في الأمم المتقدمة والتي قطعت أشواطاً طويلة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة تعتبر الدساتير فيها حصن الأمان الذي يلوذ به وإليه كل من الحاكم والمحكوم على السواء إن أراد طرف ما منهما أن يجور على حقوق ومكتسبات الطرف الآخر التي إكتسبها بموجب هذا الدستورالذي يعد منهجاً للحياة على أرض هذه الأمة ، وبقدر رقي الدستور ومراعاته للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين تستطيع أن تحكم على مكونات هذه الأمة من حيث كونها أمة عاملة متحضرة أم أنها أمة خاملة متخلفة ، إلا أن هذه القاعدة العامة لها العديد من الإستثناءات فليس بالضرورة أن تكون نصوص دساتير بعض الأمم مرآة حقيقية وصورة صادقة للواقع المعاش لشعوب هذه الأمم ذلك أن أكثر الأمم ديكتاتورية والتي لها سجل غير ناصع في مجال حقوق الإنسان إن إطلعنا على نصوص دساتيرها فإننا سنفاجىء بأنها عقدت لصيانة حقوق المواطنين فيها أبواباً وأبواب ورتبت لهم من الضمانات القانونية لصيانة هذه الحقوق الشيء الكثير إلا أن هذا كله لا يقابله أي تطبيق عملي على أرض الواقع . ( إذن أين يقع الخلل ؟؟ ) حسب إعتقادي المتواضع يقع الخلل نتيجة الهوة الواسعة التي تفصل بين نظرية النصوص والممارسة العملية لما تتضمنه هذه النصوص من حقوق وحريات ، بمعنى آخر فإننا لن يكون بوسعنا حيال مواطنين جردوا من حقوقهم طيلة حياتهم ، وأنتهكت كرامتهم وكرامات عوائلهم وجعلوا أسارى دائمين للخوف من المجهول ومن بطش السلطة فإن هؤلاء المواطنين إذا وضعتهم في بيئة لأكثرالأمم ديمقراطية ومراعاة لحقوق الإنسان فإنهم لن يستسيغوا العيش وفق النظام الجديد بسهولة وهم معذورون على كل الحال ، فهم لم يتدرجوا بل لم يمارسوا ديمقراطية في مجتمعاتهم ويرون أن هذه الديمقراطية ليس إلا ترفاً فكرياً لا يقدرون على تحمل تبعاته ، وربما يفضلون العيش وفق ما ألفوه أحقاباً على العيش وفق نظم راقية لم يعهدوها ... إذن هي الممارسة ولا شيء سوى الممارسة ، فهناك فارق كبير بين أمرين ( إكتساب الحق – وممارسة هذا الحق ) ، ويحضرني هنا مثالان للتدليل على ما أقول المثال الأول أنه وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كان سكان إحدى القرى أو المدن ببريطانيا والقريبة من أحد المطارات العسكرية يشتكون ويحتجون من ضجيج حركة الطائرات المشاركة في العمليات الحربية إقلاعاً وهبوطاً طوال الوقت الأمر الذي نغص عليهم معيشتهم وهو ما دفعهم إلى رفع دعوى قضائية بطلب إبعاد إقلاع وهبوط الطائرات من هذا المطار تحقيقاً للهدوء الذي ينشدونه ، والغريب في الأمر أن السلطات القضائية قد أجابتهم لطلبهم وقضت لصالحهم وطلبت إبعاد هذه الطائرات العسكرية من العمل في هذا المطار ، وهنا إنتفضت القيادة العسكرية مطالبة بعدم تنفيذ هذا الحكم بدعوى أن البلاد في حالة حرب ضروس إذ ينبغي والحال كذلك أن يتنازل المواطنون عن بعض من حقوقهم الأساسية لصالح المجهود الحربي للبلاد ، ورفع الأمر وقتها لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ذو النشأة العسكرية أصلاً حيث طالب بتنفيذ الحكم كما هو وقال قولة شهيرة لها دلالة عميقة وهي أنه من الخير لبريطانيا أن تخسر الحرب من أن يقال عنها أنها قد خالفت حكماً قضائياً ، أما المثال الثاني الذي لا يقل دلالة عن المثال الأول فقد وقع في الولايات المتحدة الأمريكية حيث قام بعض من طلبة إحدى الجامعات هناك بحرق العلم الأمريكي كنوع من التعبير عن سخطهم من واقعة لا أذكر تفاصيلها الآن حيث تم رفع أمرهم إلى السلطات القضائية وجرى حراك قانوني كبير وقتها حول مسلك هؤلاء الطلاب ما بين مؤيد ومعارض له حتى وصل الأمر على ما أذكر إلى المحكمة العليا التي أرست مبدأ في غاية الأهمية وهو أن قيام هؤلاء الطلاب بحرق العلم الأمريكي ما هو إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي المكفول قانوناً بنص الدستور. أرأيتم كيف تمارس الحقوق وكيف يتم التمسك بها ولعل أختم بعبارة الزعيم الخالد سعد زغلول عندما قال الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة .... وللحديث بقية .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
موضوعات المدونة
- عندما يأتي المساء (127)
- أوراقي الصفراء (36)
- مقالات برمجية (16)
- قول من قول (11)
- مكاتيبي (9)
- القوارير (6)
- مصر الثائرة (6)
- الآتيليه (4)
- غفوات النفس (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق