بقلم : ياسر حجاج
تنويه : عندما لم يسعن سوى بيتي لجأت مستغيثاً بمكتبتي ، لأفتش في أوراق
كتبي المصفرة بعامل تدافع السنين ، لأجدد خلاياي الذهنية الميتة فكانت هذه المقالة
، التي تم إستقاؤها بتصرف من كتاب نزع غلافه ، وإنطمر تاريخ إصداره ، ولم تسعفن
ذاكراتي بإسم مؤلفه ، وعليه فإني أعتذر مقدماً عن الإفادة بمصدر الموضوع وتاريخه
وكاتبه ، وعليه لزم التنويه .
المكان : أثينا القديمة
الزمان : العام 407 ق.م
المناسبة : مأدبة أقامها الشاعر الأثيني أجاثون لأخلص أصدقائه إحتفالاً بفوزه
بالجائزة الأولى لتأليف الدراما المسرحية .
بين أحاديث السمر وتبادل الأنخاب ، إنتقلت دفة النقاش إلى موضوع من أحب الموضوعات التي يحلو فيها الحديث للسامرين ، ألا وهو الحب ، فبدأ كلٌ يدلي برأيه فيه وفق فلسفته الخاصة
قال فيدراس الحب هو أقدم الألهة وواحداً من أقواها وأعظمها نفوذاً ، إنه
يخلق من الأفراد العاديين أبطالاً بدافع خجل العاشق من إظهار الجبن في حضرة
محبوبته ، ثم أردف قائلاً فلتعطوني جيشاً
من العاشقين وأنا الكفيل بأن أغزو به العالم .
فقال المتحدث الثاني بوسانياس معلقاً .. هذا صحيح ، لكن ينبغي أن نُفرق
بين الحب الأرضي والحب السماوي ، بين الجاذبية بين جسدين من ناحية ، والتجاوب بين
روحين من ناحية أخرى ، فعندما تذبل زهرة الشباب يتخذ الحب الجسماني الزائل لنفسه
أجنحة ويطير إلى غير رجعة ، أما حب الروح النبيل فهو باق ودائم .
وهنا يدخل الشاعر الفكه أريستوفان في الحديث فيأتي بنظرية جديدة في الحب
حيث يقول ، أنه في سالف الزمان كان الجنسان متحدين في جسم واحد ، مستدير كالكرة ، وله
أربع أياد وأربع أقدام ووجهان ، وكان هذا الجسم سريع الحركة إلى درجة خارقة ، حيث
يستخدم أطرافه الثمانية في الدوران الدائب كالعجلة ، وكان قوته رهيبة وطموحه لا
يحد ، فبدأ يدبر الخطة لمحاصرة السموات ومهاجمة الألهة !! لكن زيوس كبير آلهة جبال
الأوليمب أحس بالخطر المقترب ففكر في أن يشطر ذلك الجنس إلى شطرين ، إلى رجل
وإمرآة كي تضعف قوته وينشغل كل نصف بالسعي إلى نصفه الآخر ! وقد كان ، ومنذ ذلك
اليوم صار يلهب كلا من الشطرين شوق مضن إلى الإندماج في شطره الثاني ، وهذا الشوق
الذي يجذب كل من الجنسين نحو الجنس الآخر هو ما نسميه الحب .
وتلت هذه التفاسير الهزلية للحب أراء وتعريفات أخرى لطيفة ، حتي سُئل
ضيف الشرف سقراط أن يدلي بدلوه في النقاش ، فقال بعد
كل هذه الفصاحة لا أجد ما أقوله ، إذ كيف يتأتى لغبائي أن يحاجج مثل كل هذه الحكمة
؟ ، وبعد أن يلقى سقراط عن كاهله العبء بهذا التمهيد المنطوي على تواضع ساخر ، يستأنف
حديثه لينسف بغبائه كل حكمة القوم ويمزق حججهم الواهية بسلسلة من أسئلته المحيرة
التي لا جواب لها ، والتي كان أول من إبتدعها في المناقشة وبرع فيها ، فصارت اليوم
أساساً من أسس التربية والتعليم ، وبعد أن يتم له هدم بنائهم المتداعي يشرع في
التشييد والبناء على أنقاضه ، فيطلع على مجالسيه بهذه النظرية الجدية في
الحب إذ يقول :
الحب هو جوع النفس البشرية للجمال الألهي ، فالعاشق لا يشتاق فقط إلى
العثور على الجمال ، وإنما يشتاق أيضاً إلى خلقه ومواصلته ببذر بذرة الخلود في
الجسد الفاني ، وهذا هو سر حب كل من الجنسين للأخر ، لرغبتهما في إعادة إنتاج
نفسيهما من جديد ، وإطالة فسحة الزمن أمامهما إلى الأبد ، وهذا هو أيضاً سر حب
الأباء لأطفالهم ، فكما يستمرىء جسم الوالد خلق طفله ، تستمرىء روحه متعة خلق روح
جديدة ، تواصل بعدها حمل مشعل البحث الخالد عن الجمال .
ويستطرد سقراط متسائلاً ، ما هو هذا الجمال الذي نسعى جميعاً إلى
إستمراره عن طريق الحب ؟ إنه الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والإيمان ، وبالإختصار
فإن الجمال هو الحق ، والحق يقود رأساً إلى الله .
وهنا يصفق الحضور للفيلسوف الحافي القدمين ، ويستمر برنامج سهرتهم
حتى الصباح ، ثم يخرج سقراط ، ليبدأ جولته اليومية لنشر الحكمة بين أهل أثينا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق