2016/01/04

أولاد حارتنا .. ثوبٌ جديد



بقلم : ياسر حجاج
إذا كنت في عجلة من أمرك ، فلابد أن خبر تأخر إقلاع طائرتك لأكثر من ساعة سيثير حفيظتك ، ويجعلك تتململ في مقعدك ، بينما تطالع عقرب الدقائق الكسول ، وهو لا يدور - كما عهدته - في محجر ساعتك ، أما إن كنت من هواة التسكع في ردهات المطارات مثلي ، فلابد أن ذات الخبر سيشكل لك دفعة إيجابية ، من أجل أن تفوز بإطلالة ولو عابرة على المكتبات المجاورة ، هذا ما حدث معي ، فقد تلقفتُ خبر تأخر إقلاع الطائرة المتجهة من القاهرة للكويت بشئ من الرضا ، من أجل تذكير النفس بما دأبت عليه قديماً ، من الوقوف والتسمر طويلاً أمام الواجهة الخارجية للمكتبات ، دون أن تجترئ على الولوج إليها ، لضيق ذات اليد ذاك الزمان .

من المفيد التنويه هنا ، أن لديَّ نظر لا بأس به في بائعي الكتب ، بحكم المعاشرة ، والمناهدة أحياناً ، فما أن دلفتُ إلى إحدى المكتبات المجاورة لصالة الإنتظار ، حتى لقيني شابٌ في منتصف الثلاثينات بإبتسامة ودودة ، رددتُ عليها بإيماءة باردة ، تحملُ قدراُ عالياً من الوضوح ، مفادها أنني قد جئت لأتسكع ، لا لأشتري ، أمهلني هذا الشاب قرابة الدقيقتين فقط ، ثم عاد ليسألني السؤال الذي يمثل الجانب الشرير في شخوص بائعي الكتب حول العالم ( عزيزي .. كيف لي أن أساعدك ، هل تبحث عن كتاب ما بعينه ؟ ) .

ولأنني قد ترقبتُ السؤال مسبقاً بحكم الخبرة ، فقد أعددت له الإجابة مسبقاً أيضاً ، قلت له : أنني في الحقيقة أبحث عن أية مؤلفات لدان براون ، وقد إخترت هذا الأسم تحديداً ، لما لاحظته وبنظرة سريعة على أرفف المكتبة خلال الـ 120 ثانية المنقضية ، من أنه لا توجد مؤلفات لهذا الرجل ، حتى حدثت المفاجأة ، بأن أخرج لي بائع الكتب (الوغد) ، من خلال بعض الأرفف الخلفية التي لم أرقبها ، ثلاثة من مؤلفات الرجل ، أسقط في يدي ، وبينما هممتُ - مضطراً - لشراء أحد هذه المؤلفات رفعاً لأي حرج محتمل ، وبينما أتمتم بدعائي المحبب في هكذا حالات (ربي أقم الساعة ! ) ، إذا بعيني اليسرى وقد برقت ، فقد وقعت على إسم أحد أحبابي القدامى ، مكتوب بشكل كبير ومميز على أحد الأغلفة الكلاسيكية ، فلما دنوتُ ، وجدته طبعة حديثة وأنيقة جداً ، صادرة عن دار الشروق لرواية (أولاد حارتنا) ، للراحل الكبير الأستاذ نجيب محفوظ ، هنا وبكامل إرادتي غبتُ عن الوعي لثوان ، ودار شريط الذكريات بالأبيض والأسود ، مع إبتسامة موحية ، إذ عاينتُ على الفور ، ذاك الصبي وهو يسرع إلى منزله فرحاً حاملاً أول كتابين إشتراهما للكاتب الكبير ، من حر مال أبيه ، (ميرامار) ، ومجموعة قصصية بعنوان (بيت سئ السمعة) .

حالت ظروف عديدة دون تمكني من القراءة المتأنية لهذه الرواية ، ذائعة الصيت ، والمثيرة للجدل في آن ، وقد سررت أن وقعت عيناي عليها أخيراً ، فإلتقطتها فرحاً ، وما زادني فرحاً حقاً ، أنه وبينما أقلب الصفحات في نظرة أولية معتادة ، متفحصاً شكل الغلاف ، وجودة الطباعة ، وبنط الكتابة ، أن وجدت في آخر الرواية (ما يشبه الملحق) ، والذي يتضمن في الحقيقة مقالتين ممهورتين بتوقيع الأستاذ الدكتور / أحمد كمال أبو المجد ، بحسبانه أحد أصدقاء الراحل الكبير ، حيث كانت المقالة الأولى بتاريخ 1994/12/29 ومنشورة بجريدة الأهرام ، تحت عنوان (حول أولاد حارتنا) ، بينما المقالة الأخرى كانت عبارة عن تقديم لذات الرواية ، بناء على طلب من دار النشر (الشروق) ، حيث جاءت تحت عنوان (هذه الشهادة) ، وكان ذلك في يناير من عام2006  .

ما لفت نظري في كلتا المقالتين - واللتين لم يسبق لي أن أطلعت على أي منهما - هو ما أفصح عنه الكاتب الكبير بنفسه ، في معرض التعليق على الإنتقادات اللاذعة التي وجهت للرواية ، تأسيساً على كونها قد رمزت من خلال أحداثها وشخوصها إلى الخالق سبحانه أو بعض أنبيائه ، الأمر الذي يأباه المسلمون ، ولا يستسيغون تبريره بحال من الأحوال .

على المستوى الشخصي ، لست في حاجة إلى أكثر مما ساقه الكاتب الكبير بنفسه ، كاشفاً فيه عن صدق طويته ، وسلامة مقصده ، وأنا هنا أصدقه ، ولقد رأيت أن عرض بعض مما قاله الكاتب الكبير  في هذا الشأن ، قد يكون مفيداً لمن يستعد لقراءة أو إعادة قراءة هذا العمل الأدبي الفذ ، أو حتى قد يكون مفيداً لهذا الصنف الذي نفر من الرجل ، وأضمر له العداء ، دون حتى أن يقرأ من هذه الرواية حرفا ، وعلى أية حال فإن ما يلي ، هو نصٌ غير مجتزئ لكاتبنا ، نقلاً عن شهادة الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي كان حاضراً لجلسة نقاش حول هذه الرواية ، في فترة تعافي كاتبنا من الجراح التي ألمت به جراء محاولة إغتياله الآثمة ، حيث يقول نجيب محفوظ ما نصه :-

( إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم ، والذين تحدثت عنهم في كتاباتي ، كانوا يعيشون بالإسلام ، ويمارسون قيمه العليا دون ضجيج ولا كلام كثير ، ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة ، وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس ، هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم ) .

ويمضي الكاتب الكبير بعد أن عرج على أهمية العلم ودوره في مستقبل الشعوب ، فيقول ( إن رواية أولاد حارتنا التي أساء البعض فهمها ، لم تخرج عن هذه الرؤية ، ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت بها أحداثها .. أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في "الجبلاوي" ، وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" ، أن يديروا حياتهم على أرضهم "التي هي حارتنا" .. إكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر ، وأنه قد أسلمهم إلى إستبداد الحاكم وسلبهم حريتهم ، فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي ) .

ويضيف الكاتب الكبير ( إن مشكلة أولاد حارتنا منذ البداية أنني كتبتها كرواية ، وقرأها بعض الناس كتاباً ، والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز ، وفيه الواقع ، وفيه الخيال ، ولا بأس بهذا أبداً ، ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها ، لأن كاتبها بإختيار هذه الصيغة الأدبية ، لم يلزم نفسه بهذا أصلاً ، وهو يعبر عن رأيه في رواية ) .

ويدلل الكاتب الكبير على مراده بالقول ( في تقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة ، ويكفي أن نذكر منها كتاب "كليلة ودمنة" ، فهو مثلا يتحدث عن الحاكم ، ويطلق عليه وصف "الأسد" ، ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان ، منتهيا بالقارئ في آخر المطاف ، إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان ، وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي ، أيا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته ) .

 رحمك الله أستاذنا الكبير

2016/01/02

الموتُ يطرقُ بابنا

أبي
فبراير 1937 - ديسمبر 2015
بقلم : ياسر حجاج
المسيرُ مهما إستقام ، لابد وأن تقطعه المنعطفات في مرحلة ما ، والرتابة وإن إستطالت ، ستقطع فصولها المملة صرخة بطل يسقط أمام جمهوره ، ثم يشير بيده الكليلة ، وصوته الخفيض ، أن أسدلوا الستار ، فقد إنتهت المهزلة ، فمع مغيب شمس الإثنين الموافق 2015/12/28 ، ناولتني يدُ القدر كتاب الموت ، لأقرأ فصلاً من فصول فقه الجنائـز ، بيد أنني وقبل أن أقلب صفحات الكتاب ، وجدتني ألهجُ بالعبارة الأشهر ( ما أنا بقارئ ! ) نعم .. فقد تدحرجت الحبة الأخيرة من العقد الناظم لجيل الثلاثينات في عائلتنا ، فقد مات هذا الرجل الذي سخر من الحياة بأكثر مما عاشها ، مات هذا الذي سخر من كل شئ ، وأي شئ ، فالريفي النابه ذو القسمات المنبسطة ، الذي سكن المدينة ، عاد إلى الريف من جديد ، ليعاين اللمسات الختامية للوحة التناقضات ، ويسخر من الحياة للمرة الأخيرة .

على كثرة سخطه وتشنيعه على كثير من عادات أهل ريفه ، حيث الميلاد والنشأة ومرتع الصبا ، لم تُفلح المدينة - مع ذلك - في الإنتصار عليه ، كما لم تجرؤ الإعلان عن إنتزاعها له بشكل كامل ، فلم أجده يوماً ريفياً خالصاً ، كما لم أعهده متمديناً صرفاً ، بل عاش على الدوام ، في منزلة ما ، بين المنزلتين ، هناك حيث البقعة المتدرجة في رماديتها ، مؤثراً الهدوء على كل ما سواه ، مجافياً لكل ألوان الفجاجة والصخب  ، لم يكن أبداً صدامياً أو مقتحماً ، تشعر وكأنه في عجلة دائمة من أمره ، ظل على هذا الحال طيلة عمره الذي ناهز الـ 79 عاماً ، نجح خلالها في تشييد بناءه الخاص القائم على فكرة عدم الإندماج ، فقد كان يهوى "رحمه الله" العيش على أطراف الأشياء ، وتخوم الأمكنة .

قبل أسبوعين ، مكالمة هاتفية من أحد الأشقاء ، تحمل رسالة بينة الدلالة (أبوك نفسه يشوفك) ، خلال الـ48  ساعة التالية ، كنت بجواره على فراش مرضه ملبياً ، شعر بكثير من الرضا أن رآني ، صافح وصالح ، وسامح وإستسمح ، أومأ إليَّ أن أقترب ، فلما قربتُ ، أشار لي أن أقترب أكثر ، وكأني به يريد أن يحدثني حديث مودع ، قربت حتى شممتُ أنفاسه ، فإذا به يطبع قبلة على وجنتي فحسب ، أخذتني على الفور رجفة خفيفة ، لم تفلح معها أدمعي المكتومة في إعادتي إلى حال السكون ، فعاينت النار وقد تُوقدت من جوف ماء .

تطلبَ الأمرُ مني نصف قرن ونيف ، هو كل عمري ، لأعرف أن للموت رائحة ، نعم رائحةٌ تسكنُ المكان ، وتعلقُ بكل شئ تقريباً ، الفُرُش والجدران ، النوافذ والأبواب ، ولم تُفلح أعواد الريحان والنعناع ، التي كنتُ أحملها صباح مساء ، من تأجيل العزف المرتقب ، على مقام الصبا الحزين ، وعلى طاولة الغُسل والتكفين ، كان الجلال حاضراً ، والمهابة أكبر من أن تصفها الكلمات ، وبعين مبصرة غير أنها لا ترى ، وبأذن مرهفة غير أنها لا تسمع ، غبتُ عن المشهد مرغماً ، ولفني الصمت إلى أبعد مدى ، وبدا أن الموت الآن يشد رحاله ، بعد أن أنجز المهمة ، وأطلق صيحته المدوية ( أنا أمهر الساخرين) ، (أنا كبير المتهكمين) .

إنا لله وإنا إليه راجعون
والحمد لله رب العالمين

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة