بقلم : ياسر حجاج
يحتفل العالم غداً بعيد العمال ، فمنذ قرن وبضع عشرات من السنوات ، جرى ترسيخ فكرة إعتبار الأول من مايو من كل عام كيوم عالمي للعمال ، تخليداً لذكرى كفاح العديد من القيادات العمالية حول العالم ، من أجل ضمان حقوق العمال التي تتمثل في وضع حد أقصى لساعات العمل ، وحد أدني للأجور ، فضلاً عن توفير متطلبات الرعاية الصحية بوحدات العمل والإنتاج ، إضافة إلى الحق في الحصول على يوم راحة في الأسبوع على الأقل ، هذه الطلبات التي وجدت أخيرا طريقها بعد عناء وصبر طويلين ، إلى التشريعات الداخلية للبلدان ، فضلاً عن بعض المواثيق الدولية ذات الصلة .
في ذاك الزمان لم يكن من الميسور بأي حال أن يرفع عامل عقيرته بالصراخ في وجه رب العمل للمناداة بحق له أو لأحد أقرانه من العمال ، ولم تكن النقابات العمالية قد نضجت فكرتها ، كان العمال في الواقع ينسحقون تحت عجلة الدوران السريع للألات في بداية حقبة الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا ، حيث كانت المآسي الإنسانية والإجتماعية أكبر شاهد على توحش أرباب الأعمال في مواجهة هذه الطبقة الكسيرة الأسيفة التي يخشى أحد أفرادها أن يعود إلى بيته مساءاً حاملاً خبر إنهاء خدمته ، بدلاً من حمل بعض أرغفة الخبز وقليل من الزبد إلى زوجته وأولاده .
لقد كانت الثورة الصناعية آنفة الذكر ، ليست ثورة هائلة فحسب في الدفع بالآلات الحديثة ، وغزارة الإنتاج وتوفير الكثير من الوقت والجهد ، بقدر ما كانت (ثورة مضادة) في ذات الوقت لكل قيمة إنسانية أو إجتماعية أو حتى إقتصادية ، حيث إرتفع شأن الآلة ، وهُمش شأن الإنسان ، الذي أُطيح بحقه في العمل والكسب ، فآلة واحدة صماء كفيلة بإحالة العشرات من العمال إلى سجلات العاطلين عن العمل .
سيظل عالقاً في ذهني كثيراً ، تلك الصورة المحفورة
بالدم والعرق والدهشة ، عندما وقف أحد أصحاب المصانع في أوروبا أمام إحدى آلات
مصنعه التي أتت لتوها من الميناء ، وبكرش منتفخ ، وشارب كثيف غير مشذب ، كان
الإعجاب مستولياً عليه بالكلية ، وهو يدور ويدور حول هذه الآلة ، وفي زاوية الصورة
كان هناك جمع من العمال المنهكين وقد إصطفوا أمام صاحب العمل ، الذي كان يرمقهم من
طرف خفي ، فلقد كان على وشك أن يطيح بهم جميعاً إلا واحداً منهم فحسب ، حيث إبتدرهم
قائلاً :-
- أيها الأعزاء .. لعلكم تطالعون آلتنا الجديدة الآن ، في الحقيقة أن المامول منها أنها ستؤدي عمل عشرة منكم على الأقل دون تبرم ، ودون حتى أن تطالبني ، بمقابل عن ساعات عملها الإضافية ، وإنني لست في حاجة إلإ لمن يتولى تشغيلها وصيانتها ، فتخيروا لأنفسكم ، علماً بأن الأجور التي كنتم تقتضوها مني مسبقاً ، لن يكون بوسعي أداؤها لكم اليوم ، ولأكن صريحاً أكثر معكم ، فلن أدفع لكم في الواقع أية أجور نقدية كما كنت أفعل معكم من قبل ، فالأجور من اليوم ستكون عينية متمثلة في بعض الأطعمة والتي أراها كافية لسد رمقكم وأهليكم .
أُسقط في يد العمال ، وعلت الدهشة الممزوجة
بالدمع المكتوم محياهم ، وتجمد العرق أو كاد فوق جباهم ، فلقد إستوعبوا جفاء الرسالة
التي نزلت عليهم كقدر محتوم ، ودارت في أخيلتهم كل المشاهد والصور القاتمة عن
المستقبل الذي قد ينتظره كل منهم ، هنا تأتي صورة الزوجة المكدودة ، ومشهد الأطفال
الجياع التواقين لبعض جرعات الحليب ، اجرة المسكن الرث الذي يقطن فيه كل منهم ، كانت
الخيارات جد محدودة ، والمناورة ليست لها محل من أي إعراب .
تشجع أحدهم ، وبصوت متهدج ، قال :-
- سيدي .. بوسعي العمل لقاء خمس أرغفة من الخبز ، ونصف رطل من الدهن ، و......
قبل أن ينهي حديثه ، بادره صاحب العمل :-
- أيها العزيز .. هذا فوق طاقتي ، أتدري أن هذه الآلة الجديدة سيتطلب تشغيلها الكثير من الوقود والشحم ؟ .
عامل آخر كان اكثر واقعية ربما من زميله :-
- سيدي .. يسعدني العمل لقاء الأرغفة الخمسة فحسب ، فسارع رب العمل ، ودون حتى ان ينظر إليه :-
- فليكن .
*****
الآن أعزائي ، تغير الزمن كثيراً ، فقد عرفت
التشريعات الحديثة ، قوانين خاصة بالعمال ، تضمن كفالة أجورهم ، وتاميناً صحياً
معقولاً لهم ، وإلزام صاحب العمل بتعويضهم عن الإصابات التي قد تحدث لهم أثناء العمل
أو بسببه ، وغيرها كثير ، وبتدافع الأيام ، خطى العمال خطوات أخرى مهمة ، تمثلت
بالحق في الإشتراك في إدارة المنشآت ، بواسطة نمثيل أحدهم أو بعضهم كاعضاء بمجالس
الإدارات ، فضلاً عن حقهم في الحصول
على نسبة من الأرباح الصافية للمنشأة ، والإنفراد بإعداد اللوائح المنظمة للعمل .
رويداً .. رويداً ، ركن بعض العمال إلى
التشريعات التي تصون حقوقهم ، فتغولوا حتى على حقوق أرباب العمل ، وذلك بالتلويح
بالإضراب الكلي او الجزئي ، أو الإعتصام
بمقار الأعمال ، وتحريض النقابات العمالية والصحافة والإعلام على رب العمل ، إلى
الحد الذي قد يدفعه إلى التفكير في تصفية نشاطه ، أو الرضوخ إلى مطالبهم ، حتى وإن
بدت غير قانونية أو منطقية ، وإلا فما المنطق الذي يدفع بعض العمال إلى الدعوة إلى
الإضراب بزعم عدم صرف أرباحهم السنوية المعتادة ، على الرغم من تحقيق المنشأة
خسائر بالملايين مثلاً ؟ هذا ما يحدث في مصر ،
حيث بات متوسط مقدار ما يؤديه العامل فعلياً لا يتجاوز العشرون دقيقة يومياً من ساعات
عمله المقررة ، حسب التقارير الصادرة في هذا الشأن ، لعلها أعزائي ديكتاتورية البروليتاريا كما أسمها كارس ماركس ، وإن تكن بأزياء حديثة هذه المرة .
أخيراً .. كل عام والعمال بخير ، وقبلة حارة
على يد المجدون منهم والمكافحون والشرفاء ، الحالمون ببلدة ناهضة أينما كانت ، الباحثون
عن رزق حلال لهم ولذويهم ، تحية وإجلال كبيرين لعرقكم النازف من جباهكم الشريفة، وأقول أن مقولة (يا عمال العمال .. إتحدوا) آن لها أن تنزل منزلتها الحقيقية ، فالإتحاد من أجل الإضراب غير القانوني ، وتوقف وسائل الإنتاج بلا مسوغ ، وتخريب المنشآت ، لهو حري بقطاع الطرق أو الأفاكون ، الذين تنكبوا الطريق ، وساروا على غير هدىً أو برهان مبين ، مستغلين في ذلك أزمة بلد ، وطقس سياسي مسموم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق