بقلم : ياسر حجاج
أن تكون عقلانياً في مواجهة النصوص
هو أمر لا يقل في خطورته من أن تكون
مسيحياً في زمن نيرون .
إذا أردت
أن تُنحي حجراً صغيراً من طريقك ، فلابد أنك
سترفعه بيدك ، أو تزحه حتى بقدمك ، وأما إذا أردت أن تزيل جداراً عالياً وصلباً ، فلابد
أنك ستضطر إلى إستخدام معولاً كبيراً ، وأما إذا
أردت أن تكتفي بمجرد إثبات الظهور في كادر الصورة ، مع إلتقاط مشاهد (سيلفي) للذكرى
، بينما تحاول إزالة هذا الجدار العنيد بدفعة بسيطة من يدك ، أو بمجرد ركلة من
قدمك ، فلا شك عندي أن قائمة الحمقى ستزيد واحداً . بوسعك أيضاً
إيثاراً لسلامتك ، أن تبتعد عن الجدار بالكلية ، مواصلاً طريقك ، إما بالإلتفاف من
حوله ، كانك لا تراه ، أو حتى بالقفز من فوقه ، بالمناسبة كثيرون منا يفعلون ذلك .
عندما
يُغلق باب الإجتهاد ، أو يُراد له ذلك ، فإن أبواب أخرى - في المقابل - تغدو مشرعة
على كل الإحتمالات ، وعندما يُنظر إلى نفر من الناس ، على انهم مهرطقين ، أي ذوي عقائد غير صحيحة ، أو ملتبسة ، لمجرد
محاولتهم عرض صور حضارية حقيقية للدين ، في إطار من قيمه العامة ، ونسقه الإنساني البديع ،
فإننا سنكون إزاء معضلة حقيقية .
كان
الدين ، ولم يزل ، وسيظل واحداً من أكثر عناصر التشويق لدى أولئك الذين لا يمثل
الدين بالنسبة لهم سوى عنصر جاذب ، شديد الإثارة ، من شأنه أن يوفر لهم قاعدة شعبية فارغة
المضمون ، إما خدمة لمصالحهم ، أو خدمة لمشروع رجعي بليد ، أو خدمة لطبقة سياسية
حاكمة آنية أو حتى محتملة ، تريد الإتكاء على عصا الدين ، في محاولة لإيجاد صيغة
أخلاقية تبريرية لكل ما يناقض روح الدين ومضمونه ، كان هذا فيما مضى ، وهو كذلك الآن .
سيظل
الصراع محتدما - إلى أمد بعيد - بين أنصار الأدلة النقلية والعقلية في فهم المرويات التراثية ، وإن كانت نتيجته ستكون
محسومة - وإن طال الزمن - لصالح أصحاب الرجاحة العقلية التي حثنا الخالق على
إتباعها غير مرة في قرآنه الكريم .
في اليهودية ، والمسيحية ، كما في الإسلام حُرق الناس ، وقتلوا ، وصُلبوا ، وأُبعدوا ، وحوصروا ، لأن أحدهم قرر - في وقت ما - إستخدام المعول ، بمعناه المجازي الواسع ، الذي يُعلي من شأن العقل والمنطق والإستنباط والقياس ، وكل صنوف التأويل المبناة على قواعد فكرية منضبطة ، لا تجافي الفطرة الإنسانية ، ولا تصطدم مع أي حقيقة تواضع عليها الناس ، ويرضى عنها الخالق ، فأينما تكون المصلحة ، فثم شرع الله .
ما يلي ، حديث مختلق فيما بيني وبين نفسي أردت من خلاله ، إبداء رأيي الخاص من جديد - وإن يكن بشكل مختلف - في الجدل الذي دار ، ولم يزل ، حول الطرح الذي كان يقدمه الأستاذ / إسلام بحيري على قناة القاهرة والناس ، وتدخل الأزهر بأشياخه التقليديين على الخط ، وجنباً إلى جنب هذه المرة - ويا للعجب - مع عتاة السلفيين ، من أجل لقم إسلام بحيري حجراً ، وإسكات صوته إلى الأبد ، ورغم الملاحظات التي يبديها البعض حول الطريقة أو النسق الذي يقدم به المذكور برنامجه - وبعضها محق - فإنها يجب ألا تكون تكئة لغلاظ القلوب ، وجفاة المشاعر ، ممن تيبست عقولهم ، وجمدت الدماء في عروقهم ، إلا من نزف أسود يريدون به تلطيخ وجه الأمة ، ومن قبلها الدين .
*****
حدثني نصُ بن التراث ، عن قلم بن محبرة ، عن شيخه
قصاصة بن الصفراء الذابلي ، عن مماحك الأعور ، عن مناكف ذا المعاريض ، عن المتكلف من بني المتنطع ، عن كليل بن الأهوج أنه
قال : ( أن العقل بضاعة ، وأن النقل صناعة ، فإشتغل بالصناعة ، ودع عنك البضاعة ،
تسلم لك الدنيا ، ويصفو لك الدين ) .
قلت لراوي الأثر نص بن التراث ، انه قد إستغلق عليِّ
الفهم ، وإستقبحت المراد من الأمر ، بحسبانه يدعوا إلى العمل بالمنقول ، دون
إلتفات إلى المعقول ، فرماني ببصره حتى وجلت ، ثم أطرق هنيهة ، وإلتفت إليِّ وقال
:
- يا هذا .. إن المرء إذا كان في شغل من عقله ،
وأُعجب بمنطقه وقياسه ، علا واستكبر ، وأما إذا تتبع المنقول من شرفاء المسلمين ،
وسادات المؤمنين ، فقد تواضعت نفسه ، وحُجب عقله عن متاهات التأويل .
- قلت .. سيدي ، ناشدتك الله البيان ، هل الشرفاء
والسادات ممن ذكرت ، بأعلم بنفسي مني ، أم تراهم إطلعوا عن كنهها ، ودخيلة أمرها ،
أم عساهم ضربوا
مرابط خيامهم بين السماء والأرض ، فلا ينزل قضاء إلا بإجازتهم ، ولا يصعد دعاء إلا
بمباركتهم ، ولما عليَّ الإنصياع لمنطقهم ، والنزول على إجتهاداتهم ؟ وقد حباني
الله العقل كما حباهم ، وهو سبحانه سائلني ، كما أنه سائلهم .
- قال .. في حديثك زغل وجدل ، ولا أراك إلا قد
تنكبت الطريق أو كدت ، ثم ماذا الذي حملك على أن تنظر بعين الريب والظنون إلى
المنقول ، إلا هذا الذي تسميه عقلاً ، فصور لك الأمر على غير هدى ، فألقى في روعك
تلبيس وخلطه بتدليس ، فحثك على نبذ الأثر ، والإعراض عن الخبر .
- قلت .. ما كان لي شئ من ذلك ، ولكني أُنزل الأمور منازلها ، فما
إستقام منها قبلته بلا غلو ، وأما ما إعوج منها طرحته بلا علو ، وأما ما إلتبس
عليَّ إدراكه ، ولم يبلغ الشك فيه مداه ، ولا اليقين منه مناه ، توقفت عنده ، حتى
يقضي الله فيه أو فيًّ أمره .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق