( الرجال والشعوب يتصرفون بحكمة بعد أن يستنفذوا جميع الخيارات الأخرى )
في طريق سعيه إلى الحكمة يرتكب المرء منا الكثير من الحماقات ، ولديه منطق معقول وحجج لطيفة تقوم على فكرة أن الأمر إذا كان يتعلق بأخطاء وعثرات هنا وهناك وصولاً إلى غاية محددة ودقيقة فلا بأس ، ذلك أن الحياة الإنسانية هي بشكل ما حقلاً لغرس ونمو التجارب والخبرات ، وما كان لأي منا أن يصل إلى غايته ومنتهاه إلا بتجريب واسع ونظر يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ ، وأن الإجتهاد مبرر طالما الغاية النهائية تستأهل هذا النوع من التجريب والنظر ، وأنه قلما يبلغ أحدنا حاجته على أية حال دون وقوع خسائر على الطريق .
في ظني أن مقولة أبا إيبان السابقة لا تعني هذا الصنف من الناس ، إنما ما تعنيه هنا هو أن البعض يروم الحكمة لا لذاتها وإنما لأنه ربما لم تعد لديه المزيد من الحماقات لإرتكابها ، وهذا هو الفارق بين أن تكون أخطاؤك مبررة أو متفهمة على اقل تقدير في سبيل وصولك لغاية على الأرجح تكون نبيلة أو مشروعة ، وبين أن يكون إستهدافك الحكمة التي تسعي إليها بمثابة الملاذ الأخير لإستنفاذك كل سبل الحمق الأخرى .
أحياناً تكون الحكمة على مرمى حجر منا ولا نكلف أنفسنا عناء خطوات قليلة لإلتقاطها ، ولربما نرمقها بأبصارنا ولكننا في الحقيقة لا نريد أن نراها ، ونفضل عوضاً عن ذلك أن نجوب الكرة الأرضية طولاً وعرضاً قبل أن نعود إليها من جديد بعد أن نكون قد إستنفذنا طاقة ووقت فيما لا طائل من وراءه ، إن قليل من التبصر والهدوء من شأنهما أن يعيدا إنتاج خلايا جديدة تساعد على الإقتراب أكثر وأكثر من باب الحكمة الكبير ، قد لا تلج هذا الباب ، قد لا تملك حتى القدرة على طرقه ، قد تعجز ربما عن الإحاطة بحدوده ، قد لا تساعدك قدراتك على مجرد النظر إلى مقابضه ومفاتحه ، ولكن لئن تكون أبعد قليلاً من أبواب الحكمة لهو أفضل بكثير من أن تكون قريباً جداً من أبواب الحماقة ، إن نظرة واحدة حولك وفيمن حولك ستثبت لك أن سحب الحماقة تكاد تغطي الجميع الذين يتفاوتون فيما بينهم فقط على مقدار ما يستوعبونه من هذه السحب الأمر الذي سينتج لك مشاهد متنوعة من اللا معقول واللا مفهوم ، يستوي في ذلك الأفراد والمجتمعات والشعوب .
على أية حال فقد ذكرتني هذه المقولة بأحد الحكماء الذي ناظر الإسكندر الأكبر فسأله :-
- ماذا ستفعل بعد أن تغزو مصر ؟
- قال سأغزو بلاد الفرس .
- وماذا ستفعل بعد أن تغزو بلاد الفرس ؟
- قال سأغزو بلاد الروم .
- وماذا ستفعل بعد أن تغزو بلاد الروم ؟
- قال سأستريح .
- فقال له الحكيم ولما لا تستريح من الآن ؟
نعم .. فإذا كان بوسعك أن تسترح الآن ، فلما لا تفعل ذلك الآن ؟ وإذا أمكنك أن تشعر ببعض الغبطة والإرتياح الآن ، فلما المماطلة والتسويف ؟ إن اللحظة التي تنتظرها هي الآن وليست لاحقاً ، ذلك أن اللحظات اللاحقة في الواقع قد لا تأتي أبداً ، وإن أتت فأدركتك فلا توجد ضمانة حقيقية أنها ستكون لحظات راحتك وسعادتك .
*****