2018/12/13

55 عامًا.. هنا !

بقلم : ياسر حجاج
لا اشعرُ أن الزمن يمر، فكل الأشياء التي أفعلُها الآن، هي ذاتها الأشياء تقريبًا التي دأبتُ على فعلها منذ أكثر من 30 عامًا، وبالتالي فإنني لا أعرفُ في الحقيقة ما الذي يعنيه أن أصل إلى عامي الـ55، والذي بلغته بالفعل قبل أيام. ولا أعرفُ ما هي الطقوس المُصاحبة لبلوغ منتصف العقد السادس! لا أعرفُ أيضًا ما يُسمى بأزمات منتصف العمر، الخبر السعيد هنا، أنني حتى لا أريد أن أعرف !
أحسبني محظوطٌ جدًا، إذ تساوى عندي عمر الـ25 والسن الذي بلغته الآن ! فمن النِعَم العظيمة التي يهبك الله إياها - وإن كنت لا تدركُ ذلك لأول وهلة - أن تكون إنسانًا كلاسيكيًا مُمِلًا، تفكرُ ألف مرةٍ قبل أن تحرك مقعدًا من مكانه إلى حيث وجهة أخرى، وتتريثُ كثيرًا قبل أن تعمدَ إلى تغيير موضع فراشك.
الحقيقة الناصعة التي أراها الآن، أن الكلاسيكيين وحدهم يعيشون طويلًا، وربما أكثر من اللازم ! إذا كانت هناك أخبار مسائية متداولة عن نشوب الحرب العالمية الثالثة في الصباح الباكر، فإنني سأقوم قبل النوم بإعداد فنجان ينسون دافىء، وأُمنيَ نفسي بمشاهدة ممتعة للحظة هلاك الأرض !

تلتبس لديَّ الأفكار حول المعانى الحقيقية للنضوج ! فهل نضجتُ بما فيه الكفاية؟ لا أدري! كل ما أعرفه أن ذات الأفكار البريئة أو الساذجة التي كنتُ أطرحها على نفسي صغيرًا، هي ذاتها الأفكار التي مازالت تحاصرني الآن، لاسيما إذا أقبل الليل !
كيف يطيقُ الناس شرب الحليب، إنه لأمرٌ مُقزز تمامًا، لا يروق لي شكل البيض، ، هل ستتسامح فاتن حمامة عن فارق العمر فيما بيننا لو تقدمتُ لخطبتها! لا أظن المرأة خُلقت من ضلع آدم، فعلى الأرجح جرى إقتطاعها من سياق مسائي لافت، هل سُتتاح لي فرصة لممارسة التنس قبل الرحيل، هل توجد بالجنة قاعات لممارسة رقصة التانجو، هل الجحيم حقيقة ؟ من داخلي أتمنى أن يكون مجازًا، هل سيكون من اللائق كتابة وصيتي على بردية، من أجل مراسم وداع فرعونية !

طوال هذا العمر، أنجزتُ أشياءً عظيمة، فقد إنتهيت من قراءة كُتبٍ في جلسة واحدة مطولة، لا أتعلمُ من أخطائي أبدًا، فمازلتُ حتى الساعة أرتكبُ نفس الحماقات القديمة من خلال شرائي كتبًا للتاريخ والذي لا أصدقه أبدًا ، كما أنني لا أجدُ مُبررًا معقولًا لشراء كميات كبيرة من أطقم فناجين القهوة، لعلها الحالة المزاجية العتيقة.

أهديتُ فتاة كنتُ أحبها قالبًا من الشيكولاته وأنا في عمر الحادية عشر، كان هذا القالب حصيلة مصروفي الشخصي لعدة أيام، أهديته لها ثم إنصرفت دون كلمة واحدة، تمامًا كما يفعل النبلاء. وفيما مرت إحدى صديقات والدتي بجواري، سمعتني أقول : القلب يعشق كل جميل، فإرتبكت المسكينةُ من المفاجآة ووقفت للحظات ثم مضت، فقد كنت وقتها في السنة الأولى من سنوات الدراسة الثانوية.

تزوجت وأنجبت أبناءً وبناتًا رائعين، تجمعني بهم صداقة دافئة ووطيدة، لي زوجة عظيمة تقول أنها مستجابة الدعاء، دائمًا ما آخذ هذا الأمر في الحسبان. أقلعتُ عن التدخين منذ بضعة سنوات، شكل هذا الأمر مصدر فخر لي على الدوام. ليس لدي تفاصيل كثيرة، غاية ما في الأمر أنني قد أتقاعد قريبًا وأحمل لقب (جدو)، ستُتاح لي فرصة لأطلق الرصاص على كتب القانون، وأحرق نصف كتب التراث.سأتفرغ للعناية بحديقة المنزل، وأفكر مليًا في عصابات المافيا الدولية، وجماعات السلام الأخضر، والفرق الصوفية، والحاكم الذي رمى الله به على صفحات وجوهنا، قبل أن نكتشف أنه كان من نسل أفلاطون الحكيم !

2018/11/26

حياتنا الرقمية !



بقلم : ياسر حجاج
يشعرُ الكثيرون بالقلقِ إزاء النمو المتسارع للعالم الإفتراضي من حولهم، مما يضطرهم إلى قضاء أوقاتًا مُتزايدة أمام شاشات حواسبهم. ومع الإضطراد المستمر وتمدد منصات التواصل الإجتماعي، بدا وأن هذا الشعور له ما يُبرره، بالنظر إلى العزلة الإختيارية التي فَرَضت سطوتها على العقول والأفئدة، والتي سرعان ما تحولت إلى عزلة إجبارية حقيقية، إنتزعت الناس من بيئتهم الطبيعية وأعادت زرعهم في بيئة أخرى رقمية، قائمة على ما لا يُمكن حصره من الأكواد والمعادلات الرياضية والتقنيات بالغة الدقة والتعقيد.

ومبعث الشعور بالقلق هنا، هو الخوف من أن تتحول الطبيعة الإنسانية في صورتها الغضة - بحكم الإنخراط في العالم الرقمي - إلى طبيعةٍ جافة أو حادة، لا مكان فيها للمشاعر الطبيعية التي جرى تبريدها حد الجمود، لحساب أيقونات تعبيرية جديدة تفي بمطلوب الناس حال ودوا التعبير عن شعورهم بالسعادة أو الغضب، أو حتى التأمل والمزاح .

من ناحية أخرى، فإن فريقًا من الناس - أنا أحدهم - يرى أن عزلة الإنسان - على أية حال - كانت سابقة بكثير على ظهور عالم الحوسبة السحابية، ومنصات التواصل الإجتماعي، ذلك أن العزلة هي قرار إختياري إبتداءً، يتخذه أحدنا كلما رام الفرار إلى عالمٍ يصنعه بيديه، ويرسم حدوده بخياله، ويرفع أسواره إلى القدر الذي يراه كفيلًا بصون خصوصيته، وما شغف إقتناء الكتب، والإنكباب على القراءة، والإستغراق في الكتابة إلا مظهرًا ما من مظاهر هذه العزلة، وما ينطبق على القراءة ينطبق على غيرها من أنماط العوالم الساحرة التي تتراقص في عيون المحبين وأرباب الدهشة كسائر الفنون من موسيقى ورسم وغيرهما، فكل ما يأخذك من عالمك الواقعي ، ويُغريك بعالم آخر تشتهيه، ليس سوى شكل آخر من أشكال العزلة، التي يمكن توصيفها بالعزلة الناعمة أو الإختيارية.

من ناحية أخرى، فإن العالم الرقمي  - في تقديري - قد ساهم في تقديم خدمة كبيرة لقطاع غير قليل من الناس، ممن لا يُحسنون التواصل الطبيعي أو التلقائي مع أقرانهم، بحكم إختلاف الجنس أو الثقافة أو الدين أو العادات، بل أنه شجع هذا النفر من الناس على الإقتراب أكثر فأكثر من محاولة فهم الآخر، والوقوف على أفكاره، ومناقشته وإبداء التعاطف اللازم حيال قضاياه، وتبني وجهة نظره أحيانًا، بشكل لم يكن من الوارد أو من الصعوبة بمكان حدوثه ضمن عوالمنا الطبيعية الخطرة، ذلك أن العالم الرقمي - على نحو ما - يؤمن لنا جانبًا لا بأس به من الشعور بالثقة، وقدرًا معتبرًا من الشجاعة، بل والمساهمة في تعزيز مفهوم الإتساق مع النفس.

إن قضاء المزيد من الأوقات خلف شاشات الحاسوب، لا ينبغي أن يُنظر إليه دومًا على أنه شيئًا سلبيًا بالمطلق، فلقد تغير العالمُ، وأصبحت الحدود مفهومًا كلاسيكيًا مُضحكًا، وبات مجال الأعمال والإعلام يُنجز في معظمه من خلال هذه العوالم السابحة في الفضاء الرقمي، والأكثر من ذلك أن هذا العالم قد أتاح للناس مصادر كثيرة وبديلة للأخبار، بخلاف ما كان يُراد لهم أن يعلموها، وساعدهم هذا العالم بالتأكيد على كيفية بناء رواية جديدة لكل ما أحاط ويحيط بهم من أحداث، بل وحرضهم على مناقشة كل القضايا دون أن تخالجهم مشاعر الخوف أو الحرج.

 قد لا يكون العالم الرقمي عالمًا مثاليًا، بل ولن يكون، لكنه على الأرجح سيظل أقل توحشًا من عالمنا الذي نظنه صحيًا أو طبيعيًا ! فنحن نعيش - من خلاله - في الأماكن التي تروق لنا، ووفق القانون الذي نسنه بأنفسنا، فنضع حدوده الفاصلة أو نُزيلها، نوسع مساحته أو نُقلصها، نُضفي عليه بهجتنا أو كآبتنا، كل ذلك نفعله بإرادتنا المنفردة وقرارنا الحر. 
ومن نافلة القول هنا، التأكيد على أن هذه الحرية الرقمية على محدوديتها، لا تروق لحكوماتنا وولاة أمورنا، وكيف يروق لهم شيئًا من ذلك، وهم يرونا ننسلخ من تحت سلطانهم، بل ونرفع في وجوههم كروتًا صفراء، فيعمدون إلى محاولة تقييد هذه الحرية أو حتى حصرها في أضيق نطاق ممكن، لكن هذه المحاولات البائسة لن يُكتب لها النجاح، وإلا فلِمَ إنقرض عصر الديناصورات ؟

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة