إبقلم : ياسر حجاج
إذن فأبو الهول قرر العدول عن إستقالته ، وبادر بترك مكانه الذي ربض
فيه طويلاً ليكتشف بأن الفضاء أرحب كثيراً مما كان يتخيل أو يرجوا ، فنفض عنه غبار
تاريخه وجغرافيته ، ليتعلم فنون جديدة ما حسب فرعون وبيت الملك كله أنه قادر عليها
، فنهض ، وأول ما فعله أن أعلن كفره بكل الترانيم والتمتمات التي كان الكهنة
يقتاتون منها وعليها ، ولأن الكفر ليس غاية في ذاته فكان على أبو الهول أن يبحث له
عن دين جديد .
فرأيته بحث ونقب ، درس وتعلم ، ثم أيقن أن دينه الجديد ، ليس سوى
الصراخ على نفسه وفيمن حوله ، سمع صراخه بيت الملك والحاشية ، وإهتزت معه كل قباب
المعابد ، وظل الخلق يرقبون الصراخ القادم من الشرق ، صراخ فتت الأوصال الجامدة ،
صراخ صدع الأبنية العتيقة ، صراخ بلا صدى ، فالصدى نفسه كان صراخاً ، وإصطحب أبو
الهول معه أتباعه ممن ملوا النظر إليهم كمجرد حجارة تاريخية مليئة بالنقوش الجميلة
، والحكم والعبر التي تجري على ألسن الناس مثلاً ومثالاً .
غادر أبو الهول وصحبه على مركب للشمس صبيحة ليلة دافئة في إتجاه طيبة
الجديدة ليوصل رسالة لفرعون وهامان وجنودهما مفادها بأنهم لن يكونوا بوسهم بعد
الآن الإنخراط في جيش للسخرة لبناء هرم رابع ، وبأنه سيجرى كذلك النظر في كتابة
تاريخ جديد على أعمدة المعابد ليس لبيت الحكم وحاشية الملك أي ذكر فيها ، وقرر أبو
الهول ضمن أجندته المعلنة العمل على إعادة ترميم أنفه التي جًدعت بفعل نيران
الحملة الفرنسية على مصر أولاً ، ثم التي جُدعت مرات ومرات بينما كان الفرعون
الأخير يلهو ويعبث .
ليس على ورق من البردى هذه المرة سيكتب أبو الهول شكايته ، ولن يقف
طويلاً خارج أبواب القصر ليسمح له بالبوح والإسرار ، إنما قرر الخروج في نزهة
جنائزية ليقول لبيت الحكم كله كفاكم فإن التحنيط فن للموتى وليس للأحياء ، وأن
كهنة معابدكم ما عادوا يمثلون الإله على الأرض ، وأن الأنهار التي كانت تجري بين
ايديكم ومن تحت أرجلكم آن لها أن تتحول إلى فعل هادر وبعكس وظائفها الإفتراضية
المقترنة دائماً بالمتعة والتأمل اللا محدود ، وأن صوامع غلالكم التي حجبتموها عنا
هي أضعف من أن تهبكم يوماً آخر للشبع والراحة ... هذه ربما كلمات حدث بها أبو
الهول نفسه وضاعت في ضجيج الصراخ الذي بات لوناً تعبيراً جديداً ومظهراً من مظاهر
البلاغة الحديثة التي قلبت قواعد اللغة والتعاطي أخذاً ورداً ، وسقط الفرعون
السقطة التي لم تكن محل شك كبير ، ومازال دوي وصخب السقوط يغطي كثيراً على مخازي
بيت حكمه وحاشيته ، وللحديث تتمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق