عزيزتي /
فينـوس
روما , إيطاليا
تحية طيبة .. وبعد
طالعتُ رسالتكِ ، ووعيتُ مقالتكِ ، ووقفتُ على موضع
لومكِ ومعاتبتكِ ، ثم أنني عرضت أمركِ على نفسي لتُدلي لها بدلو ، فإستمهلتني
ثلاثاً فأمهلتها ، فلما أبطأت حثثتها ، وقلت لها هلمي إليَّ فإن هناك من ينتظر
قولاً على قوله ، وأخشى أن يُحسب السكوت عليَّ قبولاً ، ذلك أن العرف قد جرى أنه
ولئن كان لا يُنسب لساكتٍ قول ، فإن السكوتَ في معرض الحاجة إلى بيان يعد قبولاً ،
وما ورد برسالتكِ - في ظني - بحاجة إلى ما هو فوق البيان والتبيين ، ولا أظن
تستوعبه رسالة موجزة فحسب .
عزيزتي
.. لقد دعوتيني إلى الرد على رسالتكِ ، ولكنني يبدو - قبل ذلك - مضطر هنا إلى
الإفصاح عن بادئة لازمة إقتضتها ظروف الحال ، فما نراه هيناً يسيراً في شأن لا
يكون كذلك بالضرورة في غير شئون ، فما عهدت نفسي - قبل اليوم - في موقف المدافع عن
نفسه ، الأمر الذي أحدث لديَّ قدراً من الإرتباك نوعاً ما ، فكما أن أسوأ
أنواع المرضي هم الأطباء إن أرادوا تشخيصاً لأوجاعهم ، فكذلك هم المحامون إن تصدوا
للدفاع عن أنفسهم وإبانة سلامة مواقفهم ، ورفعاً لحرجي وحرجك فقد قررت - بينما
أُسطر لكِ ردي - أن أتحلل من روب المحاماة الذي يُثقل كاهلي ، بل وألقيه طائعاً
على أعتاب صاحبة العتاب .
إن العتب بين الأخلاء لخليق حقاً بالثناء الحسن ، طالما
كان في موضعه وأوانه ، فإن لم يُصب موضعاً ولا أواناً ، غدا كسهم طائش أصاب
ظبياً يسرح هائماً في الفلوات ، لم يجترح ذنباً سوى أنه آثر التواري عن الأنظار
لحكمة رأها .
عزيزتي .. كان خير لك - ربما - لو لوذتي بالصمت الجميل ،
من أن تتورطي في هكذا تهم وتلميحات ، أما وقد إنطلق سهمُك من رميته ، وبات تجنب
رده مستحيلاً أو يكاد ، فقد رأيت بعد ما عاينت موضع الطعن وأثر الإصابة أن أذيقكِ
طعم ما قلتِِ وتقولين ، وأرد عليك القول ، ليس قولاً واحداً ، بل إثنين وربما أزيد
، لكنني أحجمت عن ذلك في اللحظة الأخيرة ، نزولاً على رغبة الذكريات قريبة العهد ،
واللحظات صافية الود ، فرصيدكِ عندي يسمح بالتجاوز عن تفلت عبارة منك هنا ، وخشونة
- غير مبررة - في كلمة هناك .
على كل حال ، فقد أتتني رسالتكِ في عطلة نهاية الأسبوع
الماضي ، وكان لديَ - بالتأكيد - ما يكفي من وقت لطرح أسئلتي المرحة التي لا أجوبة
حاسمة عليها ، فهذا دأبي على أي حال في هكذا عطلات ، حيث يروق لي العبث الصوفي
الجميل لاسيما في أمسيات الشتاء ، وهو أمر - على ما أظن - بات معلوم لديك بالضرورة
منذ سنين .
إن رسالتك لي والمعنونة (رسالة من
فينوس) أثارت لدي الأسئلة بقدر لم تُثره حتى رغبتي في الرد والتعقيب
عليها ، ودعيني أسألك هنا يا عزيزتي ، لما حقاً كانت رسالتك ؟ أتحاولين
نفض الغبار العالق بنوافذ الأيام الخالية ؟ ومالِ أراكِ لا تملين من الطرق
على أبواب الذكريات لتُشرع من جديد ؟ ولما
تتأبين الآن على قواعد الفيزياء فتصرين على معاودة السطوع وقت المغيب ؟ بل
لما يا عزيزتي تنسابين عبر أستار الزمن لتتركي لي رسالة غامضة من كلمتين فوق فراش
ديسمبر البارد تقولين فيها ( نحن هنا ) ؟ .
فلأي
شئ حقاً كانت رسالتك ؟ أجيبيني ، هل تريدين سماع المزيد عن مجد الرومان وتماثيلهم
العارية ؟ أم إستثارك الشوق لحكايا التين الذي حلا فتشقق ؟ أم مازال لديكِ
ذاك الهوى لسماع رؤية جديدة عن تلك التي ( حسبته لجة فكشفت عن ساقيها ) ، وأختها
الصداحة بصوت الجسد ( هيت لك ) ؟ أم تراكِ تحسبينني مازلت أعاود ترديد
ترنيمتك الأثيرة ( اليوم خمر ونساء وغداً نقتل أتباع محمد ) ؟ .
بدا لي
أن رسالتكِ كان تحمل دعوة لمشاركتكِ في شئ من هذا وربما أكثر ، وما أود التأكيد
عليه هنا - إن صدق ظني - أن هذه دعوة مردودة على صاحبتها ، فهي بادية التأخير عن
مواعيدها المفترضة كثيراً ، فقد تجاوزتُ يا عزيزتي حفلات سُمار الليالي ، والأنخاب
الدائرة على شرف المحبين ، وما عاد ليَّ جلد على الإسترسال الطويل في وصف مجد
الرومان .
عزيزتي فينوس .. إن نيرون الذي تنشدين عودته ليملأ الأرض ناراً - بعد أن خبت لعقود - لم يعد قادراً حتى على إشعال عود ثقاب ، وحسبه - إن شئت - فنجان قهوة الصباح يُشارككِ فيه عن بعدٍ يفصل ما بين قارتين ، فإن تكاثر من حولكِ الجليد ، وبردت الدماء في العروق ، فتذكري ما كنت أقوله لك على الدوام من أن الدفء لا يرتبط أبداً بسطوع الشموس قدر إرتباطه بساعات الغروب .
عزيزتي فينوس .. إن نيرون الذي تنشدين عودته ليملأ الأرض ناراً - بعد أن خبت لعقود - لم يعد قادراً حتى على إشعال عود ثقاب ، وحسبه - إن شئت - فنجان قهوة الصباح يُشارككِ فيه عن بعدٍ يفصل ما بين قارتين ، فإن تكاثر من حولكِ الجليد ، وبردت الدماء في العروق ، فتذكري ما كنت أقوله لك على الدوام من أن الدفء لا يرتبط أبداً بسطوع الشموس قدر إرتباطه بساعات الغروب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق