في وقت الوحدة تبرز التفاصيل الصغيرة ، وتشي الأركان وحتى الشقوق بكل الأسرار والخبايا ، ويعبق المكان بأبخرة الماضي القريب ، تعود المسلمات القديمة إلى طاولة البحث للتدقيق والقراءة من جديد ، وعلى أثر ذاك التداعي تتهادى الذكريات كأمواج متتالية لا يكاد يتوقف هديرها فتصيب العقل والنفس بإنفصام جزئي عن الواقع ، فتحمل أحدنا مرغماً على العودة إلى الوراء للحظات آخذة بيده لإعادة تفقد الأمكنة وإستراق السمع وإعادة رؤية المشاهد من جديد ، والمدهش أن المشاهد التي تتبدي في ناظرينا هي عين ما كان ، لا تفاصيل زائدة ولا ملفقة ، حفظتها الذاكرة كأي شريط سينمائي عتيق يعيد إستذكار والتذكير بما كان ، ومع هدوء المكان بفعل الوحدة تتسع دائرة الفراغ وتنمو بإمتياز وروعة كل أغرسة الحواس ، وكأن لها دوراً إضافياً أو إستثنائياً لا يظهر إلا في وقت الرهبة والسكون ، فالسمع بات أكثر إرهافاً ووعياً ، كما تنشط هي الأخرى العينان فتراها تدور حول الأمكنة وتتفقد الأشياء بهمة ونشاط ، فتفطن ربما للمرة الأولى إلى تداخل ورمزية ألوان السجاد وتقاسيم ومغزى الأشكال ، وتدقق في الرسومات السريالية للأطفال على كل جدران البيت فترى فيها فناً ومزجاً فريداً لا مجرد عبث وإتساخ ، في زمن الوحدة يغدو مخدعي كأي جزيرة منعزلة لم تطئها من قبل قدم إنسان ، فتموت على ضفافها كل الكلمات ، وتستحيل بدلاً عنها همهمات وتنهدات .
-
بالمنزل بت وحيداً أتسول صوت يأتيني ولو من بعيد ، فيستحيل الصوت صدىً يتردد في أرجاء المكان ، وترتسم في ناظريً على أثر ذلك صور ذات جاذبية لأشباح لطيفة شفافة تمنيت لو شاركتني وحدتي ولكنها لم تفعل حتى الآن ، رجوت قرين نفسي أن يحدثني وإستفززت فيه كل مشاعر غضبي وإحباطي لعله يستجيب ويبدد سكون المكان ويبعث من جديد موات الأشياء والجمادات المحيطة بي فإبتدرني بالصياح :-
- نعم يا قريني .. أما زالت مبتئس .
- وما لي ألا أكون ؟
- لطالما أحببت الوحدة وتغزلت في السكون والركون .. فما حل بك ؟
- لا أدري .. كأن بيً مس يحرضني على الإلتصاق وإعادة الإندماج .
- هيهات .. هيهات ، أبعد هذا العمر تريد إعادة النظر والقفز على حواجز تفننت في بناءها وتعلية أسوارها وإحكام إغلاق أبوابها ؟
- أكان ذلك كله عبثـاً إذن .. أتقصد ذلك ؟
- قد لا يكون عبثاً .. ولكن العبث كل العبث أن تلعب بك رياح الوهم فتصور لك أبنيتك وأسوارك وكأنها مدينة خربة مليئة بالأطلال مسكونة بالأشباح .
- إذن فإنك ترى أن أركن إلى ما أنا فيه فيهلهلني الفراغ والصمت .
- أفضل لك ألف مرة أن تموت في قبر بنيته بيدك من أن تموت في قصر إصطنعه غيرك .
- وما لي ألا أكون ؟
- لطالما أحببت الوحدة وتغزلت في السكون والركون .. فما حل بك ؟
- لا أدري .. كأن بيً مس يحرضني على الإلتصاق وإعادة الإندماج .
- هيهات .. هيهات ، أبعد هذا العمر تريد إعادة النظر والقفز على حواجز تفننت في بناءها وتعلية أسوارها وإحكام إغلاق أبوابها ؟
- أكان ذلك كله عبثـاً إذن .. أتقصد ذلك ؟
- قد لا يكون عبثاً .. ولكن العبث كل العبث أن تلعب بك رياح الوهم فتصور لك أبنيتك وأسوارك وكأنها مدينة خربة مليئة بالأطلال مسكونة بالأشباح .
- إذن فإنك ترى أن أركن إلى ما أنا فيه فيهلهلني الفراغ والصمت .
- أفضل لك ألف مرة أن تموت في قبر بنيته بيدك من أن تموت في قصر إصطنعه غيرك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق