كثيرة هي الهزائم التي قد ُتمنى بها الأمم ، وكثيرة أيضاً هي إنكساراتها ، ولكنها مع ذلك تظل حية طالما كانت لديها الرغبة في البقاء والتشبث بأسباب الحياة .. كثيرة ايضاً هي أيضاً أسباب إندحارات الشعوب والأوطان .. وأقلها شأناً هي هزائمها العسكرية ، وتراجعاتها الإقتصادية ، ولكن يبقى هناك نوع من الهزائم إن حدث سيصبح غير قابل للترميم ولا الإصلاح حال إنهزمت أمة ما في لغتها .. إذ اللغة تمثل خط الدفاع الأول لحصون الأمة ، ومخزونها الإسترتيجي الذي لا ينضب ، ولعل القوى الإستعمارية في القرون الغابرة قد إنتبهت لأهمية اللغة للأوطان وللأمم التي تستعمرها ، وعملت جاهدة على طمس هويتها عن طريق تذويب لغاتها ولهجاتها ضمن مشروعها الذي تسميه ثقافياً تارة وحضارياً تارة أخرى .. إلى هنا يبدو الأمر عادياً .. فإن أرادت قوىً ما إذلالك وإضعافك وطمر هويتك فهذا شأنها وتلك مصلحتها شأنها في ذلك شأن أية قوة غاصبة مرت على مسرحي التاريخ والجغرافيا .. وإنك إن يممت وجهك شطر الوطن العربي الذي كان كبيراً لهالك تلك القسمة بين أجزائه والتي تنوعت ما بين (فرنسة - وطلينة - وأنجلزة ) وكل في فلك يسبحون ، حتى لقد وصل الأمر إلى حد إستيعابنا لفهم مفردات اللغات الأجنبية من بعض الشعوب العربية أكثر من إستيعابنا لمفردات لغتهم العربية .. هذا إن تحدثوا بها ، بل أن نطقهم بالعربية الخالصة ستراه ممزوجاً بلكنة أجنبية حتى ليحار المرء ويسائل ذاته أي لغة أسمع ؟ ولعلكم قد سمعتم بعض المطربين العرب وهو يشدون بلغتهم العربية ممزوجة باللغة الفرنسية فيما كان يعرف بالفرانكو آراب في تزاوج غير مقدس ولا شريف .
وبعد أن تحقق الإستقلال لدول الحقبة الإستعمارية وظنوا أنهم أصبحوا على طريق الحرية أو كادوا إستسلموا بطريقة عجيبة لنوع آخر من الإستعمار قد عاد وإتخذ من اللغة هدفاً لا يمكن الإلتفات عنه ، فتأسس الكمونولث البريطاني وهو المنظمة التي تضم في عضويتها كافة المستعمرات البريطانية السابقة الناطقة أو التي أُنطقت بالإنجليزية .
في المقابل لم يضع المستعمر الفرنسي وقتاً فأنشأ الفرانكوفونية للناطقين أو المستنطقين بالفرنسية ، صحيح أن كلتا المنظمتين باتت لهما إهتمامات أخرى إقتصادية وإجتماعية لكن ظلت اللغة هي بؤرة الإهتمام وحجر الزاوية في المشروع ... ولكن المحير أن تبادر أمتنا العربية وهي بكامل قواها العقلية المخدرة أن تأخذ خيار الإنتحار الذاتي المتمثل في إهمالها الذي يأتي شبه متعمد في كثير من الأحيان للغتها ومخزون ثقافتها ، ففي مدارسنا لغة .. وفي منازلنا لغة أخرى .. وفي ملاعبنا ومنتدياتنا لغة ثالثة .. وفي دور عبادتنا لغة رابعة ، وفي الشارع وفضاء المدونات فحدث ولا حرج ، حتى لقد بات الحديث والكتابة بالعربية الفصحى أمراً مثيراً للدهشة ولا أقول السخرية ... والأكثر مدعاة للحزن أن كثير منا ولا أبرىء نفسي كثيراً ما يستسهل إستخدام اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان حتى مع أقرانه من العرب وفي موضوعات تخص بل ومن صميم لغة الضاد ولا أدري السبب وراء ذلك .. هل وجاهة إجتماعية أم تنصل من العربية بحد ذاتها ؟
في ألمانيا مثلاً يستنكف المواطن الألماني العادي من الرد أسئلة الأجانب الزائرين بغير اللغة الألمانية حتى وإن كان على دراية باللغة الأجنبية التي يتحدث بها الزائر .. ليس في الأمر عصبية للقومية الألمانية كما قد يرى البعض ، إنما هو ذلك الإعتزاز بلغة الوطن الأم .. ذلك الإعتزاز الذي أصبحنا نتبرأ منه الآن وكأنه سبة أو نقيصة في جبين وذاكرة الأمة ...على أية حال فهذه ليست دعوة لنبذ تعلم اللغات الأجنبية بالطبع والتي باتت حاجة ملحة في فضائتنا الآخذة في الإتساع ، ولكنها دعوة للملمة الفوضى بشأن تعاطينا مع هذه اللغة العربية الجميلة ، وإن لم نفعل فستكون هذه آخر معاركنا الشريفة ... ولربما سيكون فارس العربية فاروق شوشة عاطلاً عن العمل وربما سيختار التقاعد الإلزامي ، ولن يكون بوسع أحد سماع اللغة العربية إذ تقول
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق