( اجعل من نفسك شخصاً نزيهاً
وسوف تتأكد من أن عدد الأوغاد في العالم قد نقص واحداً )
لسوء حظك لا يقدم توماس كارليل هنا
كتيباَ يتضمن السلوكيات والتصرفات التي إن إجتنبتها إنتقلت من قائمة الأوغاد إلى
حيث قائمة أصحاب النزاهة الذهنية والسلوكية ، ويبدو أن ليس بوسعه ولا بوسع غيره أن
يفعل ذلك بسهولة ، ذلك أن الإنسان منا لديه مقدرة عجيبة ومتجددة على إبتكار أنواع
عديدة من الأنماط السلوكية الجانحة ، والمفرطة في غرابتها أحياناً والتي ما كانت
لتدور بخلد من سبقه مهما كان خياله خصباً ولديه المقدرة على التوقع ، فكان من
الطبيعي بناء على ذلك أن يقدم لك كارليل – بدلاً من ذلك - وصفة عامة دون خوض في
التفاصيل ، وحسناً قد فعل ، لأنه بذلك يكون قد ترك لك مسافة تتحسس من خلالها
أنماطك وسلوكياتك وردود أفعالك وإنفعالاتك .
من ناحية أخرى تتجلى عبقرية هذه
المقولة في ترتيب صياغتها ، فقائلها مثلاً لم يقل لك إبتداءاً .. لا تكن وغدا ..
فهو يعتقد انك كذلك بالفعل ، إنما حثك على أن تكون من بين أصحاب النزاهة ً، فأنت -
بحسب كارليل - وغد مفترض إلى أن تتجه إلى الضفة الأخرى ، صحيح أن كارليل لم يقل لك
كيف تفعل ذلك ، ولم يساعدك ولم يقترح لك سبل وحلول مجربة ، إلا أنه على أي حال -
فيما أظن – قد حرضك تحريضاً مرحاً لتفكر في الأمر بجدية وتبحث بنفسك عن السبل
المؤدية إلى أن تكون من بين أصحاب النزاهة ، وترك الأمر لك لستقصي بنفسك السبل
المعينة لك على معالجة الداء الذي تعاني ، هذا بالطبع مع إفتراض جدلي أنك – من حيث
المبدأ - تشعر بوجود هذا الداء أو تستشعر أعراضه ، فإن لم تكن تشعر به أو تستشعره
فإن هذا المقولة لن تقدم لك جديداً .
وتشير المقولة – حسب فهمي – إلى أن
القاعدة السلوكية لعموم البشر هي جنوحهم الفطري إلى الغوغائية وعدم الإنضباط
الذهني والسلوكي ، وفي هذا الأطار فإنه بوسعك بالطبع إختبار هذه المقولة على واقع
الحال ، فتستطيع مثلاً أن تتصفح وجوه من حولك وأن تدر خاطرك ولو قليلاً في الظاهر
من مسالكهم ، وأن تقف على تفاصيلهم وإن بدت لك صغيرة أو ضئيلة ، وصدقني ستجد نفسك
مدفوعاً في مرحلة ما إلى التفكير في هذه المقولة ملياً ، والأمر من بعد متوقف في
الحقيقة على المعيار الذي تقيس به مسالك الآخرين ممن تعرف أو لا تعرف .
ولا تنسى في زحمة تصفحك لوجوه الأخريين أن تدير منظارك
أو عدستك إلى الداخل أي إلى حيث أنت شخصياً ، وبشكل شبه مؤكد ستتأكد من أن كارليل
كان يعنيك أنت بمقولته بصورة من الصور ، وكلما كنت أميناً مع نفسك ومتصالحاً معها
فإنك ستجد كذلك أن لست أقل غوغائية أو حمقاً من الآخريين ، وأرجوا أن لا تتفاجئ إذا وجدت
أن مقولة توماس كارليل هذه لها نصيب كبير من الصحة خاصة عندما تطالع مرآة حمامك .
والغريب أو الطريف أنك قد تجاهد نفسك
في أن تكون شخصاً نزيهاً بالفعل ، وقد يُكتب لك النجاح في شأن ذلك ، إلا أنك قد
تتحول – دونما شعور منك أحياناً – وبفعل بعض الأفكار النمطية إلى وغد كبير ،
ذلك أنك في النهاية إبن مجتمعك وسليل ثقافته ، فإذا كنت تعتقد أن الأتربة لا تعلق
أبداً بنوافذك ، وأن الضجيج مصدره بيت جيرانك ، وأن كل الشرور تسكن في شوارعك الخلفية ، وأن
فقط وطنك نظيف..هادئ..خير..وطاهر ، وأن وجهك دون كل الوجوه يستحق إشراقة الشمس ،
فإنك ورغم نزاهتك السلوكية البادية وحسن نواياك فأنت معنياً ربما أكثر من غيرك
بمقولة كارليل الرائعة .
إن النزاهة الحقيقية هي الشعور الذي يجري
داخل كل نفس منا فتحثها على التنزه عن مواطن الحمق والزلل ، وكل ما من شأنه أن
ينال من مرؤتها ، وبقدر تمكن هذا الشعور من النفس وهيمنته عليها يكون الحكم على
مقدار نزاهة الفرد سلوكياً وذهنياً ، ولن ينطوي الأمر في تقديري على مبالغة إذا
حاولت قبل نومك أن تعدد عشرة أسماء نزيهة ممن تعرف ، ثم تتفاجىء أن النوم قد غلبك
قبل أن تصل إلى الرقم أربعة .
هناك تعليقان (2):
في كل مرة تتجلى روعه كتاباتك يا أبي
إلى الأمام دائماً
شكرا ليلى .. في إنتظار تدويناتك حسب الشكل المتفق عليه .
إرسال تعليق