديداً ، لما لاحظته وبنظرة سريعة على أرفف المكتبة خلال الـ 120 ثانية
المنقضية ، من أنه لا توجد مؤلفات لهذا الرجل ، حتى حدثت المفاجأة ، بأن أخرج لي بائع
الكتب (الوغد) ، من خلال بعض الأرفف الخلفية التي لم أرقبها ، ثلاثة من مؤلفات الرجل ، أسقط في
يدي ، وبينما هممتُ - مضطراً - لشراء أحد هذه المؤلفات رفعاً لأي حرج محتمل ، وبينما أتمتم بدعائي المحبب في هكذا حالات (ربي أقم الساعة ! ) ، إذا بعيني اليسرى وقد برقت ، فقد وقعت على إسم أحد أحبابي القدامى ، مكتوب بشكل كبير ومميز على أحد الأغلفة الكلاسيكية ، فلما دنوتُ ، وجدته طبعة حديثة وأنيقة جداً ، صادرة عن دار الشروق لرواية (أولاد
حارتنا) ، للراحل الكبير الأستاذ نجيب محفوظ ، هنا وبكامل إرادتي غبتُ عن الوعي
لثوان ، ودار شريط الذكريات بالأبيض والأسود ، مع إبتسامة موحية ، إذ عاينتُ على الفور ، ذاك الصبي وهو يسرع إلى
منزله فرحاً حاملاً أول كتابين إشتراهما للكاتب الكبير ، من حر مال أبيه ، (ميرامار) ، ومجموعة قصصية بعنوان (بيت سئ السمعة) .
حالت
ظروف عديدة دون تمكني من القراءة المتأنية لهذه الرواية ، ذائعة الصيت ، والمثيرة للجدل في آن ، وقد سررت
أن وقعت عيناي عليها أخيراً ، فإلتقطتها فرحاً ، وما زادني فرحاً حقاً ، أنه
وبينما أقلب الصفحات في نظرة أولية معتادة ، متفحصاً شكل الغلاف ، وجودة الطباعة ،
وبنط الكتابة ، أن وجدت في آخر الرواية (ما يشبه الملحق) ، والذي يتضمن في الحقيقة
مقالتين ممهورتين بتوقيع الأستاذ الدكتور / أحمد كمال أبو المجد ، بحسبانه أحد
أصدقاء الراحل الكبير ، حيث كانت المقالة الأولى بتاريخ 1994/12/29 ومنشورة بجريدة الأهرام ، تحت عنوان (حول أولاد
حارتنا) ، بينما المقالة الأخرى كانت عبارة عن تقديم لذات الرواية ، بناء على طلب
من دار النشر (الشروق) ، حيث جاءت تحت عنوان (هذه الشهادة) ، وكان ذلك في يناير من
عام2006 .
ما لفت نظري في كلتا المقالتين - واللتين لم يسبق لي أن أطلعت على أي منهما - هو ما
أفصح عنه الكاتب الكبير بنفسه ، في معرض التعليق على الإنتقادات اللاذعة التي وجهت
للرواية ، تأسيساً على كونها قد رمزت من خلال أحداثها وشخوصها إلى الخالق سبحانه
أو بعض أنبيائه ، الأمر الذي يأباه المسلمون ، ولا يستسيغون تبريره بحال من
الأحوال .
على المستوى الشخصي ، لست في حاجة إلى أكثر مما ساقه الكاتب الكبير بنفسه ، كاشفاً فيه عن صدق طويته ، وسلامة مقصده ، وأنا هنا أصدقه ، ولقد رأيت أن عرض بعض مما قاله الكاتب الكبير في هذا الشأن ، قد يكون مفيداً لمن يستعد لقراءة أو إعادة قراءة هذا العمل الأدبي الفذ ، أو حتى قد يكون مفيداً لهذا الصنف الذي نفر من الرجل ، وأضمر له العداء ، دون حتى أن يقرأ من هذه الرواية حرفا ، وعلى أية حال فإن ما يلي ، هو نصٌ غير مجتزئ لكاتبنا ، نقلاً عن شهادة الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي كان
حاضراً لجلسة نقاش حول هذه الرواية ، في فترة تعافي كاتبنا من الجراح التي ألمت به جراء محاولة إغتياله الآثمة ، حيث يقول نجيب محفوظ ما نصه :-
( إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا
معهم ، والذين تحدثت عنهم في كتاباتي ، كانوا يعيشون بالإسلام ، ويمارسون قيمه
العليا دون ضجيج ولا كلام كثير ، ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة ، وشجاعة الرأي
وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس ، هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم ) .
ويمضي الكاتب الكبير بعد أن عرج على
أهمية العلم ودوره في مستقبل الشعوب ، فيقول ( إن رواية أولاد حارتنا التي أساء
البعض فهمها ، لم تخرج عن هذه الرؤية ، ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت بها
أحداثها .. أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في "الجبلاوي" ، وتصوروا
أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" ، أن يديروا حياتهم على
أرضهم "التي هي حارتنا" .. إكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر ، وأنه قد أسلمهم إلى إستبداد الحاكم وسلبهم حريتهم ، فعادوا من جديد
يبحثون عن الجبلاوي ) .
ويضيف الكاتب الكبير ( إن مشكلة أولاد
حارتنا منذ البداية أنني كتبتها كرواية ، وقرأها بعض الناس كتاباً ، والرواية
تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز ، وفيه الواقع ، وفيه الخيال ، ولا بأس بهذا
أبداً ، ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها ، لأن كاتبها بإختيار هذه الصيغة الأدبية ، لم يلزم نفسه بهذا أصلاً ، وهو يعبر عن رأيه في
رواية ) .
ويدلل الكاتب الكبير على مراده بالقول ( في
تقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة ، ويكفي أن نذكر منها كتاب "كليلة
ودمنة" ، فهو مثلا يتحدث عن الحاكم ، ويطلق عليه وصف "الأسد" ،
ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا
الحيوان ، منتهيا بالقارئ في آخر المطاف ، إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على
ألسنة الطير والحيوان ، وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي ،
أيا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته ) .
رحمك الله أستاذنا الكبير