في منتصف ثمانينات القرن الماضي دعاني زميل
لي بحقوق القاهرة لحضور بروفة حفل غنائي بمسرح الجامعة بمناسبة قرب الإحتفال
بمناسبة وطنية ، ولما شعر هذا الزميل بعدم حماسي لتلبية الدعوة كما كان يتوقع ،
بادرني قائلاً وبمرح لا يخلو من دلالة :-
- أضمن لك أنك لن تندم أبداً على الحضور ، إنه صنف من الأغاني الوطنية
والحماسية الذي يُولد لديك شعوراً وجدانياً بالرغبة في قتل رئيس الجمهورية .
جاوبته وإبتسامة تملؤ وجهي :-
- إن كان
هذا .. فلا بأس .
*****
بعد قليل فكرت فيما قاله زميلي ، وتساءلت لما
خصني بهذه الملاحظة ؟ هل الأمر في النهاية لا يعدو كونه تحفيزاً لطيفاً لي لقبول دعوته
؟ الحقيقة .. لم تكن لدي آنذاك أية مشاريع لقتل رئيس الجمهورية ولا قتل غيره من
أحاد الناس ، ذلك أنني أمارس الإغتيال بطريقة ناعمة لا تجعلني واقعاً تحت طائلة
القانون .
أذكر أني حضرت جانباً من هذه البروفات بحضورعدد
من الطلبة والطالبات ، وبدأت الفعاليات وسط عزف الآلات الموسيقية المتنوعة ،
وبمرور الوقت ، إرتفع منسوب الحماس لدى الجميع تزامناً مع ضجيج الآلات النحاسية والتي
تمنحك شعوراً فورياً يكاد يلامس الحقيقة بأنك بالفعل في أتون معركة تاريخية حقيقية
وليس في مجرد بروفة موسيقية ، كانت القاعة تهتز تقريباً من فرط الموسيقى وإنفعالات
الحضور .
رويداً
رويداً علت الحمرة الوجوه وإختلطت بحبات العرق النازف من الجباه ، وبدأت السواعد
تعلو في الهواء ، والأقدام تدك الأرض بشكل متزامن ومنسجم مع وتيرة الألحان ، وتعالت
الأصوات التي تهتف بالوطن والتاريخ والجغرافيا أحياناً ، وخيل لي أن هذا النوع من
الموسيقى يسد مسامات الجبن ، ويولد نوعاً من الخلايا العصبية الجديدة التي لم تتعود
بعد على الخنوع والإستسلام ، وكأنها تستنهض فينا رواكد الشرف المرؤة ، فتمنحنا
شعوراً مندفعاً وأحياناً متهوراً إلى تغيير كل الأنماط المحبطة من حولنا ولو بشكل
حاد أحياناً .
بارحت البروفة الموسيقية وأنا غارق في مقعدي
، وغبت طواعية عن المشهد لبعض الوقت ، وتذكرت أن الحروب قديماً كانت صفوف
المقاتلين فيها تتقدمها حملة الأعلام والطبول وأحياناً الشعراء ، وذلك لإلهاب حماس
الجنود ، وبث الرعب ربما في صفوف الأعداء ، وفي وسط هذا الصخب تذكرت مقولة صديقي ،
خاطبت نفسي قائلاً :-
أن هذه
النوع من الحفلات أو الفعاليات ليس كفيلاً بدفعك إلى قتل رئيس الجمهورية فحسب ، بل
ربما إلى حرق نصف بلد إن أردت .
خرجت
من بروفة الحقل وقد تلبست بجريمة الشروع في عمل ثوري متهور ، مضت ساعات بعدها أو
إن شئت فأيام وتحللت رويداً رويداً من آثار الجريمة وألقيت من على كاهلي كل عبء
ناء به ، وإخترت العودة إلى وسائلي الخاصة في الإغتيال ( الصمت - الإنزواء -
الإحتقار ) ، لا تتضمن التشريعات الحديثة فيما أعلم أي نصوص عقابية على هكذا وسائل
.
*****
كادت أن تمضي أعوام ثلاثون على هذه الواقعة ،
ولم يكن يدور بخلدي على الإطلاق أنه سيأتي اليوم الذي سأتذكرها فيه بكل تفاصيلها ،
فما الذي حرك الذاكرة إلى الإرتداد إلى الوراء كثيراً هكذا ؟ لا يتعلق الأمر في الواقع ببروفة موسيقية جديدة
حضرتها ، ولا صادفت صديقاً مرحاً يفسر لي الفوائد ولا العوائد من حضور هكذا حفلات ،
بل هو ربما قدر كبير من خيبة الأمل في أن الوطن الآن يسيطر عليه مجموعة من
التافهين والأفاكين الذين يدفعونه إلى المجهول دفعاً ، ويدفعون معه أمثالي إلى إعادة النظر في
وسائلهم الناعمة ، والإنتقال ربما إلى مرحلة معاودة حضور حفلات صاخبة جديدة .. لعل
وعسى .