ربما دون أن
تدري ، فلا قضية منتهية تقريباً ! كل نهاية متوهمة ، هي ذاتها إستهلال رتيب لفصل
جديد ، ولربما مع أناس آخرين ، تصل به ما سبق ،
وفي طقس يجمع ما بين المحبط والممل ، يبدأ النقاش ، بادئ الأمر في منطقة
محددة ، ومساحة زمنية معينة ، دقائق على بدء النقاش ، تجد نفسك ملقى إما في حضن
جبل ، او عالقاً بجذع شجرة ، أو تصارع موج من أجل البقاء على اليابسة ، قد تسترد
بعض من وعيك ، وتملأ رئتيك ببعض الهواء ، ثم تسأل السؤال الذي لا يعرف أحد الإجابة
عنه : ماذا كنت أريد أن أقول ؟ ، لن يجيبك أحد ، فالكل منشغل بالبحث عن إجابة .
عجيب أمر هذه الحوارات التي نكون
طرفاً فيها ، فأياً ما كان الموضوع ( هام - تافه ) يندر أن يبدأ النقاش وينتهي دون
خروج أحد عن صلبه (أنت أو هو) ، وكأن القاعدة هي تلك التفريعات العديدة ، والخطوط الجانبية ،
التي غالباً ما تستنفذ الوقت الأكبر ، والمجهود الأوفى ، ليس مستغرباً إذن أن لا
قضية منتهية ، فكل طرف من خيط ، يُسلمك إلى طرف آخر ، وهكذا دواليك ، حتي يستحيل
الأمر في النهاية ، إلى كومة من الشرنقات المتداخلة التي تنسج حول روحك حبلاً ، سيكون خبراً سعيداً بالتأكيد
إن تمكنت من النجاة بنفسك ، هذا بالطبع إن كنت مهتم .
النقاش هو نوع من الفنون ، غير أن
إدارته هو عين الفن ، والإلتزام بالخط العام للموضوع ، هو أمر جوهري للغاية ، نوع
من المران يُكتسب ، كما أنه أحياناً جزء أصيل من ثقافة المتحاور ، وكلماً كنت
حريصاً على الإلتزام به ، بل وجعل غيرك يلتزمه ، كلما كان أمل الوصول إلى نتائج
محددة ، وفائدة مرجوة كبيراً ، فعديدة هي القضايا التي لا نجد لها حلاً ناجعاً ،
أو لا نجد لها حلاً على الإطلاق ، ليس لأنها في ذاتها مستحيلة أو عصية على الحل ،
لا .. ولكننا في الحقيقة لا نتحدث بشانها ، وإنما في شأن من شئونها أو أشباهها ،
قديماً تشابه البقر على بعضهم ، وبعد مناورات ومداورات ، أدركوا أن التشابه الذي
تراءى لهم ، لم يكن في الواقع له حظ من الحقيقة ، بقرة .. أي بقرة ! .
لسنا أفضل حالاً .. لم يعد الأمر
مقتصراً على بقرة ، إنما حتى على البيضة ( مين اللي جابها وسلقها وقشرها وأكلها )
، صحيح كان هذا فيما سبق ، عندما كنا صغاراً ، ولكن هل كبرنا ؟ خض غمار أي حوار ،
ستدرك بسرعة ، انك ما بارحت حجر أمك ، او صدر أبيك ، لابد وأن قصة البيضة لم تزل
تستهويك .. أليس كذلك ؟ .
النقاش ليس هدفاً في ذاته ، ولا
ينبغي له أن يكون ، هو نوع من التواصل بشكل ما ، صحيح أنك لا تصل غالباً إلى شئ ذي
بال في النهاية ، ولكنك على أي حال ربما تكون قد أدركت من خلاله ، أن بوسعك إفحام
طرف أو أطراف أخرى ، بدا لي كم كنت سعيداً عندما وضعت أحدهم في زاوية ، وحاصرته
بحججك ، وصببت عليه البراهين صباً ، حتى إستغاث ورفع منديله الأبيض ، لكم كنت
قاسياً ، وأنت تسفه من أراءه ، وتسوق الأدلة على هشاشة منهجه ، لقد قتلته يا رجل ،
ولكن قل لي : هل أنت سعيد الآن ؟ إن كنت كذلك ، فيؤسفني أن أقول لك ، أنك لست أقل
تفاهة ، فهذا ليس نقاش ، وإن تسمى بإسمه ، وتزيا بزيه .
كثيراً ما نبتدع أسماءاً جديدة لذات
الأشياء ، ونكهات مختلفة نُغطي من خلالها على المذاقات الأصلية لها ، فلما نفعل
ذلك ؟ لأننا ألفنا اللعب والمناورة والتبرير ، جزء من ثقافتنا ، أو تراثنا ربما ،
حتى بات توأمنا الملتصق ، الذي لا يريد المغادرة قريباً على
ما يبدو ، إن أفضل ما رأيته وعاينته من سني العمر المنقضية ، أن فضيلة الإنصات لا
تضاهيها فضيلة ، كم هو جميل أن تكون إذنك في مقدمة الركب ، جميلة هي أيضاَ لحظات
الإسترخاء العصبي ، المصحوبة بإبتسامات باهتة ، وأنت تعاين الكذب والمبالغة والتنطع
، أيها الأوغاد .. هل أعرفكم من قبل ! عبارة وددت لو ألقيتها على وجوه الكثيرين .
نقاش واحد ، هادئ وصادق ستجده ، لما
لا تنظر إلى المرآة الآن ، ها قد عرفته إذن ، جريدتك وفنجان قهوتك ، وإن شئت
فسيجارتك ، فر إلى الشرفة أو غرفة المكتب ، إنسحب الآن من كل هذه العوالم الخطرة ، إنفض عن نفسك غبار الحوارات ،
خاصم تلك (المكلمات) البائسة ، فنفسك تستحق بعض من الرعاية والتدليل ، قل لي بالمناسبة .. هل جربت أن
تستخدم (إصبع روج) زوجتك في الكتابة ؟ لقد وجدته رائعاً .. المهم أن تتعلم كيف تكتب به ..
حاول .. لن تندم ، إنما .. لا يكن جل همك أرجوك ، إستنساخ عبقرية يوسف وهبي .
هي هكذا إذن ! فما بين دفقة روح
وإنسلالها فثم الحياة ، حيث الكثير من الأماكن والصور والأشياء ، في رحلة التيه تلك
، يلزمك تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ليس الأمر بهذه البساطة التي تظن ، فقبل ذلك عليك إجتياز إختبارات عديدة في كمياء
الألوان ، لكن حذاري .. أن تتوه منك
التفاصيل في الزحام ، إياك أن تتخلى عن الوشوشات ، لا تدع الصراخ يبلغ حد الصدمة ،
وإلا فإنه ، وبمرور الوقت ستنطبع الألوان السائدة ، وتختفي أو تكاد خطوط الأناقة ،
مرة واحدة تخاصم فيها الذوق ، فتصير جزء من فاترينة العرض ، وتغرق في إقتصاديات
السوق .
مناديل موشاة بالدانتيل ، جوارب طويلة ،
أحذية ذوات أربطة ، ساعة يد كلاسيكية ، ربطات عنق غامضة ، بالمناسبة قل لي .. ألم تسمع أو تقرأ شيئاً عن
فن المنمنمات ، زخرفتك الإنسانية ، ذلك الألق المتواري عن أعين الفضوليين ، فلننظر
ماذا ترى ! في ظني ستكون المصارحة هنا أمراً حاسماً .
بت في فصول
الصيف ، لعلك تفتقد الآن أكثر المشاعر إنسانية ، سقوط المطر المصحوب بإهمال متعمد
لمظلتك الواقية ، لعلك كنت أكثر حكمة عندما تأنيت في مشيتك ، لم يكن هناك ما
يستدعي العجلة ، حيث بدأت كل المعزوفات في التألق ، لا أدري حقاً لما كنت تتابع مسبقاً
سقوط المطر من الشرفات ؟ كان عليك أن تكون جزءاً من الحدث ، الآن وقد إكتسى زجاج
النافذة بالكثير من البخار ، فماذا تريد أن ترسم ؟ قلب يتوسطه سهم ، لا .. موضة
عتيقة ، شفاة يابسة تاقت للترطيب .. لست متأكداً ! أم تراك تريد تدوين الأحرف
الأولى لتلك التي لم تعرف بعد ؟ لكن تمهل .. هناك من تقف في الخلف ترقب المشهد عن
كثب ، لا تتورط .. فلن تنفعك ترنيمة ، إذا مت ظمآناً ، فلا نزل القطر ، فما أكثر الظمأى أزمنة الفيض .
هل ما زلت تذكرها ؟ نعم .. خمس عشرة سنة ، هي كل العمر الذي كان يفصل
بينهما ، ليس بالشئ الكثير ، أليس
كذلك ؟ طفلة تزوجت فأنجنب وليداً ، كبرت الطفلة فباتت صبية ، نهض الوليد فأضحى
طفلاً ، ترعرت الصبية ، فإستحالت شابة ، كبر الطفل فصار صبياً ، الشابة على أعتاب
النضج ترفل ، فغدت سيدة ، الصبي شب أخيراً عن الطوق فلامس حد الشباب ، ولربما قبل
الآوان ، في أعمارهما المتقاربة نوعاً ما ، إنقشعت حجب الكلفة ، وحلت الصداقة محل
الأرتام الرتيبة ، غدت النقاشات في محلة أسمى من مجرد الصور القديمة المتمثلة في
إصدار الأوامر من جانب ، وإطاعتها من جانب آخر ، فكل الأمور موضع أخذ ورد ، لا
أحكام مسبقة ، ولا حتى تطبيقات صارمة ، فالصداقة المبكرة والتسامح المفترض ، كانا يفرضان
آليات مختلفة في التعاطي والتناول ، كان الأمر أكثر من رائع .
كبرت السيدة قبل أوانها ، وكذا الشاب البكري وأول الفرحة
، بدا الأمر لاحقاً ، وكأن إستدراكاً متأخراً بدأت تلوح بشائره في الأفق ، حيث إعادة
موضعة الأشياء ، وإستدعاء كل الأشكال النمطية في العلاقات ، فأنا الأم ، وأنت
الإبن .. هكذا صاحت ، ولكن عذراً ليس هذه المرة ، فلن أعود القهقري .. هكذا أسفر
عن وجهه الشاب ، إتفقا وإختلفا ، بل تخاصما وتصالحا ، شأن كل الأصدقاء ، وككل سمار
الليالي ، كانت تجمعهما حفلات الشاي التي لا تنتهي ، فيكون العتاب ، ومن بعده يأتي
التبسم ، فتحضر القفشات ، فالضحات ، فتحية المساء ، ثم .. الختام ، باللهم إجعله
خير .
روت له كيف أنها وصديقتها عندما كانتا شابتين ، تم
طردهما من مناسبة عزاء في وفاة أم لصديقة أخرى لهما ، ذلك أنهما لم يتمالكا
نفسيهما من الضحك رغم محاولتهما المضنية للكف عن ذلك دون جدوى رغم نظرات
إستهجان الحاضرات ، يا إلهي .. حتى في مناسبات العزاء كان الضحك حاضراً ، ولما لا ، ( نحن
أبناء لن يكون حظهم من ميراث الأسرة سوى الضحكات ) .. هكذا قال له أحد أشقائه .
أكثر المناسبات التي كان يفر منها ، فرار الحُمر المستنفرة
إذا ما رأت قسورة ، هي مناسبات العزاء ، فالصورة المروية مطبوعة في المخيلة ، فإن
هي إلا لحظات معدودات في سرادقات العزاء ، حتى يستحيل الأمر برمته إلى مسخرة
حقيقية ، في مواضع كان يفترض أن يكون فيها من الهيبة والوقار الشئ الكثير ، ولكن
هيهات ، في إحدى هذه المناسبات إصطحبه صديق لمواساة زميل لهما في وفاة عمه ، وإذا
بالصديق الجالس بجواره يهمس له بصوت خفيض ( الله يرحمه .. كان إبن كلب ) ، في لحظة
خاطفة تناول منديله ووضعه على فمه في محاولة لوقف بركان المرح الذي بات على وشك
الإنفجار في وجه الجميع ، ومع محاولته إنقاذ ماء وجهه وسط الحضور ، تلآلآ الدمع في
عينيه من فرط محاولته إماتة الضحك ، وكبح جماح السرور ، الأمر الذي حدا باحد الحضور
أن يقوم من مكانه ، ويهدأ من روعه ، ويطالبه بالصبر الجميل ، لقد حسبه المسكين يبكي
على المرحوم ... إبن الكلب .
عادت فأهدته شريط كاسيت ، كان دائم الدوران في أرجاء
المكان ، فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ، فقلت معاذ الله ، بل أنت ، لا الدهر ،
وعلى وقع الذكريات الطربية أيام الوحشة والمرض والتأوه ، أسفرت عن أغنية أثيرة
لديها لم تعد تسمعها منذ زمن بعيد ، كانت بالكاد تتذكر بعض من مقاطعها ، لكم كانت
سعادتها كبيرة عندما أفلح في العثور عليها ، وقام بإسماعها إياها ، على بعد ألفي ميل ،
لقد دخلت الآن الجنينة ، فما عساها ترى الآن ؟ رحمك الله يا أمي .
ها قد أطل من جديد شهر يونيه
، كشاهد عدل ، ذو ثقة صدوق ، على هذين الذين إستقلاً وحدهما قطار رحلة منذ 25
عاماً ، تقاسما فيها معاً لقمة عيش ، وفاتورة حساب ، ثم سرعان ما إستقبلاً أضيافاً
أعزاء ، أتسعت لهم مطارح قلوب ، وأحداق عيون ، هؤلاء الرائعين والرائعات من الأبناء
والبنات ، الذين أضفوا على الرحلة الكثير من البهجة والمرح والسرور ، حيث أعطوا
كلينا ، أسباباً وجيهة ، بأن في الحياة حقاً ما يستحق النضال والكفاح من أجله ،
لعله يا عزيزتي .. ربع القرن الأسرع في حركة التاريخ مذ كان .
إن شهر يونيه على قيظه
وحره ، رأيته يتواضع اليوم ، وقد داعب المخيلة بنسمات ليست في طبعه ، ولا هي من
شيمته ، لعله أراد يا عزيزتي ألا يكون ضيفاً ثقيلاً لهذه العائلة في مناسبة عزيزة
على نفوسهم جميعاً .
لعلك تعلمين ، أنني أميل غالباً إلى التقييم ، والنقد اللاذع ، وتتبع الثغرات ، وتسليط الضوء على
الهفوات ، ربما بحكم التخصص ، ولكنني اليوم أقف متجرداً ، إلا من سيف الإنصاف لأقر
لك ، بأنني لم أجد في محطات الرحلة الطويلة ، ما يستحق الوقوف عنده ، أو النظر فيه
، ويكون محل عتاب أو مؤاخذة ، ذلك أن العكس هو الصحيح تماماً ، فبحكمتك وأناتك ،
نجحت الأسرة جميعها في أن تكون مضرب مثل في التماسك ، والإحترام المتبادل والود
العميق .
لعلي أذكر الآن تساؤلات بعض
من الرفاق والأهل عن حصاد غربتي ؟ يبدو أن المساكين لا يدرون أنهم يتحدثون ألى
أمير متوج على عرش أسرة دافئة ، وسلطان مفتون بالوهج العائلي ، فأي حصاد ذاك
الذي يعلو على الرضا المنبعث من عيونكم ، وأي ثراء أفضل من الإحساس بأداء الواجب
تجاهكم في حدود الإستطاعة ، وأي غنىً أبقى من أن أشعربراحة
ضمير ، وهدوء نفس إن ذهبت لأخلد إلى النوم ؟ صحيح أنكم حولتموني من مليونير مُفترض
، إلى مستور مقتصد ، ولكن لا بأس ، فعافيتكم رصيد لا ينفذ ، وحساب جارٍ إلى يوم
الدين .
فشكراً لك أن كنتِ زوجة
عظيمة مخلصة ، وأم رؤوم ، شكراً لك .. أن تحملتي الأمزجة المتقلبة ، والفصول التي
أتت في غير أوانها .. شكراً لك أن تحملتي على مدار أعوام عديدة ، نثريات مملة ،
وأشعار مرتجلة وملفقة ، كانت دائمة مصحوبة بقهقهات عالية ، إذا ما قُدر
لقائلها التوفيق في الإتيان بوزن متسق ، أو قافية منتظمة .. شكراً لك أن تحملتي كل
هذه الثرثرات ، والسرديات البائسة عن عهد الطفولة غير البرئ .. شكراً لك على تعليمي قواعد الوقف والإبتداء ، والتفرقة ما بين المفخم والمرقق ، وكل أنواع
المدود .. شكراً لك أن شاركتيني الحلم حتى بات قبضة يد ، بعد أن ظننت أنه قبضة ريح ، شكراً لك أن تحملتي ذاك الصداح في غير أوانه ، الذي لم يمل كل صباح من
تكرار بائس وبصوت تخالطه بضعة من نعاس ، مطلعاً من أغنية الفيروز الدائم :