مازالت سحب كربلاء تداعب خيال الكثيرين من محبي آل بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ومازل بوسعها أن تسيل كثير من المداد على ما كان ، وبوسعي القول أنه لا يمكن إعتبارها - في نظر الشيعة على الأقل - حادثة موسمية أو طقساً سنوياً يجرى ممارسته بمناسبة مقدم شهر الله المحرم الحرام ، إذ شكلت هذه الحادثة ولا تزال حجر الزاوية أو نقطة إلتقاء أفئدة الشيعة بينما يسكبون عبراتهم الحارة ، وتختلج قلوبهم الملتاعة وهم يستذكرون بنزف مشبوب بالعاطفة مصارع جمع من كرائم القوم .
تلقفت يداي بعض من كتبي القديمة التي تحفل بها أرفف مكتبتي لمحاولة قراءة المشهد من جديد ، فكان أحدها للباحث والكاتب الكويتي الشيعي الجاد خليل علي حيدر والمعنون العمامة والصولجان ... المرجعية الشيعية في إيران والعراق ، ورغم أن هذا الكتاب لا يتناول حادثة كربلاء تحديداً موضوعاً له ، وإنما كان يتناول تحليل جيد عن أبرز الأفكار والأشخاص والتطورات المتعلقة بالإجتهاد والتقليد ومؤسسة المرجعية في العالم الشيعي الإثني عشري ، إلا أن الكتاب قد عرج بسرعة على موضوع تجديد النظر في شهادة الإمام الحسين ، ورأيت أنه قد يكون من المناسب أن أستعرض معكم بعض من فقرات هذا الموضوع .
فيذكر المؤلف أن حادثة إستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في العاشر من محرم عام ( 61 هـ 680 م ) في كربلاء ذات أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي ، كما كان عنصر الشهادة في هذه الحادثة ذا جاذبية شديدة لكل الحركات الشيعية التي تحدت النظام القائم ، وذا مركز خاص في الثقافة الشعبية الشيعية عموماً ، وشيعة إيران على وجه الخصوص حيث صارت حادثة كربلاء موضوع تمثيليات عزاء سنوية واسعة النطاق .
ومما تميز به تراث الشيعة الديني تمجيد فضائل البكاء على الحسين ، وقد جاء في الأحاديث المروية في الكتب الموثوقة لديهم مثلاً أن أحد العلماء رأي الإمام الحسين في ما يرى النائم قد ُشفي من كل الطعنات والجراح التي أصيب بها في كربلاء فسأله كيف ُشفيت من كل هذا الجراح بما يشبه المعجزة ؟ فقال الإمام بدموع المعزين فيً .
كما أن العديد من الكتب الشيعية التي تصف مأساة كربلاء تحمل عناوين من قبيل ( مفتاح البكاء ) ، ( طوفان البكاء ) ، ( مثير الأحزان ) ، ( اللهوف ) ، ( محيط البكاء ) ، ( محرق القلوب ) .
وكانت شخصية الحسين وشهادته موضع بحث وتمحيص في الأوساط السنية على مدى قرون طويلة ، فأبو بكر بن عربي (468 هـ - 543 هـ) في كتابه العواصم من القواصم يحاول جاهداً في تجريد ثورة الإمام الحسين من أي إعتبار ، ويرى أن يزيد بن معاوية كان رجلاً شريفاً زاهداً رغم الروايات التاريخية التي حاولت تشويه سمعته ، وأن الحسين قد ثار عليه خلافاً لنصائح صحابة بارزين كإبن عباس وإبن عمر وأخيه بن الحنفية ، وقد إندهش أبو بكر بن عربي كيف أن الحسين إستطاع أن يرجح أهواء أوباش الكوفة على رأي هؤلاء الأفاضل .
أما بن خلدون فيصرح بأن الثورة على يزيد كانت بسبب مساوئه ، ولذا فإن الحسين كان على حق عندما إعتبر أن الثورة على يزيد مسئولية من يملكون القدرة عليها ، لكنه يرى الإمام الحسين قد أخطأ عندما خلط بين أحقيته وإستطاعته ، ومنذ أوائل القرن العشرين ومع حركة التجديد التي إقترنت بإسم جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده تعرض الكثير من المسلمات في تاريخ الإسلام لإعادة النظر بما في ذلك معنى ثورة الحسين .
ويرى د. حميد عنايت الأستاذ السابق للعلوم السياسية في جامعة طهران أن أول كاتب سني في العصر الحديث واجه التفسيرات التقليدية لثورة الإمام الحسين كان الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني(1889م - 1949م) ، فقد كتب المازني في مقال نشره في مجلة الرسالة في إبريل سنة 1936 أنه عندما إستمع لأول مرة في منزل أحد الإيرانيين إلى الروضة أو ( العزيـة ) كما ُتسمى في العراق ودول الخليج فكر في أن ُيمعن النظر ويبحث في أهداف الحسين في ثورته ضد يزيد ، وكان كل ما قرأه في هذا المجال لا يتجاوز مقالاً في مجلة إنجليزية ذكرت أن الحسين بادر بهذا العمل عمداً وقصداً ، وكان يعلم تماماً أنه مهزوم في النهاية ، ويتساءل المازني لماذا ينبغي على الحسين أن يضحي بحياته في سبيل عمل لا طائل من ورائه كهذا ؟ وأهم من هذا لماذا إصطحب أفراد أسرته الأبرياء في مثل هذا السفر شديد الخطر ؟ والأجوبة التي يقدمها المازني ترسم للحسين صورة مؤثرة ويقول أن الإمام يعلم من البداية أن الأوضاع ضده تماماً لكنه لما كان يعتبر حكومة بني أمية فاسدة بلا أخلاق أدرك كثوري شريف أنه ينبغي عليه أن يقدم ما يملكه على طبق من الإخلاص ويجاهد للقضاء على هذه الحكومة الفاسدة ، ومن هنا صارت كل قطرة من دمه وحرف من إسمه وهاتف من ذكراه لغماً في أساس الدولة الأموية .
وبعد المازني أدلى المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد بدلوه فكتب الحسين أبو الشهداء الذي عارض فيه أراء بن خلدون وبرر حتى قرار الحسين بإصطحاب أفراد أسرته إلى كربلاء ، فيذكر أنه كان طبقاً لعادة منذ القدم وحتى قبل الإسلام في بلاد العرب حيث كان المقاتلون يصطحبون أهليهم وذريتهم إلى ميدان القتال كشاهد على عزمهم الشجاع في تحمل الشدائد ، وخلص العقاد إلى أن مصرع الحسين كان ذا أثر مباشر على مصير الدولة الأموية ، وكان الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها .
ُيتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق