إلى من يهمه الأمر
من
النشطاء والحقوقيين
بقلم : ياسر حجاج
يبدو لي أنه من البديهي تماماً أن
تُحددوا خياراتكم في الحياة ، فتكون رجالاً أو لا رجال ، فحالة (البين بين) أمر
غريب فطرياً ومستهجن تماماً إجتماعياً ، ما لم يكن الأمر بالطبع راجعاً في جزء منه
إلى إعتبارات خِلقية (بكسر الخاء) .
إلا أنه من الجلي تماماً الآن وفي ظل
إعتبارات خِلقية طبيعية يريد البعض منكم أن يعيش أو يعايش (طور الميوعة) على كبر ،
والحقيقة أنه لا مشكلة شخصية لدي في أن يكون بعضكم (مائعاً) أو حتى (متهتكاً) ،
بشرط أن تباشروا ميوعتكم أو تهتككم أو كليهما من وراء حجاب ، أو خلف أبواب مؤصدة ،
أما أن تخرجوا بها علينا ، وتجعلون منها عملاً أخلاقياً ، أو حتى مسلكاً موضوعياً
أو حقوقياً ، فذلك لعمري عين العبث .
أيها الراقصون مع الذئاب
والذباب ، فوق جسد الوطن المنهك
أما آن لكم أن تكونوا
رجالاً ، فتقدمـوا لأمتكم كشف عـــــذرية
*****
هاكم صفحة من دفتر يوميات
ناشط حقوقي ، كمـا تخيلتــها
المكان
: السفارة البريطانية
القــاهرة
- جاردن سيتـــــي
الزمان
: صيف 2013
في حُلة إستثنائية في أناقتها ، دخلت بثقة إلى
حيث مكتب سكرتيرة الملحق الإعلأمي بالسفارة ، بناء على موعد سابق ، سبقني
إليها عطري الكلاسيكي الفواح ، قدمت كارت التعارف لها ، وخاطبتها بلغة ودودة :
- هناك موعد مع سعادة
الملحق السيد / جيري بن .
وبلغة دمثة لا تخلو من برود إنجليزي معتاد :
- سيدي ، هل تفضلت بالجلوس ؟
أومأت إليها موافقاً دون أن أنبس بكلمة ، ثم عادت
فأردفت :
- سأوافيك بعد قليل ، فسعادة الملحق مازال في
إجتماع ، فقد أتيت مبكراً قبل موعدك بربع ساعة ، غير أنني لم أعقب ، فالصمت دائماً
ملاذاً محبباً لي ، لاسيما إن أردت أن أبدو على هيئة أو شاكلة جادة .
تلبست - إلى حين - حالة الوقار التي تتناسب مع
هكذا مكان عتيق ، تفوح منه رائحة التاريخ ، وعبق الماضي الإستعماري القديم ، وعلى
الحائط المقابل لي تماماً ، وفي الجزء الذي يعلو مقعد السكرتيرة ، كانت هناك
أيقونات إنجليزية حقيقية ، صور لقادة ومفكرين ، فلاسفة وأدباء ، رياضيين
وسينمائيين ، حتى شعار البي بي سي كان هناك ، وكأني به ينبه والجالس والمار
، وبصوت مسموع حد الصراخ (هنا لندن - هيئة الإذاعة البريطانية) ، فالإنجليز لا
يفوتون هكذا فرص .
وبينما أتجول بناظريِّ أخذتني الدهشة حقاً من هذا
الطراز المكتبي الفريد ، وكأنه أتى للتو من حقبة فيكتورية تليدة ، وقلت في نفسي ،
هاهم الإنجليز يذكرونك في كل مناسبة ، وأينما حلوا ، أنهم أبناء إمبراطورية مجيدة
، حتى وإن توارت شمسها الآن خلف ضباب بلادهم الكثيف ، ثم إلتفتُ عن يساري لأرى
لوحة كبيرة الحجم لملكة بريطانيا العظمى ، وقد أحاطت بها إضاءة خافتة لا تكاد تظهر
منها سوى عينين مملؤتين بالود الممزوج بالشموخ ، حدقت في اللوحة لبعض الوقت بشكل
حتى أثار إستغرابي ، وحدثتها بلسان القارئ المجد لتاريخهم ( أهي أنت إذن ؟) ، لم
انتظر طويلاً حتى جاءتني الإجابة على لسان مفعم بغرور وأبهة القصور الملكية ( نعم
إنها أنا ، ألديك شك ؟) .
هدأت من روع الهيبة التي تملكتني وقتها ،
ورأيت أن الأمر بحاجة إلى معالجة ناجزة ، وبخفة مصطنعة كانت جديرة بالتسجيل حقاً ،
قمت وإنحنيت أمام جلالتها مؤدياً لها التحية كأحسن ما يُـنتظر من جنتلمان حقيقي ،
أو دوق نبيل ، حتى وإن كان ذو خلفية ريفية مصرية .
وددت وقتها أن لو لمحني أحد ، فأنال إستحسانه ، أو
أدخل دائرة إهتمامه ، لكن للأسف لم يكن هناك من أحد يرقبني ، ولكني عولت - ومن باب
الدفعة المعنوية لذاتي - على أن كاميرات المراقبة لابد وأنها قد سجلت ذلك ، الأمر
الذي قد يكون محل نظر ذوي الشأن بالسفارة ، ولعلهم يحاولون التعرف عن كثب عن ذاك
الذى أدى التحية لمليكتهم حتى وإن لم يره أحد .
مرت دقائق حتى أتى صوت ذكوري باسم من نهاية الممر
المفضي لمكتب الملحق الإعلامي بالسفارة :
- مستر / محمود .. اهلا بك ، تفضل .. تفضل .
قمت من جلستي ، وسرت بتؤدة وإستقامة في الممر
الفسيح ، ومختالاً كأي إمبراطور متقاعد ، لم ينس بعد قواعد البروتوكول ، وثقافة
المراسم والتشريفات ، ومددت يدي لصديقى / جيري بن ، وحرصت على وجود مسافة كافية
بيني وبينه أثناء مصافحتي إياه ، إلى الحد الذي لامست به بالكاد أطراف أصابعه ،
فلا شئ أحب لمثلي من اللفتات المعبرة ، والزوايا الصغيرة التي لا يلمحها غالباً
أحد ، وهذا أمر ساحتاجه بشدة في قادم الأيام .
بادرني الملحق الإعلامي بعد المجاملات المعتادة :-
- مستر محمود .. أعلم أنك لا تشرب الكحوليات في الصباح
، فماذا أقدم لك ؟
دون أنظر إليه ، طلبت فنجان من القهوة التركية ،
ثم قدمت له مظروف مغلق ، ومع إبتسامة باهتة لا تخلو من تحد غير مبرر :
-عزيزي جيري ، هذا هو إذن التقرير الذي وعدتك به
، به رصد وقراءة للصحافة المصرية ، الحكومية والخاصة ، وبعض من إنطباعاتي عن ردود
الأفعال المجتمعية إزاء ما يُسمى بثورة 30 يونيه ، يا إلهي لقد نال مني التعب
مناله حتى أنتهيت من كتابة هذا التقرير في الوقت المتفق عليه .
تلقف صديقي التقرير بإهتمام ، وبدأ بمطالعة بعض
عناوينه الرئيسية ، ثم ألتفت إلي وقد خلع نظارته :-
-هذا مجهود مُقدر ، ولعل أصدقائنا في لندن سيرون فيه
ما يستحق المتابعة والتحليل ، ولا أريد أن أذكرك عزيزي محمود ، أننا مازلنا ننتظر
تقريراً منفصلاً عن القيادات الصحفية الجديدة التي تستعد لتبوأ رئاسة تحرير الصحف
الحكومية خلال الفترة المقبلة ، فهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا ، فلا نريد
للأمريكان ان يسبقونا في هذا المضمار أيضاً .
-لا عليك ، تقريري شبه جاهز ، فقط أردت الإحاطة
ببعض التفاصيل المحيطة بالأسماء المقترحة ، لعلنا نقع على أمر ذو بعد ملفت لأحدهم
، فنعمل عليه بكل قوانا .
وبإبتسامة موحية سألني بن :
-ماذا لديك اليوم .
- فقط سأمر على نقابة الصحفيين عصراً للمشاركة في
وقفة تضامنية مع أحد نشطاءنا الذي جرى إحتجازه مؤخراً ، في المساء سأمر على نادي
الليونز لإلقاء محاضرة عن الحقوق والحريات في ظل عسكرة النظام المهيمن على المشهد
الآن ، وبعدها سانتقل كالمعتاد إلى منزل صديقتنا المشتركة لنبدأ جولة جديدة من جولات
السمر .
-ممتاز .. ستجدني قد سبقتك إلى هناك مع مشروبك
الإنجليزي المعتق ، وأرجوا قبل المغادرة ان تمر على سكرتيرة مكتبي ، هناك مظروف
بأتعابك عن هذا الشهر ، مع خالص تحيات حكومة جلالة ملكة بريطانيا ، قمت من جلستي منحنياً كالعادة :
- فلتحياً جلالتها ، ولتحيا حكومتها العظمى .
لم أنتظر حتى أدلف إلى سيارتي ، بل قمت بفتح
المظروف مباشرة لأقف على مقدار التقدير لمجهوداتي ، وما أن إنتهيت من العد ،
حتى أخذت نفساً عميقاً ، وقلت في نفسي ،
يا لبخل الإنجليز ، إن الأمريكان يدفعون أكثر ، وعلى عجل قمت بإجراء مكالمة من
هاتفي المحمول إلى سكرتيرتي :
صباح الخير عزيزتي شيماء ، أرجوا إرسال تقريري عن
رؤساء تحرير الصحف المصرية إلى البريد الإلكتروني الخاص بالملحق الإعلامي بالسفارة
الأمريكية ، وحددي لي موعداً معه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق