بقلم : ياسر حجاج
من
البديهي العقلي ، ومن المعلوم من الوعي بالضرورة ، التأكيد على أن التاريخ ، أي
تاريخ ، أياً ما كان زمانه أو مكانه ، لا يخص أمة بعينها ، وإن كانت صاحبته ، ولا
يتعلق بدين بذاته ، وإن كان نتاجه ، ولا ملتصق بعرق خاص ، وإن كان وعاؤه .
فالتاريخ ليس سوى لفافات إنسانية محضة ، يجرى تلقفها وتناولها
وتداولها ، من حقبة لحقبة ، ومن جيل لآخر ، فالتاريخ
إرث بعرض الوجود ، وبعمق التجربة الإنسانية ، فهو ينتقل لا لذوي الأرحام والقرابات
فحسب ، وإنما لكل أحد كان لديه إهتمام كافِ بطرح أسئلة من عينة ( ماذا - متى - من - كيف
- لماذا ) .
وعليه ، فإني لا أعتقد ، انك ستكون على صواب ، إن قلت لي أن ما
يُشغلك في التاريخ ، هو فقط ما يخص ماضي أمتك أنت ، أو دينك أنت ، أو عرقك أنت ، وإن قلت لي أنك إنما تقف عند حدود إهتماماتك الضيقة ، أو
حاجاتك الخاصة ، قاطعاً بذلك كل صلة بما هو خارج عما تعتقد أنه الأكثر قرباً لك ،
أو إلتصاقاً بك ، فظني أنك ستكون بحاجة عاجلة لمراجعة نهجك المعرفي ، ويا حبذا لو
ألقيت نظرة متأملة على المعين الذي تنهل منه ، فلعلك تدرك وقتها كم كان قاصراً ،
ضيقاً ، ومتحيزاً .
إن حياتنا التي نحياها في هذه الدنيا ، جد قصيرة ، ولن تُتاح لك
بالتأكيد تلك الأعمار الطويلة ، لتخوض غمار كل التجارب ، وتعاين بنفسك كل المشاهد
، وبالقطع فإنك ستغادر - يوماً ما - وسيكون هناك العديد مما لم تره أو تسمع عنه ،
أو حتى تتفاعل معه ، وهنا يأتي دور التاريخ ليحل لك جزء من هذا الإشكال ، فيضعك
أمام مرآة الزمن ، فتدرك تماماً كم تتشابه - فيما بينك والآخرين - الآمال والطموحات
، وتتقارب فيها إلى حد بعيد الآلام والملمات ، فتجربة
أحدهم الإنسانية في جهة ما ، أياً ما كان موضوعها ، قد تكون ملهمة لك بشكل أو بآخر
، كما أن ألمك أنت ، وإن شئت فأملك ، قد يكون أحدهما أو كليهما ، محل اهتمام أو
شغف أحد آخر ، هنا او هناك .
المقدمة السابقة ، أملتها مشاعر دافئة إجتاحتني ، بعد أن دلف إلى
خزانة كتبي ، سِفرجديد للتاريخ ، ووافدي الذي أحتفى به معكم الآن ، ليس كتاب للتاريخ
بالمعنى التقليدي الممل ، بل إن شئت ، فهو قارب عتيق لا يخلو من أناقة ملفتة ، حيث
يتناوب على قيادة دفته ، الأعلام من كل صنف ولون ، قادة ومفكرون ، فلاسفة وسياسيون
، حكماء وخطباء ، ملوك وسفاكو دماء ، ويستأذنك المؤلف - عبر 40 فصلاً - أن يتولى القيادة في كل فصل منها واحداً أو أكثر
من هؤلاء .
سيكون هذا الكتاب مفيداً جداً لك ، إن أردت الإلمام بشئ عن روما
وأثينا القديمتين ، وسيكون لديك قدر من الإلمام المفيد حقاً عن حكمة بوذا
وكونفشيوس وسحر الشرق بوجه عام ، ولعل من الجميل أيضاً أن تُلقي نظرة عابرة على السوميريين
، والأشوريين ، والبابليين ، والفينيقيين ، وسيصطحبك الأسكندر الأكبر في كثير من
غزواته وفتوحاته ، ستتعرف عن كثب ، كم هو رائع نهر النيل العظيم ، وستعرف معلومات
قيمة حقاً عن الفراعيين ، كما أن فارس وغيرها كانت حاضرة في كثير من المشاهد ، ولم
تغب بالتأكيد حقبة عصر النهضة الأوروبية ، وغير ذلك كثير .
342 صفحة ، عشرات من الصور ، وخرائط المعارك والفتوحات ، وجداول
مُعَربة للعديد من الإصطلاحات والعبارات الإنجليزية الشهيرة الواردة في سياق الكتاب ،
ماذا تريد أفضل من هكذا كتاب تهديه لأولادك ؟ .
ونصيحتي ، أن لو يا حبذا لو ألقيت على مسامع زوجتك (زوجك) قبل النوم ،
بعض من فصوله القصيرة ، بدلاً من الإستغراق اللا معقول في قراءة فواتير إستهلاك الكهرباء
والهاتف .
إي إتش جومبريتش |
إن كتاب (مختصر تاريخ العالم) للمؤرخ والمفكر البريطاني إي إتش
جومبريتش ، هو
مختصر حقيقي ورائع للحضارة الإنسانية ، فهو يعطيك قدراً لا بأس به من المعارف
الأولية ، والعناوين الرئيسية ، والمعلومات الضرورية في كل شأن تناوله ، أو عرض له ،
وهو بالتالي يُحفزك ، ويفتح شهيتك لقراءة أكثر عمقاً في المستقبل ، عن كل ما وقفت
عنده ، أو إسترعى إهتمامك بينما تطالع فصوله ، ولعلك ستدرك ببساطة أن رحلاتك عبر
فصول الكتاب ، لم تكن سوى سرد يتناولك أنت شخصياً بوجه من الوجوه ، فأبطال الحكايا
، ورموز المشاهد ، هي أنت أو هو ، هناك أو هنا ، وشاهدي في ذلك ، أنك لن تشعر
بالإغتراب ، مهما يممت شرقاً ، أو إتجهت غرباً ، فالتاريخ هنا تاريخك .
أخيراً .. إذا كنت تنظر ببعض الريبة إلى التاريخ (مثلي) ، فلا تجعل
هذا الأمر يقف حائلاً أمام إقدامك على القراءة ، وإليك ما قاله أديب فرنسا الكبير أناتول
فرانس الحاصل
على جائزة نوبل في الآداب عام 1921 ، من أن ( كل كتب التاريخ التي لا تحتوي على أكاذيب هي
كتب مملة للغاية ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق