تكثر مرويات التاريخ التي تنقل لنا الواقعة
التي كانت جزء من مشهد أدى لاحقاً إلى ترسيخ الحكم المطلق في دولة الإسلام ،
وإقرار مبدأ توريث الحكم دون مواربة ، ففي قصر الخلافة بدمشق كان معاوية بن أبي
سفيان يعد العدة لولده يزيد لتولي ولاية العهد ، ثم إمارة المؤمنين من بعده ليصبح
خليفة للمسلمين ، ويبدو أنه كان يستشعر المعارضة لهذه الخطوة من قبل جمع من صحابة
النبي صلي الله عليه وآله وسلم على إعتبار أن من بينهم من هو أحق بالخلافة من ولده
، وأن ترك الأمر لشورى جماعة المسلمين لهو خير من فرض خليفة عليهم بحكم الأمر
الواقع ، إلا أن معاوية على الرغم من ذلك فتح قصر الحكم للوفود لتزكية ولده يزيد بولاية
العهد ، وهي الخطوة التي لم يسبقه إليها أحد ممن تولى الخلافة قبله .
كان من بين الحضور في قصر الحكم رجلاً
فيما يبدو أتى ممثلاً لإحدى الجماعات أو القبائل التي وفدت لمباركة خطوة معاوية بن
أبي سفيان وتقديم بيعة مبكرة لولده ، حيث بادر الرجل الجميع بخطبة غاية في القصر..
آية في البلاغة ، إذا قال مخاطباً جميع من حضروا :-
( أمير
المؤمنيـن هذا ) وأشار إلى معاوية .
( فإن
هــــــــلك فهذا ) وأشار إلى يزيد .
( فمن
أبـــــــى فهذا ) وأشار إلي سيفه .
وهنا
بادره معاوية بالقول ( إجلس .. فأنت سيد الخطباء ) .
كان الرجل في تأييده لخطة معاوية
صريحاً ، واقعياً ، وربما حاداً ، لكنه لم يكن – بأي حال – لا مناوراً ولا
متلاعباً ، بل أنه ومنذ اللحظة الأولى أفصح عن موقفه بوضوح ودون أن يضطر إلى
مماحكات ومناكفات وتطمينات ولا حلول وسط ، ولا أعتقد أن واحداً منكم سيكون بحاجة
لبذل جهد إستثنائي لفهم مراد الرجل .
وأنا في الحقيقة أرتاح أكثر إلى هذا
النمط من التفكير ، فمن تقابلهم في حياتك على هذه الشاكلة ، وإن بدوا لك مباشرين
أكثر من اللازم سيكونون أيسر في التعامل والتعاطي معهم من حيث وضوح الرأي الذي
يتبناه أي منهم ، أو حدود القضية التي يدافعون عنها ، وسيسهل عليك بالتالي
مناقشتهم أو مناظرتهم ضمن أطر واضحة وليست مائعة أو ملتبسة ، ومن حقك بطبيعة الحال
أن تختلف أو تتفق مع هذا الصنف من الناس كيفما شئت ، ولكن صدقني ستشعر في مرحلة ما
أنك تمارس مبارزة مع فارس عاقل متصالحاً مع نفسه ، متسقة مواقفه مع أفكاره ، يعرف
ما يريد ، ويدافع عما يريد بكل قوة ووضوح .
ولعل أهم ما لفت نظري في هذه الواقعة
أن الخطيب سالف الذكر لم يلعب على وتر المشاعر الدينية للحضور ، إذ كان بوسعه
مثلاً أن يُذكر الجميع بأن من تُطلب له البيعة في هذا المقام هو إبن لأحد كتاب
الوحي ، وأن عمته هي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإحدى إمهات المؤمنين وذلك
بنص القرآن الكريم ، وأن لأبيه من المناقب ما له ، لكن الرجل آثر فيما يبدو الولوج
مباشرة إلى صلب القضية ومربط الفرس دون المرور على تخريجات أو حيل ممجوجة .
نسيج آخر من الناس يسيرون صوب ذات الهدف وهو هنا الزعامة أو الرئاسة أو التمكين بمفهومه العام والشامل ، إنما هذه المرة بطرق إلتفافية وغير نزيهة ، فهم في مسيرهم يعرجون بك أولاً على المضامين والتأويلات ، ويستدعون لك كل الرموز التي تقتل في نفسك وبشكل مسبق أي نية للمعارضة أو التحدي أو حتى مجرد النقاش ، حيث يجري بغرابة شديدة تاويل النصوص ذات القدسية والمكانة العالية في نفوس المؤمنين بها لتتناسب والغاية التي ينشدونها ، فلا تملك أنت حيالها سوى التصديق والقبول والإقرار ، ومن ذا الذي يملك في نفسه شجاعة الوقوف حيال نص مقدس أو حتى رمز ديني معتبر صُور له إفتراءاً أنه يناسب واقع الحال أو المآل ؟ .
وبعد فترة تنطلي الخديعة على بسطاء
الناس وعامتهم ، فيُعاد بخبث إعادة تموضع عمل حواسك الخمس ، وتغيير مواطن الفهم
والإستشعار داخلك ، وعليه فإنك – وفي ظل هؤلاء - لن تبصر بالضرورة بعينيك ، ولن
تسمع حتماً بأذنيك ، وستكون مطلقاً من كل قيد يفرضه عليه عقلك أو توجهه إليك فطرتك
السليمة ، وتصبح يقيناً ضحية لذوي الوجوه الباردة منزوعة الملامح ، ويخبرك
التاريخ المدهش أن أصحاب هذه الوجوه على تباين الحقب التي عاشوا فيها ، فأنهم
غالباً ما إستخدموا ذات الوسائل والحيل ، وأياً ما كانت درجة التقدم الفكري
الإنساني أو تخلفه في عهد من العهود ، فإن ذات البضاعة لطالما كانت جاهزة للتسويق
والعرض متى دعت الحاجة إلى ذلك ، فيستخدم الدين كمحرض مثلاُ على
الثورة أو التغيير ضد الأنظمة الفاسدة والمستبدة ، وهو ذاته الذي يُستخدم أحياناً
للإبقاء على هذه الأنظمة وتبرير إستمراريتها .
إن دين الله يجب أن يظل بمنأىً عن
التلاعب والتوظيف والصفقات ، فهذا الرابط الروحي الشفاف بين الله وخلقه أكثر نبلاً
من ألاعيب بعض الساسة المتأسلمون المتماحكون المتوائمون المدلسون الكذابون ،
فليأخذوا الرئاسة ويتوسدوا مساند الحكم كيفما رغبوا أو شاءوا ، ولكن لا يقولون لنا
أن هذا كان عهد الله لهم ، أو أنهم أبناء الله أو أحباؤه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق