بقلم
: ياسر حجاج
في سني أعمارنا الخضراء ، وعلي أسوار البراءة والعفوية ، نجلسُ
مُطوحين أقدمنا في الهواء في حالة من اللهوِ البرئ ، ثم ترانا وقد أجلنا أبصارنا
وخواطرنا فيمن يمرون أمامنا ، ممن يكبروننا سناً ، أو حتى يفوقننا قامة ،
فنغيبً للحظات عن مشهدنا الطفولي الواقعي ، بالسياحة فيما وراء ما لم يأتِ بعد
، وقد إستغرقنا في اللحظة المنتظرة ، التي نبلغ فيها مبلغ الكبار ،
فنصرخ في وجه الجميع ، بدلاً من أن يصرخ في وجهنا الجميع كما الآن ، في هذه السن لا يعرف
أحدنا دلالة الأيام ، ولا معنى تدافع السنين .
نكبر فنلامس مراحل الصبا ، فنتجاوزها بخفة إلى مرحلة الشباب ، فإننا
شببنا ، تاقت نفوسنا إلى طور الرجولة ، فإن بلغناه ، طالعنا كتاب عن (أزمة منتصف
العمر) أو حتى عن (ربيع الأعمار) ،
أي أنه وبدلاً من أن نتعايش مع كل مرحلة بلغناها بكل ما فيها ، ترانا وقد عدنا نلهو من
جديد ، مُطوحين أيادينا هذه المرة ، وقد إستغرقنا مجدداً في المرحلة التي تليها ،
وهكذا دواليك ، ففي كل مرة ، معايشتنا مؤجلة ، وفرحتنا مجمدة ، والمحصلة ليست سوى
إنتظار طويل لموسم قطف الثمار ، الذي يبدو أنه لن ينضج أبداً ، الآن ربما نعرف لما
كنا نفكر في مرحلة التقاعد ، على الرغم من أننا كنا لتونا قد إلتحقنا بسوق العمل .
تمادينا كثيراً في حرق المراحل ، واحدة بعد أخرى ، حتى وصلنا أخيراً
إلى المرحلة التي لا تتلوها غالباً مرحلة جديدة على سلم الأعمار ، بل خط نهاية ،
نرى معالمه من بعيد ، ولكنه كأوضح ما يكون ، ولعلنا قد أبصرنا أولئك الذين بلغوه ،
ثم لم يعودوا ليحكوا لنا تجارب المشاهدات ، وإنطباعات المعاينات
، وإزاء الغموض الكامن وراء خط النهاية ، فإننا نفعل كل شئ لنظل على بعد
مناسب منه ، فلا شئ أخوف للنفس من أن تترك قرص الشمس ، لتستظل ببقعة رمادية .
قبل ذلك قد ننتبه ، فتحدثنا نفوسنا المرحة ، بأنه سيغدو
من الجميل لو تجاوزنا الواقع ، وتمردنا على المراحل بكل أشكالها النمطية التي
يُراد لنا أن نكون جزءاً منها ، فنمسك ريشتنا ، ونرسم بأنفسنا العالم الذي طالما أحببناه
فلم نجده ، والناس الذين وددنا لو قابلناهم ، فلم يُتح لنا إلى ذلك سبيلاً ، فنبتدع عوالمنا ، شخوصنا ، وكل مرئياتنا ،
حيث ممارسة الفصام الإرادي بكل معنى الكلمة ، حيث مجاوزة اللحظة الآنية ، والقفز
إلى فضاء الدهشة .
وعلى صدى الوجيب الذي يضرب أفئدتنا ، قد نتوقف ونسأل أنفسنا .. ما المراحل ، بل ما
الأعمار ؟ شخصياً لا تهمني أية إجابة قاطعة ، ربما هي رقم في دفتر ، أو منبه باهت يُذكرنا بعيد ميلاد ، وهدايا تأتينا
مهنئة إيانا بأننا مازلنا على قيد الحياة ، وأن لقب (المرحوم) ضل طريقه إلينا هذه
المرة ، ولأنه ليس لدينا خطط عملية واضحة ، فإننا في الغالب سنهيم في الزحام كما
الجميع ، إنتظاراً لكارت أحمر يُرفع في وجوهنا ، فنخرج من ساحة عريضة ، لم
تُراع فيها قواعد وأخلاقيات اللعبة بالقدر المأمول .
صحيح أن بالحياة ، ما يستحق العيش من أجله ، لكننا أيضاً نقول في
مواضع أخرى ، أن ليس بها تقريباً ما يدعونا إلى التشبث بها ، إلا بمقدار الشوط
الذي نود أن نقطعه في تثيبت دعائم ، أو إزالة معوقات ، أو حتى إضافة بعض النكهات ،
وإذا كنا نشعر ببعض الإمتعاض أو الإحباط ، فإننا غالباً ما نعمد إلى خلق حالة من
الترضية لأنفسنا ، مفادها أن من سيخلفوننا سيعملون بجد على تقدير ما كان من مسعانا
وإجتهادنا ، كل على طريقته ، المشكلة أننا لن نكون هناك ، لنبدي لأحدهم أو إحداهن
بعض الإمتنان .
غالباً لن تعطينا الحياة فرصاً جديدة للتجريب ، ولن يكون في وسعنا كل
مرة ممارسة فن الإسترخاء عن بعد ، وكوننا قد أحرقنا مراحلنا السابقة ، بالتأبي على
معايشتها ، والتمرد على الإنخراط الواقعي بها ، فإن هذا ليس نهاية المطاف ،
فبوسعنا خلق مرحلة جديدة ، لعلها الأهم في المسيرة الشخصية لكل منا ، الا وهي
المرحلة الشاعرية ، حيث الإطلالة النقية والصادقة ، وربما الأخيرة على العالم بكل
ما فيه ، وأياً ما كان العمر الذي بلغنا ، أو التوفيق الذي صادفنا ، فإن شاعريتنا
وحدها ستكون كفيلة بضبط زوايا الرؤية ، وتحديد المسارات لنا ، وستعمل على مساعدتنا
في لملمة تلك الأشياء الكثيرة التي سقطت من بين أيدينا ، عبر عقود قد خلت من أعمارنا
، فهي مكافأة نهاية الخدمة التي ستتيح المحافظة على قدر معقول من أسباب البقاء .
صحيح أن عجلة الزمن قد دارت بنا ، وضرب الشيب عوارضنا ، لكن لا بأس ،
فقليل من الحناء الداكنة ستكون كفيلة بمعالجة الأمر . أما عن مرايانا .. هل تظهر
لنا حقيقة ما ؟ ربما ، ولكنها تعكس ما نود نحن أن نراه . مازلنا شباباً .. أليس
كذلك ؟ نعم .. نعم .. فربطات العنق الملونة لن تختفي ، وقناني العطر ستظل شاهدة
على الألق ، وفناجين القهوة التركية سترسم من بعيد صورة جانبية للمشهد ، أما عن
أقراص علاجنا ، فلما نُعرها أي إنتباه ؟ ألم نقل دوماً ، أنه لا أشر من المحامين
سوى الأطباء ؟ .
الشاعرية ستقطع الطريق على حالة تململنا ، ولسوف تخبرنا أن لكل مرحلة
عمرية طاقتها وحيويتها ، بل وجاذبيتها ، ومهما بدت اعمارنا متأخرة ، أو تراءت لنا
وكأنها تلهث في أمتارها الأخيرة ، فلسوف تحفزنا هذه الشاعرية على خوض غمار تجارب
جديدة ، ككتابة مذكراتنا مثلاً ، وسنتفاجئ حقاً بأن لدينا الكثير مما يستحق أن
يُقال ، وبالتأكيد سنجد من لديه الإهتمام للإستماع أو القراءة ، حتى ولو من باب
التسلية أو العزاء ، نستطيع أيضاً - وعوضاً عن كتابة المذكرات - الإكتفاء بدفتر
يوميات صغير ، حيث الرصد الحي والأمين للمشاعر والحماقات ، فجميعنا يحب الثرثرة
بكل تأكيد .
الشاعرية بدرجاتها المتفاوتة ، ستعمل معك على إستنبات طاقات حيوية
جديدة ، كإستقبال زوار وأضياف جدد ، حيث أحاديث السمر مع صنف لا يشبهنا ، ولا
نشبهه ، فن الحوارات الصامتة الطويلة بلا عناء ، دجاجات تصيح ، أرانب وادعة شاهدة
على صلف الآدميين ، زهور وزروع ، قصاري ورد بالشرفات ، كاسات ماء مزدانة بالنعناع
، لوحات زيتية مبهمة محنطة على جدار ، صفحة بيضاء بغرف مكاتبنا كُتب عليها (الآن .. الآن .. وليس غداً) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق