بقلم : ياسر حجاج
هي هكذا إذن ! فما بين دفقة روح
وإنسلالها فثم الحياة ، حيث الكثير من الأماكن والصور والأشياء ، في رحلة التيه تلك
، يلزمك تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ليس الأمر بهذه البساطة التي تظن ، فقبل ذلك عليك إجتياز إختبارات عديدة في كمياء
الألوان ، لكن حذاري .. أن تتوه منك
التفاصيل في الزحام ، إياك أن تتخلى عن الوشوشات ، لا تدع الصراخ يبلغ حد الصدمة ،
وإلا فإنه ، وبمرور الوقت ستنطبع الألوان السائدة ، وتختفي أو تكاد خطوط الأناقة ،
مرة واحدة تخاصم فيها الذوق ، فتصير جزء من فاترينة العرض ، وتغرق في إقتصاديات
السوق .
مناديل موشاة بالدانتيل ، جوارب طويلة ،
أحذية ذوات أربطة ، ساعة يد كلاسيكية ، ربطات عنق غامضة ، بالمناسبة قل لي .. ألم تسمع أو تقرأ شيئاً عن
فن المنمنمات ، زخرفتك الإنسانية ، ذلك الألق المتواري عن أعين الفضوليين ، فلننظر
ماذا ترى ! في ظني ستكون المصارحة هنا أمراً حاسماً .
بت في فصول
الصيف ، لعلك تفتقد الآن أكثر المشاعر إنسانية ، سقوط المطر المصحوب بإهمال متعمد
لمظلتك الواقية ، لعلك كنت أكثر حكمة عندما تأنيت في مشيتك ، لم يكن هناك ما
يستدعي العجلة ، حيث بدأت كل المعزوفات في التألق ، لا أدري حقاً لما كنت تتابع مسبقاً
سقوط المطر من الشرفات ؟ كان عليك أن تكون جزءاً من الحدث ، الآن وقد إكتسى زجاج
النافذة بالكثير من البخار ، فماذا تريد أن ترسم ؟ قلب يتوسطه سهم ، لا .. موضة
عتيقة ، شفاة يابسة تاقت للترطيب .. لست متأكداً ! أم تراك تريد تدوين الأحرف
الأولى لتلك التي لم تعرف بعد ؟ لكن تمهل .. هناك من تقف في الخلف ترقب المشهد عن
كثب ، لا تتورط .. فلن تنفعك ترنيمة ، إذا مت ظمآناً ، فلا نزل القطر ، فما أكثر الظمأى أزمنة الفيض .
هل ما زلت تذكرها ؟ نعم .. خمس عشرة سنة ، هي كل العمر الذي كان يفصل
بينهما ، ليس بالشئ الكثير ، أليس
كذلك ؟ طفلة تزوجت فأنجنب وليداً ، كبرت الطفلة فباتت صبية ، نهض الوليد فأضحى
طفلاً ، ترعرت الصبية ، فإستحالت شابة ، كبر الطفل فصار صبياً ، الشابة على أعتاب
النضج ترفل ، فغدت سيدة ، الصبي شب أخيراً عن الطوق فلامس حد الشباب ، ولربما قبل
الآوان ، في أعمارهما المتقاربة نوعاً ما ، إنقشعت حجب الكلفة ، وحلت الصداقة محل
الأرتام الرتيبة ، غدت النقاشات في محلة أسمى من مجرد الصور القديمة المتمثلة في
إصدار الأوامر من جانب ، وإطاعتها من جانب آخر ، فكل الأمور موضع أخذ ورد ، لا
أحكام مسبقة ، ولا حتى تطبيقات صارمة ، فالصداقة المبكرة والتسامح المفترض ، كانا يفرضان
آليات مختلفة في التعاطي والتناول ، كان الأمر أكثر من رائع .
كبرت السيدة قبل أوانها ، وكذا الشاب البكري وأول الفرحة
، بدا الأمر لاحقاً ، وكأن إستدراكاً متأخراً بدأت تلوح بشائره في الأفق ، حيث إعادة
موضعة الأشياء ، وإستدعاء كل الأشكال النمطية في العلاقات ، فأنا الأم ، وأنت
الإبن .. هكذا صاحت ، ولكن عذراً ليس هذه المرة ، فلن أعود القهقري .. هكذا أسفر
عن وجهه الشاب ، إتفقا وإختلفا ، بل تخاصما وتصالحا ، شأن كل الأصدقاء ، وككل سمار
الليالي ، كانت تجمعهما حفلات الشاي التي لا تنتهي ، فيكون العتاب ، ومن بعده يأتي
التبسم ، فتحضر القفشات ، فالضحات ، فتحية المساء ، ثم .. الختام ، باللهم إجعله
خير .
روت له كيف أنها وصديقتها عندما كانتا شابتين ، تم
طردهما من مناسبة عزاء في وفاة أم لصديقة أخرى لهما ، ذلك أنهما لم يتمالكا
نفسيهما من الضحك رغم محاولتهما المضنية للكف عن ذلك دون جدوى رغم نظرات
إستهجان الحاضرات ، يا إلهي .. حتى في مناسبات العزاء كان الضحك حاضراً ، ولما لا ، ( نحن
أبناء لن يكون حظهم من ميراث الأسرة سوى الضحكات ) .. هكذا قال له أحد أشقائه .
أكثر المناسبات التي كان يفر منها ، فرار الحُمر المستنفرة
إذا ما رأت قسورة ، هي مناسبات العزاء ، فالصورة المروية مطبوعة في المخيلة ، فإن
هي إلا لحظات معدودات في سرادقات العزاء ، حتى يستحيل الأمر برمته إلى مسخرة
حقيقية ، في مواضع كان يفترض أن يكون فيها من الهيبة والوقار الشئ الكثير ، ولكن
هيهات ، في إحدى هذه المناسبات إصطحبه صديق لمواساة زميل لهما في وفاة عمه ، وإذا
بالصديق الجالس بجواره يهمس له بصوت خفيض ( الله يرحمه .. كان إبن كلب ) ، في لحظة
خاطفة تناول منديله ووضعه على فمه في محاولة لوقف بركان المرح الذي بات على وشك
الإنفجار في وجه الجميع ، ومع محاولته إنقاذ ماء وجهه وسط الحضور ، تلآلآ الدمع في
عينيه من فرط محاولته إماتة الضحك ، وكبح جماح السرور ، الأمر الذي حدا باحد الحضور
أن يقوم من مكانه ، ويهدأ من روعه ، ويطالبه بالصبر الجميل ، لقد حسبه المسكين يبكي
على المرحوم ... إبن الكلب .
عادت فأهدته شريط كاسيت ، كان دائم الدوران في أرجاء
المكان ، فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ، فقلت معاذ الله ، بل أنت ، لا الدهر ،
وعلى وقع الذكريات الطربية أيام الوحشة والمرض والتأوه ، أسفرت عن أغنية أثيرة
لديها لم تعد تسمعها منذ زمن بعيد ، كانت بالكاد تتذكر بعض من مقاطعها ، لكم كانت
سعادتها كبيرة عندما أفلح في العثور عليها ، وقام بإسماعها إياها ، على بعد ألفي ميل ،
لقد دخلت الآن الجنينة ، فما عساها ترى الآن ؟ رحمك الله يا أمي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق