بقلم : ياسر حجاج
إذا قلت لك أن اللغة الفرنسية ليست من بين العشر
لغات الأولى نمواً في العالم ، فلا بد أن هذا سيثير دهشتك ، لكن هذه هي الحقيقة ،
وإذا قلت لك أن لكل متحدث أصلي بالإنجليزية هناك أربعة أو خمسة متحدثين بها غير
أصليين في العالم ، فإن هذا أيضاً ربما أثار التساؤلات في نفسك حول أسباب النمو
الهائل لهذه اللغة حول العالم ، هذا ربما ما أراد أن يوضحه الأمريكي / سكوت
مونتجمري في كتابه المعنون :-
هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية ؟
اللغة الإتجلزية ومستقبل البحث العلمي
بدا لي الكتاب من الوهلة الأولى وكأنه كتاب متخصص
بعض الشئ ، ورأيت أنه قد يكون مفيداً أكثر لأولئك النفر المهتمين بالبحث العلمي ،
وكتابة أبحاثهم ونشرها باللغة الإنجليزية في المجلات والدوريات العلمية العالمية ،
ولكن ما إن بدأت في تصفحه حتى إستبان لي كم كنت متسرعاً في نظرتي الأولية ،
فالكتاب وإن كان يتحدث عن ذلك بالفعل إلا انه كان يحاول الإجابة عن سؤال واحد كبير
( ولِمَ الإنجليزية بالذات ؟ ) .
لعل فقرة صغيرة من الكتاب تحاول أن تضعك كقارئ
على أول الطريق حيث (يلتقي منتج كوري ، في
فندق بأثينا ، حيث المشتري البرازيلي ، لمجموعة أشياء سويسرية ، وهو لن يتفاوض فقط
، بل سيطلب العشاء من خدمة غرفته باللغة الإنجليزية ، وربما لا يكون هناك متحدث
إنجليزي محلي واحد بالفندق ، لكن جميع المقيمين غير المحليين هناك يتواصلون فيما
بينهم بالإنجليزية) .
كان لدي إنطباع (نمطي) أن إنتشار الإنجليزية على
نطاق واسع عبر الكوكب لم يكن إلا نتيجة طبيعية للسياسات التي إنتهجتها بريطانيا في
الدول التي إحتلتها إبان الحقبة الإستعمارية ، وأنه ومع إنتهاء الحرب العالمية
الثانية بإنتصار دول الحلفاء التي تضم إثنين من كبرى الدول ذات الإنجليزية الأصلية
(امريكا وبريطانيا) ، فإن إنتشار هذه اللغة قد بلغ مدىً أوسع بالتأكيد ، وهذا وإن
يكن صحيحاً ، إلا أنه ليس الشئ الصحيح الوحيد الذي بوسعك الإستناد إليه إن أردت
الإجابة عن السؤال سالف الذكر ( ولما الإنجليزية بالذات ؟ ) .
يتحدث الكاتب هنا بأن نحو ملياري شخص في أكثر من
120 دولة حول العالم يتحدثون الإنجليزية بمستوىً مقبول من الطلاقة ، فهذه اللغة
باتت تسيطر يصورة كاملة على التواصل الدولي في ميادين العلوم الطبيعية والطب
ومجالات رحبة في الهندسة ، كما تعتمد التبادلات العلمية المشتركة على اللغة
الإنجليزية ، سواء بين الشركات الأوروبية والأفريقية ، أم بين الشركات الأسيوية ،
كما تُصنف براءات الإختراع على نحو شامل بالإنجليزية .
لقد كان مفاجئا لي أن أعرف من خلال هذا الكتاب
أنه في العام 2009 وحده حصل الطلاب الأجانب وبخاصة القادمين من الهند والصين على
ما لا يقل عن 33 % من إجمالي شهادات الدكتوراه والماجستير في المؤسسات الأمريكية
في تخصصات العلوم المختلفة ، وحصلوا على 57 % من إجمالي هذه الشهادات في مجال
الهندسة ، وها هو أحد طلاب الدكتوراه الصينيين في مجال الفيزياء يقول (إذا أردنا
الحصول على وظيفة باحث هنا ، أو في اوروبا ، أو في أي شركة دولية ، أو حتى على
وظيفة عالية المستوى في الصين ، علينا أن ننشر باللغة الإنجليزية ، حتى أن أفضل
علماء الصين يفضلون ذلك ، فهم يرغبون في مخاطبة جمهور عالمي ، وهذا يعني اللغة
الإنجليزية ) .
إذن فالإنجليزية أضحت لغة عالمية ، بل أنه وداخل
الصين نفسها ، تجد أن عشرات الجامعات ، والمؤسسات العلمية هناك وأخصها أكاديمية
العلوم الصينية تقدم مقررات علمية وهندسية بالإنجليزية للطلبة الأجانب والصينيين
على حد سواء .
يقول الكاتب أن الإنجليزية باتت سريعة الإنتشار
وبشكل منفصل عن تأثير بلد كالولايات المتحدة ، ذلك أن حقولاً معرفية ذات بعد دولي
قد شهدت نموا مطرداً في استعمال الانجليزية ، ليس فقط في مجال السياحة والتجارة
فحسب ، بل في اطار العلوم الاجتماعية والانسانية ، بل أكثر من ذلك فإن التبادلات
(المراسلات) بين مديرى الانتاج في تايلند واندونيسيا مثلا تكون باللغة
الإنجليزية ، كما ان محرري الدوريات في كل من الارجنتين وفرنسا يستخدمون
اللغة الانجليزية ، أي بصرف النظر عن كون الطرف الاخر كان أمريكيا أم لا ، كما
يقول الكاتب انه من اللافت حقاً ووفق للإحصائيات الواردة من بلدان كثيرة حول
العالم ، أن المرشحين لوظائف ويمتلكون مهارات أفضل في اللغة الانجليزية ، يمكنهم
في الأغلب الحصول على رواتب أعلى بنسبة 30 % إلى 50 % من بقية المتقدمين ، وبصرف
النظر أيضاً عما إذا كانت بلدانهم لها علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة أم لا
.
وفي العام 2010 وحده أصبح العمل في (تعليم) اللغة
الانجليزية نفسه (صناعة عالمية) بلغت 50 مليار دولار ، ويقع جزء بسيط منه تحت إمرة
أو إدارة الشركات الأمريكية ، فقد أدت العولمة وشبكة الإنترنت إلى التوسع في
استخدام اللغة الانجليزية على نحو أسرع وأوسع ما بين عامي 1995-2010 ، أي أكثر مما
فعلته الولايات المتحدة ونفوذها الإقتصادي خلال العقود الأربعة الماضية ، ولم يعد
نفوذ اللغة الإنجليزية يتركز في الولايات المتحدة أو بريطانيا ، فمعظم التواصل
بهذه اللغة يحدث بين غير الناطقين بها أصلا ، وهذا ما سيتنامى لاحقا ، فقد أصبحت
الإنجليزية شيئا مختلفا عن كونه (لغة أولى) أو (لغة ثانية) ، إنها الآن وسيلة
عالمية للتواصل التى غدا استعمالها وتقدمها أعظم من النفوذ الأمريكي ذاته ، وأن لا
شئ يمكن أن يوقف إنتشارها المستمر بحسبانها لغة عالمية على الأقل في المستقبل
المنظور .
مع توسع اللغة الإنجليزية تعرضت آلاف اللغات
المحلية للخطر وإنقرضت ، مما دفع بعض العلماء إلى إفتراض علاقة سببية بين الأمرين
بشكل عام ، فقد كان التوسع العالمي للإنجليزية في مجال العلوم جاذباً على نحو لا
يمكن تجنبه لدرجة من المقاومة والقلق ، فعديد من اللغات الوطنية والمحلية لن
تكون قادرة على التواصل مع الإنجليزية في مجال العلوم ، لاسيما مع المفردات
العلمية والتعبير ، وبذلك سوف تموت هذه اللغات واللهجات في هذا المجال الحاسم .
جوزيف ناي |
إن محاولة أخرى لفهم أسباب إنتشار اللغة
الإنجليزية - حسب الكاتب - هي أن نتأمل ما يسمى (بالقوة الناعمة) الذي صاغه جوزيف ناي وهو عالم علاقات دولية ومساعد وزير الدفاع
الأمريكي الأسبق ، والذي يشير إلى أن الدولة يمكنها أن تكسب التأثير ليس بالقوة
فقط ، وإنما بالجاذبية من خلال أمور كالسياسة الفعالة مثلاً ، والمؤسسات الجيدة
والثروة ، والإيدولوجيا ، لكن اللغة هي نوع آخر من عوامل الجاذبية ، نوع يلغي أي
حدود وطنية ، فكثير من الأمم والشعوب الآن ترغب في التقليد والإستفادة من نجاح هذه
اللغة .
*****
هذه شذرات توقفت أمامها
بينما أطالع الكتاب الذي بلغت منتصفه للآن ، والحقيقة أن القدر المتيقن منه في ظني
، أن هذه اللغة تنمو (بفيض) بالغ ، في مجالات عديدة حول العالم ، ويجب أن نكون في
عالمنا العربي جزءاً من هذا الفيض بحال من الأحوال ، وذلك بتعلمها وتعليمها وتنمية
مهاراتها المختلفة على أساس علمي ومنهجي ، دون الإسترخاء الدائم إلى فكرة
(الترجمة) ، وإلا فإن ما يقوله الكاتب سيكون صحيحاً من حيث (أن الدولة التي تقرر
أنها لن تُعلم الإنجليزية لشعبها هي دولة تسعى وراء العزلة المستعصية) .
ولا يعني هذا بطبيعة
الحال أن يكون الإهتمام باللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية ، التي يجب أن
يتوجه لها الجهد الأكبر ربما ، بحسبانها لغة هوية ثقافية ودينية ، لا خلاف على
أهميتها ، لا سيما في ظل التدهور الواضح في آليات التعامل بها (مخاطبة وكتابة) حتى
بين أولئك الذين يُفترض بهم عناية أكثر بها ، كخريجي الجامعات وصنوف المتعلمين
الآخرين ، ناهيك بالطبع عن قطاع من الصحفيين والإعلاميين الذين أرى لغتهم العربية
بائسة في أفضل الأحوال .
في النهاية أجد هذا
الكتاب رائعاً وموثوقاً للغاية ، فهو لم يصدر إلا منذ أقل من شهرين وتحديداً في
أول ديسمبر 2014 الماضي عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) ،
وبالتالي فإنه بوسعك الإعتماد على الإحصائيات والجداول الواردة به ، والتي تعالج
موضوعاً كنت أحسبه جافاً أو متخصصاً في أفضل الأحوال ، فإذا به واحداً من أفضل ما
قرأت خلال الشهور الأخيرة الماضية ، وعليه فإني أنصح بقراءته ، وإن يكن مترجماً .
على هامش الكتاب
اللغات المحكية العشر الأولى في العالم
1- المندرين (الصينية القياسية)
2- الأسبانية
3- الإنجليزية
4- الهندية
5- العربية
6- البرتغالية
7- البنغالية
8- الروسية
9- اليابانية
10- الألمانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق