لوحة فنية محنطة على جدار رسمتها يد إنسان ، إنصهرت فيها الألوان ، وتداخلت فيها الأشكال ، مررت عليها متأملاً فقلت بعد هنيهة في دخيلة نفسي يا للروعة ، يا للفنان ، كم كان إنفعاله جميلاً ، أتراها تجربة نفسية أم نتاج وقت أسرف فيه الرسام ؟ مر على اللوحة غيري فرأى فيها أحدهم على ممشى الزهور وحيداً متأملاً سقوط الأمطار ، قال في نفسه يا لعزلة الإنسان ، ومر عليها ثالث غير آبه ولا منتبه ثم إلتفت صارخاً لا .. لا .. ستكون رائعة في غرفة الإستقبال ، ذهب الثلاثة لشراء اللوحة وتملكتهم الرغبة في إقتنائها ، ولكنها لن تكون إلا لواحداً فحسب ، إحتكموا جميعاً إلى الفنان فسأل كل واحد منهم على حدة عن دافعه للشراء :-
الأول : مزج الألوان الرائع وتدرج زرقة السماء وتناغمها مع السحب البيضاء .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثاني : رأيتك في اللوحة سائر منفرداً تنازعتك أسباب العزلة فأويت إلى هناك لعلك تجد الرفيق .
الفنان : ليست لك ، فما عنيت هذا .
الثالث : لم أر فيها شيئاً مما قاله صاحباي ، ولكني وجدت فيها ما يمكن أن يلفت نظر الضيوف والخلان .
الثالث : لم أر فيها شيئاً مما قاله صاحباي ، ولكني وجدت فيها ما يمكن أن يلفت نظر الضيوف والخلان .
الفنان : لا لا ليست لك .
ثم أردف قائلاً .. لقد عالجت اللوحة ما إعتلج في نفسي وأنا أتقدم في العمر ، فكان الممشى هو خط حياتي ، وعن يميني وروداً وأزهار مثلت ربيع شبابي ، وعن يساري أشجار غير مورقة ولا مزهرة مثلت خريف عمري والقادم من أيامي ، فوقفت في الطريق متسائلاً إلى أيهما أنا أقرب ؟ .
***
وهكذا تتعاظم قيمة الأشياء في نفوسنا ، وتكبر المعاني في عيوننا ، وتغدو لها قيمة ملموسة بمعزل تام أحياناً عن صانع الشيء ومبدع المعنى ، فالأشياء إنما تكتسب قيمتها بالمشاهدة والتجربة ، والمعاني كذلك يلمع بريقها بتمريرها على النفوس والأرواح ذات الأحاسيس المرهفة ، وبالتالي فإن أي عمل ولو كان ذا قيمة لا يخضع لميزان البحث والتجريب وإختبار النتائج لجدير بأن ُيلقى في زوايا النسيان ، وأن أي معنىً ولو كان عميق في نبله فلن ُيأبه له ما لم ٌيرصد وقعه على النفوس التي خوطبت به .
إن كل القيم الفردية الهامة في الحياة التي أفرزتها قرائح المبدعين إنما إستمدت ينعها وثمرها من خلال تلقي الناس لها بالقبول وشهادتهم لها بالتفرد والرفعة الأمر الذي يجعل من الناس قديماً وحديثاً تبعاً لذلك شركاء في النجاح لهذا المبدع أو ذاك ، فالناس وليس غيرهم هم من يكتب شهادة ميلاد الفكرة أو النظرية ، وهم وليس غيرهم كذلك من يجز هذا الصنف من العلم أو ذاك ، فهم إبتداءاً مصدر الإلهام والحقول الحقيقية للتجارب الإنسانية التي صاغتها أقلام وريش المبدعين .
فما ما كان لنا مثلاً أن نسمع عن ولي أو شيخ طريقة بدون مريد أو محب ، وما كان لبيت من الشعر أن يجوب الأفاق بدون ُمردد له أو شارحاً لبواطن معانيه أو مستشهداً به ، وما كان لبذرة طيبة أن تعيش ولا أن تأخذ طريقها إلى أفواه الناس ثمرة ً لولا أن هناك مزارعاً مجداً سهر على سقيها وتعدها بالرعاية ، وما كان لوليد لا صنعة له سوى البكاء أن يشب عن الطوق لولا أم رؤوم أو أب شفوق ، فالناس هم مبدأ النجاح وإنتهاؤه ، ولا يعني هذا الكلام بطبيعة الحال إغفال دور المبدعين أنفسهم فهم أصحاب السبق دوماً وذوي اللفتات الفكرية الخلاقة ، فبهم ُتطهى التجارب وُتصاغ المشاعر الإنسانية .
إن لوحة فنية واحدة عبثت بخيال نفر من الناس وهم يحاولون كشف أسرار جمالها ، إلى الحد الذي ربما لم يجل بخاطر الفنان ، كما أن خاطرة عابرة لأحدهم ، أو قطعة نثر مبتسرة لأخر تخضع للتأويل والتحليل إلى القدر الذي يجاوز أحياناً حدود المعقول ، ويجاوز ربما ما عناه أي منهما ، ذلك أننا إنما نرى الشئ بأعيننا نحن وليس بعين صاحبه ، ونتتبع أثره في نفوسنا نحن لا كما وقع في نفس صاحبه ، ونقسه بزوايانا نحن لا كما أراده صاحبه .
ولكن لا بأس من ذلك أيضاً فمجموع هذه الأراء وإن تباينت من شأنها إثراء العمل ورفع قيمته طالما كان هناك أسباب أو مبررات جدية لإبدائها ، وإزاء هذه الحالة النفسية الطريفة أحياناً ننتج أنا وأنت كم لا بأس به من تنظيرات رائعة ورؤىً رقيقة من روافدنا وبنات أفكارنا فنضيفها بسذاجة أو بخفة إلى رصيد وخيال الكاتب أو الفنان ، فيعلوا - من حيث لا ندري - شأنه ونزيد من وتيرة بيع كتبه أو لوحاته دون أن نطلب بالطبع أن نقاسمه أرباحه على الرغم من كوننا بشكل أو بآخر شركاء نجاحه .
هناك تعليقان (2):
بما أنكم قلتكم: أننا [نرى الشئ بأعيننا نحن وليس بعين صاحبه، ونتتبع أثره في نفوسنا نحن لا كما وقع في نفس صاحبه، ونقسه بزوايانا نحن لا كما أراده صاحبه].. إذن فيمكنني اعتبار مقالكم هذا هو مواسات لـ"سراج ونظراءها " ممن لم يحالفهم الحظ في أن يكونوا من أولئك المبدعين .. شنسوي لازم نبرر لأنفسنا :)
عموما هذه التدوينة هي نقيض "لزوم مالالزوم له.. أحيانا"
سراج
بعد التحية
قد يكون الأمر على خلاف ما ذكرتي ، فلا توجد حقوقاً حصرية لمبدعين بذواتهم ، فالمبدع ما ُعرف إبداعه إلا بتتبع أثره في نفوس قرائه فهم من يمنحونه تأشيرة المرور على أي حال ، وهناك من القراء لو تتبعتي أرائهم لهالك كم ما يتمتعون به من حس معجز أحياناً ورهافة تجاوز حتى حدود إبداع من يقرأون له ، ولكنها الحياة ، فلا تأسين يا سراج أنت ونظرائك وإحتفظي بوهج زواياك .
من ناحية مناقضة المقالة لما جاء بلزوم ما يلزم أحياناً ، فأم الأولاد - بعد قراءة تعليقك - لا ترى كذلك - لإختلاف المعني الذي رمت إليه كل منهما ، ولعلك تتفقين أننا وإن كنا نري الأشياء بأعيننا نحن ونتبع أثرها داخلنا نحن ، فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن المشاعر الإنسانية عموماً لا تتشابه إزاء ملمة من الملمات مثلاً ، ووجه الخلاف ربما يكمن في الأثر الذي تحدثه الملمة في نفس كل منا ، فقد تكون عميقة في نفس ، وسطحية في نفس أخرى ، عموماً فالتعليق - من حيث لا تدرين - أوحى لي بفكرة جديدة لعلها تجد طريقها إلى النشر قريباً ، والشكر موصول لك يا سراج .
إرسال تعليق