عبد الرحمن الكواكبي
( ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله ، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله )
*****
تأليه الحاكم في الشرق
1- الحكم الثيوقراطي Theocracy
ظهرت في كل عصر مجموعة من أتباع هذا الدين أو ذاك تلجأ إلى تأويل بعض النصوص الدينية وتقدم إجتهادات شخصية وتفسيرات ذاتية تمكنها من الوصول إلى السلطة فتكون لها مقاليد الأمور ، وهي تستخدم في الأعم الأغلب أحط السبل كالدسائس والقتل والرشوة وإستمالة الأشخاص بالمال أو الإرهاب والنفاق والكذب على الله عز وجل ، والواقع أن هذا النوع من الحكم ينشأ عندما ينقسم المجتمع السياسي إلى قسمين أو فئتين متمايزتين ( حاكمة ومحكومة ) ، والسؤال الذي يظهر هنا ( من أين جاء هذا التمايز ؟ ) وإذا كان الحكام بشراً كالمحكومين فكيف تكون إرادتهم حرة تحدد نفسها بنفسها ، بينما إرادات المحكومين تخضع لهم وتتقيد وتتحدد وفقاً لمشيئتهم ؟ كيف نتصور إرادتين من طبيعة بشرية واحدة ليستا على درجة واحدة ، بل إحداهما تعلو على الأخرى ؟
يقول المؤلف أن أبسط وأسرع إجابة هي أنه لابد أن يكون الحكام من طبيعة غير طبيعة البشر، هكذا تصور القدماء الحاكم من طبيعة إلهية ، فهو إله على الأرض أو هو إبن الله ، ومن هنا جاء سمو إرادته ، فهي سامية لأنها إرادة إلهية عليا ، ثم تدرج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم إختياراً مباشراً ليمارس السلطة بإسمه على الأرض ، وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول أن التفكير قد إتجه أولاً إلى تأسيس السلطة على أساس إلهي ، فقيل أن السلطة مصدرها الله يختار من يشاء لممارستها ، ومادام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين إذ هو منفذ للمشيئة الإلهية ، ولقد لعبت هذه الفكرة دوراً كبيراً في التاريخ ، وقامت عليها السلطة في معظم الحضارات وأقرتها المسيحية في أول عهدها وإن حاربتها فيما بعد ثم إستند إليها الملوك في أوروبا في القرنين 16 ، 17 لتبريرسلطاتهم المطلقة وإختصاصاتهم غير المقيدة .
ويؤكد المؤلف أن هذه الفكرة قد تطورت وإتخذت ثلاث صور متتابعة هي :-
الصورة الأولى : في الأصل كان الحاكم ُيعد من طبيعة إلهية ، فهو لم يكن مختاراً من الإله بل كان هو الإله نفسه ، وقد قامت الحضارات القديمة عموماً في مصر وفارس والهند والصين على أساس هذه النظرية ، وقد ُوجدت هذه الفكرة كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلهاً وإن كان الشرق هو أصلها ومنبعها .
الصورة الثانية : تطورت النظرية مع ظهور المسيحية ولم يعد الحاكم إلهاً أو من طبيعة إلهية ولكنه يستمد سلطته من الله ، فالحاكم إنسان يصطفيه الله ويودعه السلطة ، وفي هذه المرحلة تسمى النظريـة بــــ ( نظرية الحق الإلهي المباشر ) لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة دون تدخل إرادة أخرى في إختياره ومن ثم فهو يحكم بمقتضى هذا الحق الإلهي المباشر .
الصورة الثالثة : منذ العصور الوسطى وأثناء الصراع بين الكنيسة والإمبراطورقامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة وأن السلطة وإن كان مصدرها الله، فإن إختيار الشخص الذي مارسها يكون للشعب ، فالسلطة في ذاتها من الله ولكن الله لا يتدخل مباشرة في إختيار الحاكم ، وإن كان من الممكن أن يرشد الأقراد إلى الطريق الذس يؤدي بهم إلى إختيار حاكم معين ، ومن ثم فإن الله يختار الحاكم بطريقة غير مباشرة ، ويكون الحاكم بناء على ذلك يكون قد تولى السلطة عن طريق الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية أو بمقتضى الحق الإلهي غير المباشر ( نظرية الحق الإلهي غير المباشر ) .
2- تأليه الحاكم في مصر القديمة
كان الملك في مصر الفرعونية إلهاً منذ بداية النظام الملكي فيها ، ولم تكن هذه الألوهية رمزية أو مجازية تشير فقط إلى سلطته المطلقة ومكانته السامية ، بل هي تعبر حرفياً عن عقيدة كانت إحدى السمات التي تميزت بها مصر الفرعونية وهي عقيدة تطورت على مر السنين ، بل هناك من النصوص ما يمجد الملك وتصفه بأنه في وقت واحد مجموعة من الآلهة وليس مجرد إلهاً بينها ، فهو (سيا) إله الإدراك ، وهو (رع) إله الشمس ، وهو (خنوم) خالق البشر ، وهو (باسنث) الآلهة الحامية ، و(سخمت) آلهة العقاب ، ومعنى ذلك أن الفهم والإدراك والحكم الأعلى وإكثار السكان والحماية والعقاب هي كلها من خواص الملك ، والملك هو كل واحد منها فالملك هو ( كل هذه الآلهة ) ، وعندما يعتلي فرعون العرش كان على الناس أن يفرحوا لأن أحد الأرباب أقيم رئيساً على كل البلاد ، ويرافق إسم الملك شارات ترمز إلى ( الحياة والصحة والقوة ) ، كما أن فرعون الذي هو الملك يتحول إلى إله بعد وفاته ، ومن هنا يستحق مناسك العبادة والتكريم الواجبة ، ذلك أنه سيصعد إلى السماء ليتحد بقرص الشمس ويندمج مع أبيه (رع)
ولهذا كله فإن الملك يتسم في مصر بالسمات التالية :-
1- شخصية إلهية مقدسة ، وبالتالي فهو أقدس من أن يخاطبه أحد مباشرة ، بل أن كل ما هو جزء من شخصية الملك كظله مثلاً مترع بالقداسة فلا يقوى البشر على الدنو منه .
2- هذه الشخصية الإلهية تتمتع بعلم إلهي فلا تخفى عليها خافية ، ويقول أحد الوزراء أن ( جلالته عليم بكل شيء ، بما حدث وبما يقع ، وليس هناك في الدنيا شيء لا يعلمه ) .
3- إن ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن ينفذ ، بل لابد أن يتحقق فوراً ، ذلك أن مشيئة الملك وإرادته هي القانون ، ولها ما للعقيدة الدينية من قوة وشكيمة .. وهكذا كان لا يسع المواطن المصري العادي إلا التسليم والخضوع لأوامره ونواهيه .
4- ترتب على شخصية الملك الأسطورية نتيجة هامة مفادها أنه لم تكن هناك قواعد قانونية مكتوبة أو مفصلة ، إذ لم تكن هناك حاجة إليها مادامت كلها متمثلة في شخص الإله .
5- كان القضاة يحكمون حسب العادات والتقاليد المحلية التي يرون أنها توافق الإرادة الملكية التي يمكن أن تتغير إذا إقتضت رغبته ذلك .
6- كان الملك هو همزة الوصل الوحيدة بين الناس والآلهة ، فهو الكاهن الأكبر وهو الذي يعين الكهنة لمساعدته ، ولهذا كان من المفاهيم الأساسية أن الإرادة الملكية لا يمكن أن تهدف إلا لسعادة مصر ورخائها .
7- من مجموع ما تقدم يتبين أن فرعون في مصر هو المشرع والمنفذ وهو الذي يحكم القضاء بإسمه وهو الذي يعرف رغبات الآلهة وينفذها وكثيرا ما كان يقول في أوامره لإبنه أو وزيره ( إن الآلهة ترغب في إحقاق الحق وهي تكره أشد الكراهية الأخذ بالوجوه والتحيز ) .
ُيتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق