- سألنى أحدهم عندما بلغت الخمـــسينً .. كم عمرك ؟
- مبتسماً وبغير تردد .. خمس وعشرون سنة عشتها
، غير أني لم أحيا سوى خمس وعشـــــرون أخرى !
من الأمور التي كنت حريصاً على تحديدها بشكل
جاد منذ وقت مبكر نوعاً ما ، هو التفرقة ما بين العيش والحياة ، إذ يختلط الأمر
على بعضنا أحياناً ، فيما يخص هذين المفهومين ، حيث يجري تناولهما بحسبانهما شيئاً
واحداً تقريباً ، أو مترادفين لمعنىً واحد ، ذلك أن عيشك ، هو جدك وسعيك وكسبك
لنفسك ومن تعول ، أما حياتك فهي نفسك وروحك ومرحك ، وتفريعاً على ما تقدم ، نقوم بتقسيم
اليوم إلى قسمين متساويين ، نصف الأول للعيش ، ونصفه الآخر للحياة ، والتفرقة التي
أعنيها ليست بالتأكيد تلك القسمة الجامدة ما بين توقيتين في يوم واحد ، وإنما هي
قسمة ما بين الجد والمرح ، الحياة عندي بالمناسبة ، تبدأ في السادسة مساءاً
حتى مطلع الفجر ... يا مساء الأنوار ! .
ما المساء إذن ؟
أحد الأضياف خفيفي الظل
، السامر الذي يقرع أبوابنا ، كلما رأى الشمس تلملم وهجها إلى ما وراء الأفق ، أنيس
أنيق ينضم لجوقة رفقتنا النبيلة .. كتبنا ، قصاصاتنا ، قهوتنا ، وحتى سجائرنا ، فالمساء
يعطينا أكثر من مجرد إشارة إلى هبوط الليل ، فهو ينبهنا أن أشباح النهار قد توارت ، وأن أطيافه هو على وشك أن تُسفر عن وجهها بكل دلال
، وعلينا بالتالي الإستعداد لأن نكون صحبة السكون العاصف ، الذي يُؤذن ببدء
المغامرات الخطرة ، حيث تستأذن الأمطار الموسمية ببدء الهطول .
لذاكرة المساء .. إثارة لا تُقاوم ، وشهوة لا تصل بك أو
معك إلى حد الإشباع أبداً ، دائماً ما تجعلك تلهث وراءها للإستزادة ، فتعطيك طرف
من خيط ، أو شعاع دقيق متسرب من خلال نافذة مشروخة ، فقط لتذكرك أنها كانت هناك ،
شاهدة يوماً ما ، على الألق والأرق ، على المناديل المعطرة المهداة ، وتلك الجوارب
الناعمة التي تجاوزت حدود الساق بكثير ، على الإبتسامات ، ونوبات السهارى تحت
أعمدة الإنارة .
إن فاتك
الأول .. فالمساء .. ضمير ثان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق