بقلم : ياسر حجاج
إذا
كنت ممن يبغضون الحقبة الناصرية الممتدة من أواسط الخمسينات إلى نهاية عقد
الستينات ، فلا شك أن بغضك قد طال بشكل أو بآخر ، واحداً من أكابر منظريها
ومفكريها ، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق ، ألا وهو الأستاذ / محمد حسنين هيكل ،
الذي إلتصق بهذه الحقبة ، ولم يزل ، إلتصاق اللحم بالعظم .
أما إذا كنت من المتشيعين للزعيم جمال عبد
الناصر "رحمه الله" ، فسيكون من نافلة القول ، أو التزيد غير المبرر ،
التأكيد بأنك محب للأستاذ ، بإعتبار أن ذلك من المسلمات والفرضيات البديهية ،
والتي بها من الوضوح والجلاء ، ما يجعلها حقيقة قائمة بذاتها ، دونما حاجة إلى دليل أو
إثبات ، شأنها في ذلك شأن أي قياس منطقي بسيط بمقدمات واضحة بينة ، وبالتالي فإنه
لا مجال للحديث عن نتائج متناقضة .
عرفت الأستاذ في سن مبكرة نوعاً ما ، من
خلال الوالد "شفاه الله" ، الذي كان ومازال مبغضاً للحقبة الناصرية بمعظم
رموزها وأطيافها ، وفي القلب منهم بالتأكيد الأستاذ / هيكل ، وذلك من واقع ما
شاهده بعينيه ، ووقع عليه سمعه من المعارك والأحداث المريرة التي صاحبت هزيمة
يونيه 1967 ، وذلك بمكان الميلاد ، والنشأة ، ومراتع الصبا (الإسماعيلية) ، والتي
هُجرنا منها لمدة سبع سنوات تقريباً ، قبل العودة إليها من جديد في العام 1974 ،
في ظل زعامة أخرى ، وحقبة جديدة .
روى لي الوالد كيف كان شاهداً على سقوط إحدى
طائرتنا الحربية في بحيرة مائية بإحدى ضواحي مدينتنا الساحلية الرائعة ، حيث بدا
له ، ولرفاقه من الوهلة الأولى ، أن الطائرة التي سقطت كانت إحدى طائرات العدو
الإسرائيلي ، حيث تمكن قائدها من فتح مظلته قبل أن تسقط الطائرة في هذا البحيرة ،
فهُرع الجميع للإمساك به ، ظنا منهم أن جندي أو ضابط إسرائيلي ، حيث وجدوه مختبئاً
في أنبوب مائي كبير ، وبإخراجه منه ، علت الدهشة وجه الجميع ، ونال العجب من نفوس
المتحلقين حوله ، فالطيار كان ضابطاً مصرياً ، والطائرة التي هوت إلى قاع البحيرة
كانت مصرية ، سقطت في معركة جوية كانت الغلبة فيها لسلاح الطيران الإسرائيلي آنذاك
، وفي محاولة لتهدئة روع الطيار ، إنخرط الجميع في بكاء من صدمة الواقعة التي لطخت
الكبرياء الوطني إبان ذلك العهد .
هذه إحدى مرويات الوالد الكثيرة عن هذه الحقبة ، والتي غالباً لا
يأتي ذكرها على لسانه ، إلا مقرونة بالتعريج على (شيطان الحقبة) ، و(عراب النكسة
أو الوكسة) الأستاذ / هيكل ، بكل ما تستطيع تخيله من عبارات القدح واللوم والتجريم
، والحقيقة أنني قد ظللت فترة متبنياً وجهة نظر الوالد ، بإعتباره مصدر أخباري ،
ونبع معرفتي في هذه السن الصغيرة ، وبتدافع الأيام ، ومرور السنوات ، بدا لي
وكأنني إتخذت موقفاً مغايراً لموقف والدي من الحقبة الناصرية ، عندما وجدت أخيراً
مصادر أخرى للمعرفة والأخبار ، وإن كنت أوافقه كثيراً في طرحه عن هذه الحقبة التي هي
مثار للجدل الدائم وحتى الآن .
عودة إلي الأستاذ الآن ...
أنا من الحريصين على إقتناء كتب الأستاذ هيكل التي هي غالباً غالية
ثمن ، أنيقة الطباعة ، حسنة الإخراج ، وأستطيع بشكل محايد أن أؤكد لك أنك بوسعك أن تتناول الأستاذ / هيكل من زاويتين ، زاوية أراءه السياسية ، وزاوية حرفيته الصحفية ، ذلك أنه بوسع الجميع الإختلاف حول أراءه وتوجهاته ، أو حتى بشأن الحقبة التي
يمثلها ، ولكن لن يستطيع منصف - في ظني - أن ينال من مهارته الصحفية الرفيعة ،
وثقافته السياسية الحادة ، وذاكرته الحديدية الجامعة لكل أشكال التناقضات
والمتماثلات والمتشابهات ، طوال سبعين عاماً على الأقل من عمله الصحفي الثري ، ولا
أنسى في هذا الإطار من أن نذكر بعضنا البعض بأن الأستاذ / هيكل كان مراسلاً
عسكرياً إبان الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي ، فنحن - بهذه المثابة -
إنما نتحدث عن آلة زمن تمشي على قدمين ، رصدت أفول شمس الملكية المصرية ، وبزوغ
فجر الجمهورية ، بنسخها السبعة حتى الآن .
عاين الأستاذ / هيكل وشاهد ، ونظر ، وكتب ، وحاضر ، وأرخ ، عن الأزمات
الدولية - ذائعة الصيت - كالثورة المصرية عام 1952 ، وأزمة السويس ، الحرب الكورية
، حرب فيتنام ، حرب الأيام الست ، الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، الثورة الإيرانية ، إنهيار
الشيوعية ، القطب الأمريكي الأوحد ، كارثة يناير 2011 في مصر ، وثورة الـ 30 من يونيه
2013 ، فبصمته الصحفية القدرية مطبوعة على كل الأحداث تقريباً .
وبحسبانه (شيخ طريقة) ، فله من المريدين والمحبين والمقلدين ، ما
يجعله محط إهتمامهم ، فتجدهم وقد تحلقوا حوله ، إلتماساً لرأي أو بيان في شأن من
الشئون ، وبقلمه الرصاص الذي لا يفارق يديه ، وبدلته الزرقاء القاتمة ، وشعره
الأبيض الشاهد على عمق التجربة وأثر السنين ، تراه يروى ظمأ المتعطشين بقدر معلوم ،
وبينما لم يبلع الرواء منهم مداه ، يعودون فيسألون ، فتتصدر كلماته مانشتات الصحف ،
وتعقد الندوات للتحليل ، والمقالات للتوضيح ، وما بين قادح ومادح ، ومحب ومبغض ،
يظل الرجل حالة صحفية معجزة علي أي مقياس من المقاييس ، فهذا رجل إن (عطس) ، أصابت
الإنفلونزا كل الأوساط هنا وهناك .
على المستوى الشخصي ، فإن أشد ما يلفت نظري في شخصية الأستاذ / هيكل
هي قدرته على أن يظل محتفظاً بلقب (الحكاء الأكبر) ، دون أن ينازعه
في ذلك أحد ، بل ودون أن ينال الملل من شخوص المستمعين والمتابعين له ، على إختلاف
أمزجتهم الشخصية أو السياسية ، وهو في هذا الإطار صاحب مدرسة خاصة ، جرى ويجرى
تقليدها من حين لآخر ، من خلال كتاب وإعلاميين وسياسيين كبار ، وكيف لك أن تمل ممن
يصطحبك ويغوص معك ، أو بدونك ، أو حتى رغماً عنك ، إلى حيث السياسة
، والإقتصاد ، والتاريخ ، والجغرافيا ، وإن شئت الشعر ، وأنت جالساً أمامه متحيراً
من تنقلاته المفاجئة ، وتنوع شخوصه وأبطاله ، ممن لا حصر لهم ، ولا
عد .
إن لم تكن تصدقني ، فعليك التجريب
بنفسك ، بينما يصف لك الأستاذ / هيكل الأجواء الودية التي أحاطت بإفطار صباحي
باريسي ، رفقة الرئيس الفرنسي الراحل ، فرنسوا ميتران ، تراه ذهب بك - فجأة - إلى
الشرق حيث التجربة الصينية ، والثورة الثقافية لماوتسي تونج ، وقبل أن تلتقط
أنفاسك ، إما ستجد نفسك في لندن حيث يشير على الراحلة مارجريت تاتشر إلى النهج
الذي عليها إتباعه عند خوضها تجربة كتابة مذكراتها ، وإما ستكون تتصبب عرقاً بكيب
تاون إن كان قُدر للأستاذ أن يجري مقابلة صحفية مع زعيم قبائل الزولو بجنوب
أفريقيا ، ولكنه في جميع الأحوال سيسمعك أبيات من الشعر العربي القديم ، أو عبارات
من النثر المتوهج ، إذا إقتضي جو النقاش شئ من الترطيب ، فإن وجدك منصتاً جيداً من
خلال قرون إستشعاره الفريدة ، زادك من الشعر بيتاً وأبيات ، ثم يصمت ليعاين بنفسه
، وقع الإعجاب على محياك .
وبينما لم يزل الأستاذ / هيكل يعجن لك
خليطاً متماسكاً ومختمراً ، ومطهواً على طريقته ، ويقدمه لك بأناقته الملفتة ، أرجوا
أن لا تتفاجئ من أن الوجبة التي باتت بين يديك الآن ، من العسير تصنيفها تحت أي
عنوان تقليدي ممل ، ذلك أنه يحرص على أن لا يُضبط متلبساً بالإجابة المباشرة عن أي
سؤال ، وهو وإن قدم لك فاكهة الصيف في الشتاء ، أو نصحك بإرتداء ملابسك الشتوية ،
في شهور الصيف القائظ ، فله على ذلك أدلة كثيرة ، وشهود دائمين ، بشرط أن يكونوا
جميعاً قد فارقوا الحياة ، ليبقى هو وحده الراوية المفرد كما يقول بعض من مبغضيه .
ختاماً .. لست من انصار الرجل ، ولا من
الذين ينافحون عنه بحال ، ولكني وللإنصاف أراه نسيج وحده ، حيث أتابع كتاباته
وأحاديثه التليفزيونية منذ زمن ، لأتعلم كيف تكون الثرثرة مفيدة أحياناً ، وكيف لمدرسة
(المتاهة الصحفية) ، أن تظل قادرة على الصمود ، لما يزيد عن تسعة عقود ، هي عمر
الأستاذ الكبير ، أطال الله عمره .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق