المُقدس .. فطري أم مُكتسب ؟
تستمر الرحلة مع د. حسن حنفي في بحثه
القيم عن المُقدس ، ويطرح تساؤلاً هاماً هنا ( المُقدس فطري أم مكتسب ؟ ) ، فيقول
أن المُقدس فطري في النفس ، بينما أشكاله الخارجية (العبادات) فهي مكتسبة ، ففي كل
نفس بشرية هناك المثال القابع فيها الذي يدفع نحو العمل والسعي نحو الكمال ،
والنفس بها نازعان ، أول نحو هذا الكمال أو الواجب ، وثاني محكوم باالممكن الذي هو
في حدود الطاقة .
فالمُقدس مفطور في النفس كالشعر أو
الخيال ، ولا يعني الشعر هنا الشكل الأدبي المعروف ، بل يعني القدرة على تحويل
الأشياء إلى صور فنية حتى يسهل فهمها والتعبير عنها وإيصالها إلى الناس ، تماماً
كما يفعل (الوحي) في التعبير عن الله ، وهو ما يسمى التشبيه كقوله تعالى (وما رميت إذ رميت ، ولكن الله رمى) ، ( يد الله فوق أيديهم ) ، وهو ما
يسميه القرآن ضرب الأمثال ( ويضرب الله الأمثال للناس ) ، فالإنسان يولد شاعراً ، وإلا
ما إستطاع إدراك رسالة الأنبياء أو التعبير عن عواطفه مثل الحب والكرامة وغيرهما .
لقد كانت أشكال المقدس جزءاً من الفن الرفيع مثل الرسم والعمارة والنحت
والموسيقى ، بل جزءاً من التراث الشعبي من موالد ورقص وغناء وإنشاد ديني ، فقد
إرتبط الدين بالفن ودخل أعماق النفس من خلاله ، لذا نجد أن الفرق بين النبي
والشاعر ليس كبيراً ! فإذا كان (الجمال) موضوع الفن ، فإن (الجلال) موضوع الدين .
من ناحية أخرى لا يمكن الإستغناء عن المُقدس بإعتباره يمثل الجانب المتعالي
والمثالي والأخلاقي والشعري في الإنسان ، فالمُقدس هو بعد من أبعاد الشعور وليس
مقولة ثابتة أو شيئاً عينياً في الواقع ، وإقصاؤه - أي المقدس - هو تحويل الإنسان
إلى شئ ، فالأشياء وحدها هي التي لا تتعالى على ذاتها .
*****
من جهة أخرى قد تُقسم الشعوب على أساس التقديس ، فهناك شعوباً أكثر تقديساً
من شعوب أخرى ، فيُقال مثلاً أن الشعوب الشرقية أكثر تقديساً من الشعوب الغربية ، وهو
تعميم في حاجة إلى تفصيل ، فالهند والصين واليابان شعوب شرقية إستطاعت أن تحول
المقدس إلى العالم ، وتُنزله من السماء إلى الأرض ، فقد تحولت عبادة الإمبراطور في
(الشنتوية) في اليابان إلى عبادة الدولة والنظام ،كما تحول (كونفوشيوس) في الصين
من الأخلاق إلى السياسة ، ومن الفرد إلى الأمة ، ومن الكمال الروحي إلى أعلى معدل
في التنمية والصادرات ، كما تحول (بوذا) في الهند من شخص إلى مشروع نهضوي ، ومن
إله إلى كمال .
*****
أنواع المُقدس
يقول د. حسن حنفي في هذا السياق أنه على الرغم من أن المُقدس ناتج عن فعل
التقديس ، فإنه تحقق أيضاً في موضوع خارجي ، فقد يكون المُقدس مكاناً أو زماناً أو
مدينة أو هيكلاً أو صنماً أو شخصاً أو أثراً أو جماعة أو كتاباً ، مثال من ذلك أن
قدماء المصريين عبدوا الشمس والنيل ، وعبدت الصابئة النجوم والكواكب ، وعبدت كوريا
القمر ، وقدست بعض القبائل العربية جبل أبي قيس ، بل أن تعبير الأرض المقدسة ورد
في القرآن الكريم ، وهي الأرض التي يود بنو إسرائيل الإستقرار فيها ، وقد يكون
المُقدس هو الوادي أي جزء خصيب من الأرض ومعاش الإنسان .
والزمان مُقدس وله أشكال عدة ، منها الدهر وهو كل الزمان الذي يتوحد الله
به ، ( لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر ) ، والقرن مقدس - مائة سنة- ( خير
القرون قرني ثم الذي يلونه ) ، قُدس أيضاً زمن الرسول ، ثم زمن الخلفاء الراشدين ،
ثم زمن التابعين ، ثم زمن تابعي التابعين ، ويقل الفضل كلما تقدم الزمان ، وقد
تحول الزمان المقدس إلى التارسخ المقدس ، كتاريخ الأنبياء لدى بني إسرائيل ،
وتاريخ الكنيسة عند المسيحين ، وتاريخ الخلفاء عن المسلمين ،
قد تصبح المدن مقدسة ، كالقدس الشريف ، ومكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، بل
أن منازل الخلفاء والصحابة حول الحرم المكي أو ما تبقى منها منازل مقدسة ، والنجف
وكربلاء عتبات مقدسة ، و(قم) مدينة مقدسة في إيران .
والمقدس دوائر متعددة له قلب وأطراف ، فقد يكون المنبر داخل المسجد ، أو
الهيكل داخل المعبد ، والمصلى داخل الكنيسة .
وقد يكون المقدس (شيئاً) مثل الحجر الأسود ، الصليب ، أو الهلال ، أو
الشمعدان السباعي ، أو النجمة الخماسية ، أو السداسية .
وقد يكون المقدس نبياً أو ولياً أو إماماً أو شيخاً أو درويشاً أو صوفياً أو مجذوباً ، وربما كان
المقدس جماعة مثل رجال الكنيسة والرهبان والكرادلة والقساوسة والأحبار والمشايخ
والمفتين والعلماء والفقهاء والطرق الصوفية ، فكما ترون أن الدين يضفي قدسيته على
حامليه .
أخيراً .. قد يكون المقدس كتاباً ( التوراة - الإنجيل - القرآن ) ، يُحفظ
في مكان طاهر ولا يمسه إلا المطهرون ، يُجلد بعناية بقطيفة حمراء وخضراء ، وعنوانه
بالذهب ، يوضع على المكاتب ويُعلق في الرقاب وفي العربات للحفظ من الشرور ، يُقبل
ويُتبرك به ، وينتقل من الشفاه إلى الجبهة دليلاً على التعظيم ، علماً بأن الكتاب
في القرآن لا يوصف بأنه مقدس ، فالمقدس وصف للروح (القدس) ، ولله (القدوس) ،
وللوادي (المقدس) ، والأرض (المقدسة) ، ووصفت الروح بأنها (القدس) ، ولم يوصف الله
تعالى في القرآن بأنه (مقدس) ، بل (قدوس) ، أي ناشئ عن فعل التقديس ، ومن المرات
العشر التي استُعمل فيها القرآن للفظ ، إثنتان منهما في صيغة (قدوس) وصفاً لله
تعالى .
يُـتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق