

يقول أندريه موروا أن المرأة هي خير إمتزاج للعمل اليدوي بالعمل الذهني حيث أنها تسكب روحها ومشاعرها في أداء واجباتها ، والمرأة التي تجيد تدبر بيتها ملكة وخادمة له في آن واحد ، إذ أنها تيسر العمل لزوجها وأطفالها وتقيهم الهموم وتغذيهم وترعاهم .. إنها وزيرة المالية ، فبضلها يتم توازن الميزانية .. وهي وزيرة الفنون الجميلة ، فإليها ترجع فتنة البيت أو المسكن .. وهي وزيرة التربية ، حيث تضطلع بمسئولية تنشئة الأولاد قبل إلتحاقهم بالمدرسة أو الجامعة ، وإليها تنسب براعة البنات أو خيبتهن في مستقبلهن البيتي والزوجي ، والمرأة تفخر عادة بنجاحها في جعل بيتها عالماً صغيراً كاملاً ، كما يفخر السياسي الكبير حين يوفق في تنظيم شئون أمته .. لكن الواقع أن المرأة لا تكاد تعرف طعم الراحة إلا في الأسر التي أوتيت وفرة من المال ، أما فيما عداها فالمرأة لا تكاد تظفر بإجازة من عملها في المتجر أو الشركة ولو ليومين فقط حتى تتلقفها واجبات التنظيف والإصلاح والنهوض بلوازم الأطفال المختلفة ، إضافة إلى مطالب البيت والزوج العاجلة ، علاوة على ما ينبغي للمرأة أن تبذله من جهود لكي لا تبدو بسيطة في مظهرها ، فهي مضطرة إلى أن تعنى دائماً بإنتقاء الثياب الأنيقة ، ولا تهمل في تعهد زينتها ، بل ولا تغفل أيضاً شحذ ذهنها .. ولو أن المرأة أدت جميع المهام المطلوبة منها على خير وجه لما بقيت لها سوى لحظات قلائل من الفراغ ، لكن عزائها عن تعبها أنها تظفر بجزاء جهودها في الحال ، فإنه لمن العجيب حقاً ان ترى كيف تستطيع المرأة الحاذقة - في أيام قلائل وبالنذر اليسير من المال - أن تحيل الممكان الموحش إلى مكان بهيج يحلو العيش فيه .. وهنا يلتقى فن العمل وفن الحب في مجال واحد
إنتهى
متعة العمل ودرجة إتقانه
لا ينسى موروا هنا أن يأتي على ذكر العمل اليدوي من حيث أن هذا العمل سواء أكان بسيطاً أو معقداً فإنه محتوم الأداء ، حسن هذا الأداء أو ساء ، فهناك مثلاً من الوسائل لحفر خندق ما ينطوي على مهارة وما ينطوي على غباء ، تماماً كما أن هناك طرقاً تنم عن عناية وأخرى تنم عن إهمال في إعداد أية محاضرة ، فالسكرتيرة التي تنسخ ما يُملى عليها قد تؤدي مهمتها أداءاً عادياً أو تؤديها أداءاً رائعاً ، فإذا هي حاولت أن تؤدي عملها أحسن مما ينبغي عليها أصبحت فنانة ، وجوزيت على إحسانها بالرضى الدائم ، فهي لم تؤد هذا العمل لرئيسها وإنما لإرضاء نفسها وإمتاعها .. وقد تبلغ دقة العمل درجة من الكمال تمكنها من أن تطغى على سواها ، ويستطرد موروا قائلاً أنا حين أتصور الجنة لا أتمثل صورة مكان تعمره أرواح مجنحة لا هم لها سوى الغناء والعزف ، وإنما تلوح في خاطري صورة مكتب أعمل فيه - دون حساب للزمن - في وضع رواية رائعة لا نهاية لطولها بقوة ودقة قل أن أتمكن منهما في الأرض ، وعلى هذا القياس تكون جنة البستاني بستاناً يعمل فيه على هواه وجنة النجار مقعداً يظهر فنه في صناعته دون تدخل رئيس أو عميل
يتبعومن واجب المساعد أو المرؤوس أن لا يقتصر على توفير البيانات التي يطلب إليه جمعها ، بل عليه أن يجمع البيانات التي قد تلزم فيما بعد ، فيجب عليه أن يسبق أفكار رئيسه ويمهد الطريق لتنفيذها ويبدد الهواجس التي لا داعي لها ويسوي المسائل البسيطة من تلقاء نفسه ، ويبسط الإجراءات اللازمة التي تحوط كل ذوي المراكز الهامة ... والسكرتيرة الكفء المقتدرة هي أكمل مساعد لرئيسها إذ أن دورها لا يقتصر على تلقي ما يُملى عليها وطباعة الرسائل بل أنه يتطلب أيضاً أن ترتب وتنسق ردود الخطابات ، وأن تذكر العناوين وأن تجعل من نفسها دليلاً متحركاً أو أرشيفاً لرئيسها ، وبالإختصار فإنها يجب أن تكون لها كل فضائل رئيس الإدارة والمرأة معاً .. فهي كإمرأة تمتاز ببديهة غريزية لماحة تمكنها من أن تشعر رؤسائها بأنها تحترم إعتدادهم بأنفسهم ، ومن أن تبسط حول مكتبها جواً ترتاح إليه النفوس ... وعليها في الوقت ذاته أن لا تبرز أنوثتها ، إذ أن العمل قد يرتبك إذا ما فطن أحد رؤسائها إلى هذه الأنوثة أكثر مما ينبغي ، ومن ثم لابد لها من الإحتفاظ بالتوازن بين شخصيتها كإمرأة وشخصيتها كموظفة ، وإن كان هذا التوازن شاقاً صعباً في كثير من الأحوال
يتبعإفهم رئيسك وأكمل نقصه
على المرؤوس أياً كانت درجته الوظيفية أن يهيء نفسه ويروضها على أساليب رئيسه في التفكير والعمل فقد تكون الأوامرالتي يتلقاها مبهمة أحياناً ، فيتعين عليه حينئذ أن يترجمها ويجلوها ، وقد تكون إقتراحات عامة تبعث في ظلمات المستقبل ومضات خاطفة أو مؤقتة ، فعليه كذلك أن يستخلص منها توجيهات مفصلة ، وإذا كان الرئيس فظاً أو قاسي الطباع كان على معاونه أن يخفف عمن يتعرضون لإهاناته وفظاظاته ، وأن يُبصر الزائرين - من طرف خفي - بالموضوعات التي ينبغي أن يتحاشوها لتجنب إغضابه ، وينبغي إحترام نزوات الرجل العظيم !! لأن الوقت الذي يلزم لمكافحتها أثمن من أن يبدد ، وخليق بالمرؤوس أن يعمل على فهم رئيسه ومسايرته طالما كان حتماً عليه أن يعاشره ، والموظف الحاذق هو الذي يعرف أي الكلمات يجب أن يتجنبها في وجود رئيسه لأنها تستثير فيه إنفعالات نفسية مؤلمة وتوقظ غضبه ، وهو الذي يعرف كيف يعرض على رئيسه أي موضوع بلباقة بحيث يستثير إهتمامه به ويضمن رضاءه عنه !! وهو ولا شك يدرك أخطاء رئيسه ومواطن ضعفه ولكنه لا يدع هذا الإدراك يقلل من إحترامه له ، بل أنه على العكس يعمل جهد طاقته ليسد النقص الذي في رئيسه
يتبع
يواصل أندريه موروا رحلته الماتعة حول فن العمل فيقول بأنه على المشتغل أن ينأى بنفسه عمن لا عمل لهم سوى تبديد الوقت ، فهم أبداً لا يرحمون ، بل أنهم يسلبون من لا يصدهم آخر لحظة من وقته دون أن يراعوا أنه قد يبرم أجل الأعمال إذا هو ترك وحيداً ، وهم أراذل وقحون لا يتورع الواحد منهم عن سرقة الوقت الذي يمارسونه عن طريق الزيارة أو الهاتف أو الخطابات ، ومن الأخطاء الجسيمة أن نخجل منهم أو نشفق أو نصبر عليهم ، بل يجب أن يعاملوا بكل إزدراء وجفوة ، إذ أن مصاحبتهم ضرب من الإنتحار .
وما أحكم ما قاله جوته في هذا الصدد " أنه من الضرورات اللازمة أن تصد الناس عن أن يزوروك دون إخطار أو إعلان ، إنهم يصرون على أن يشغلونك بشئونهم ، وتملأ زياراتهم رأسك بالأفكار الغريبة عن أفكارك وأنا شخصياً لا أريد مثل هذه الأفكارلأنني أتكبد فوق ما أستطيع كي أصل بأفكاري الخاصة إلى خواتمها الصحيحة " ، ومن أقواله الحكيمة كذلك " أن من شاء أن يعمل للدنيا فليحرص على أن لا تسيطر الدنيا عليه " ولسوف تزداد حكمة هذه النصيحة وضوحاً إذا ما إنقلبت الدنيا تكيل لك اللوم يوم أن تفشل في أمر من الأمور .. ومما يؤثر عن جوته في صدد الزيارات غير المرغوب فيها " أنه إذا أفلح صفيق في أن ينفذ إلى داره - رغم أوامره - لقى من برود الشاعر العظيم ما يبدد رجاءه إذ كان جوته يعقد يديه خلف ظهره ويعرض عن الكلام ، فإذا كان الزائر ذا مكانة تنحنح جوته وغمغم بكلمات قليلة غير واضحة لا تلبث أن تضع للحديث حداً ، ثم أنه كان يقسم الخطابات التي يتلقاها إلى نوعين .. تلك التي تتضمن رجاءاً وكانت تمزق ! وتلك التي تتضمن عروضاً وهذه كان يهملها بلا رد ما لم تكن العروض فيها مما يعود عليه بالنفع ... وقد يقال أن أن مثل الأثرة قسوة وأن هناك من نابهي الذكر من يجيبون عما يتلقون من الرسائل كما أن من الثقلاء من يكونون أهلاً للإهتمام أو العطف .. بل الود .. وكم من الناس عابوا على جوته هذه الخصلة المجافية للإنسانية ، ولكن هذه الخصلة هي ما مكنته تحديداً من أن يؤلف فاوست ، وفيلهلم مايستر .. ثم أن من يضع نفسه بين فكي الأسد لابد أن يؤكل ويموت قبل أن يؤدي رسالته ، والشخص الذي يتملكه حماس قوي للعمل لا يرجوا من سواه إلا ما يعينه ، فهو لا يتنصل قط من عمل مفيد يستطيع أداؤه ولكنه يفر من الأحاديث والإجتماعات ومجالس اللغو ، بل أن جوته يذهب إلى نصح كل ذي عمل بأن يتجاهل الأحداث اليومية ما لم يكن يملك لها علاجاً ، فنحن إذا أضعنا ساعة من كل صباح في الإطلاع على أنباء الحروب البعيدة ، وساعة أخرى في الإشفاق مما قد يترتب عليها من عواقب - ونحن لسنا بالوزراء ولا القادة أو الصحفيين - فلن نؤدي بذلك لوطننا خدمة ما ، بل نضيع ما لا سبيل إلى إسترداده .. نضيع حياتنا القصيرة ، وكفاياتنا المهدرة
يتبع
يقول أندريه موروا أن كتابة تاريخ بلد من البلاد عملاً فوق طاقة البشر عند التفكير فيها لأول وهلة ، لكنك إن قسمتها إلى فترات وعصور ، وبدأت بالفترة التي تعرفها أكثر من سواها ثم أتبعتها بالتي تليها وهكذا فلسوف يدهشك أن تستبين ذات يوم أنك بلغت نهاية الطريق الشاق ، ولن يلبث القلب أن يكتسب جرأة بعد عدد من التجارب ، فالكاتب الذي ألف كثيراً من الكتب لا يخالجه شك ما في قدرته على أن يتم كتاباً شرع في وضعه على إرتقاء ركامات الكتب وكله ثقة في أنه بالغ يوماً ذروتها ، وهكذا هو حال المزارع الذي يقتطع الأعشاب من حقله ، فهو لا ينظر قط إلى الطرف الأقصى من الحقل ، كما أن ربة البيت التي تسعى لتنظيف بيتها إنما تتناول أرفف الأواني رفاً بعد رف
إن الأحمق يستسهل كل شيء ، فينتهي به الأمر إلى صدمات قاسية توقظه من غفلته ، والمتخاذل الخمول يرى كل أمر مستحيلاً فلا يأتي عمله ، أما صاحب الجد فيعلم أن جلائل الأعمال ميسورة ممكنة ، ومن ثم يعكف عليها في حكمة وتؤدة فلا يلبث أن ينجزها ، ولابد من النظام في العمل .. فما أكثر أولئك الذين يشكون من أن الحياة قصيرة ، ولكن كم منهم يعمل عمل الأحياء لثماني ساعات في كل نهار ؟ ، إن ما يستطيع أن يعمله الرجل الذي يجلس إلى مكتبه أو يذهب إلى مصنعه أو متجره منذ ساعة مبكرة من فجر كل يوم ليجل عن الوصف ، بل أن الكاتب الذي يكتب صفحتين فقط في اليوم الواحد ينجز بعد عمر طويل ما أنجزه بلزاك أو فولتير من مؤلفات من حيث الكمية لا من حيث المستوى طبعاً ، ولكن المسألة لا تقتصر على الجلوس إلى المكتب أو الوصول إلى المصنع ، بل لابد من توافر الهدوء ، فإن إنتاج العمل يزداد - إزدياد المتواليات الهندسية - إذا خلا مما يقطع إسترساله ، وهذا صحيح بالنسبة للكاتب الذي يحتاج إلى وقت لينسى العالم الخارجي ويستغرق في أفكاره وتخيلاته ، وهو صحيح كذلك بالنسبة للميكانيكي الذي يبحث عن سر خلل آلة من الآلات ، أو الصانع الذي ُيشغل بتلبية الطلبات المنهالة على إنتاجه ، أما العمل المفكك فلابد أن تظهر فيه آثار التعطل والتوقف التي تخللت إنجازه
يتبعحدد برنامجك
يقول موروا بأنه ولضمان التمسك والإرتباط بالعمل الذي تختاره فإنه يحسن بك من آن إلى آخر أن تكتب جدولاً للأعمال يبين كلا من أهدافك العاجلة أو الآجلة ، حتى إذا رجعت إلى هذا الجدول بعد شهور أو حتى سنين إستطعت أن تدرك مدى قواك وحدودها .. ويجب أن تفصل ذلك الجزء الذي يتطلب عملاً عاجلاً من برنامجك فتركز فيه كل إهتمامك ، وأعمل من أجله كل ما في وسعك وأوقف كل قواك ومواهبك عليه ، أفرغ فيه نفسك وعصارة فؤادك وذهنك في سبيل بلوغ الهدف ، فإذا بلغته ، حق لك أن ترجع لترتاد الطريق الذي قطعته وتملي عينيك من منظره وتتدبر العقبات التي كانت تعترضه ، ولكن لا إرتياد ولا إستطلاع ما لم تكن قد أتممت مهمتك أولاً ..ويستطرد موروا قائلاً .. قد يروق لنا أولئك الذين يبدون إهتماماً بكل شيء، بيد أنه لا يبرم الأعمال ولا ينجز المهام سوى أولئك الذين يقصرون إهتمامهم - في الفترة الواحدة من الزمن - على أمر واحد ، إنهم قد يبلغون في تصميمهم أحياناً حداً يبعث على السأم ، ولكنهم لا يلبثون بتكرار الإقدام أن يوفقوا إلى تحطيم العقبات التي تعرقل تقدمهم ، وعلى المرء أن يؤمن بأن النجاح ممكن ، فأنت إذا أتقنت إختيار هدفك ساعدتك قواك على أن تجتاز الأحداث كي تبلغه وليس من المجدي أن تأخذ على عاتقك السعي إلى أهداف لا سبيل إلى بلوغها ، بل أن هذا المسلك ينطوي على خطر ، إذ أن الفشل قمين بأن يحطم نشاطك وثقتك بنفسك ... خذ مثلاً على ذلك .. إن شاعر ألمانيا الكبيرجوته ينصح الشعراء الناشئين أن يكتبوا الأشعار القصيرة بدلاً من أن يعالجوا القصائد الطويلة ، ويقول (صمويل بتلر) أننا يجب أن نبدأ بخير ما في العنقود من أعناب .. وقد يكون من الأسلم أن نبدأ بأسهل الأجزاء إذا شئنا أن نؤلف كتاباً كبيراً معقداً ، وخليق بنا أن نقسم العمل الطويل الذي يراد منا إنجازه إلى مراحل نركز في كل منها بالتوالي إهتمامنا ، وعندئذ لا ينبغي أن نمد البصر إلى أكثر من حدود المرحلة التي نتولاها في كل مرة مقتدين في ذلك بمتسلق الجبال الذي يحفر في الجليد مواطىء لقدميه ويعزف عن التطلع إلى القمم أو الهبوط ببصره إلى أعماق الوهاد ، لأن المنظر في كلا الحالين قد يروعه .
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي .