بقلم : ياسر حجاج
هكذا إذن .. لا تندلع الثورات الشعبية من باب المحاولة لممارسة ترفاً فكرياً أو حركياً ، او كسراً لحالة من الملل أو الإسترخاء الجماعي ،
فالثورات تقوم فعلاً لدواعي جدية وحقيقية بغرض إحداث قدر من
السيولة لمعالجة تجلط الرؤى والأحلام في جسد الأوطان ، ورغبة في إنهاء العمل
بتفاعل كمياء العلاقة غير المتكافئة بين الذئب والحملان ، والشعوب في الحقيقة ليست بالضرورة صاحبة فن في هذا النوع من
المعالجات ، إنما يندفع أكثرهم لأغراض عديدة ومتباينة ليس غايتها النهائية سوى
الرغبة في تغيير قواعد اللعبة ، بحيث لا يبدو الأمر فيها دائماً وكأنها مباراة من طرف واحد ليست الشعوب فيها
سوى الجانب المنهزم دائماً .
وبقدر ما تكون الآلام موجعة وطويلة ، يكون النفس الشعبي حيالها عميق
وحار ، وفي تقديري أن الثورات الشعبية التي تأتي بعد ليل طويل من المعاناة والمكابدة، وعلى الرغم من كونها تعبر وبكل
شغف عن مكامن المرؤة في نفوس الناس ، فإنها تعبر كذلك وبشكل ما
عن أن هذه المرؤة المنتفضة قد خلدت إلى الإسترخاء زمناً طويلاً ودخلت - وإن كانت مضطرة - في طور اللا وعي الطويل ، وعندما بلغ الأمر بالشعوب
مبلغه وصار الإسترخاء هو والموت بمعنىً واحداً ، وأن
الحياة بصيغتها الراهنة لا تختلف كثيراً عن اللا حياة ، يهب الناس إزاء ذلك للسير في إتجاه
عكسي لحركة الزمن الرتيبة ليس فحسب بغرض للدفاع عن حرياتهم ، وإسترجاع حقوقهم بقدر
هبتم للتأكيد على أن ما يجري في عروقهم دماً حاراً ، وليس ماءاً بارداً .
والثورة كذلك هي بمعنىً من المعاني ، نوع من الثأر، فالشعوب وبعدما
إبتلعت على مضض ومرغمة كل أنواع الهزائم ، وأضحت على أثر ذلك متخمة بالتراجع ،
تراها تدخل بعد حين في مرحلة التشبع في حدها الأقصى ، وتضحى غير قادرة على مضغ المزيد ، فتقرر في لحظة ثورية فارقة ، أن تتقيئ كل إحباطاتها وتقلب الطاولة في وجه الجميع ،
وعلى نحو تراجيدي أحياناً متجاوزة به حتى الخط الذي يعيد إليها
عافيتها ونبضها ، ولأن الثأر يشكل لوناً لافتاً وغير مفهوم أحياناً لدى قطاع غير قليل من المصريين ، فإنه يظل
يراود أفكار الكثيرين منهم ، ويضغط على مخيلتهم من أجل
إنفاذه في حق من يعتقدون أنه إستلبهم شرفهم وكرامتهم .
إن الهبات والإنتفاضات الشعبية تحمل في البدء ، معنى الثورة على دواخل المنتفضين أنفسهم قبل غيرهم ، وكأنهم يريدون
بفعلهم تحرير منابت مرؤتهم ، وإطلاق سراح إنسانيتهم التي تيبست من أصفاد السكون والتعامي والإسترخاء الطويل
، ومن هنا ربما تأتي الأهمية المتعاظمة للعكوف بجد وإجتهاد على إعداد كشف حساب
سريع ودقيق ومتجدد مع النفس ، ومع الغير لا من أجل العمل على إستئصال أيقونات
ورموز الفساد وحسب ، بل وقبل كل شئ البحث في الأسباب التي دعت كل واحد منا إلى أن
يصم أذنيه عن سماع أنين المعذبين ، ويعصب عينيه ، فلا يرى المخازي والمآسي ، ويحجر
على لسانه فلا ينطق بالحق في وجه الذئاب الظالمة ، إن كشف حساب من هذا القبيل ربما
يكون كفيلاً بالوصول إلى حالة صحية مجتمعية على المدى
البعيد ، ذلك أن معالجة الأمراض رغم ضرورتها المنطقية ، فإنها يجب ألا تُشغل الطواقم الطبية المعالجة عن النظر بجد في
الأعراض التي سبقتها ، وبخلاف ذلك سيظل الوطن كله في حالة موت إفتراضي يشكل
المواطنون فيه وبشكل رئيسي أكبر نسبة من شعوب العالم تعيش متصلة بأجهزة تنفس صناعي
، بحسبانها غائبة عن الوعي .
بدت لي الثورة المصرية كحال لوحة فنية ، أبى كل الفنانون الثوريون ، وحتى
غير الثوريين منهم ، إلا أن يخطو بها خطاً ولو بدا غير متسق ، أو رسماً وإن كان غير ذا دلالة ، أو بقعة لون وإن
كانت صارخة ، وأراد كل منهم وعلى طريقته أن يسجل شهادته على الثورة ، ويوثق وفق
رؤاه الإبداعية الثورية الخاصة به معنىً مفاده : لا تنسوا ... فلقد مررت من هنا ، مشيراً إلى ميادين الثورة ، وللحديث تتمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق