بقلم : ياسر حجاج
هل كل مثقف ملحد ؟ لا
هل كل ملحد مثقف ؟ ربما
إذا
قرأت كتاباً فأنت قارئ ، وإذا قرأت عشراً فأنت مثقف ، وإذا قرأت مائة فأنت عالم ،
أما إذا قرأت ألفاً غدوت ملحداً (مزحة) ، إذ يُعتقد على نطاق واسع أن الملاحدة هم
أناس مثقفون ، وكأن الثقافة بروافدها العديدة - أو في جزء منها - تؤدي حتماً إلى
الإلحاد أو مخاصمة فكرة الأديان بشكل عام ، أي أن الإلحاد - حسب هذا النظر - هو
نتيجة طبيعية لكون فرد ما قد بات مثقفاً ، وهذا أمر غريب حقاً ، إذ لا يوجد تعريف
واحد أصلاً مُجمع عليه من شأنه أن يضع بين قوسين شرحاً وافياً أو حتى مختصراً
لكلمة (مثقف) أو (ثقافة) .
وبعيداً عن الإشتباك المرح بين المفردات ، وعما إذا
كانت مفردة ما تعبر بذاتها عن المعنى المراد منها أم لا ، فإنني أرى وبحسب القدر
المُتيقن منه أن الملاحدة في معظمهم ليسوا مثقفين فحسب ، بل أنهم ذوي إطلاع واسع ورحب
يصل ربما إلى حد وصفهم بالمفكريين الحقيقيين ، وذلك بصرف النظر عن موقفك من هذه
الأفكار ، أو عن مدى جدارتها لأن تكون محل أخذ ورد فيما بينك وبينهم .
فلما كان هذا الإعتقاد الذي يجمع دوماً بين الثقافة
أو الفكر من جهة ، وبين الإلحاد من جهة أخرى ؟ يبدو لي أن أحد الأسباب الوجيهة هو
أن العديد من أعلام الفكر والأدب والفلسفة منذ القدم وللآن قد إرتبطوا بالإلحاد -
فكراً - بشكل ما ، بل أن كثيراً منهم قد جاهر بذلك ، هذه الصنف من الأعلام لا شك
قد خلف تراثاً رائعاً لا يمكن إنكاره ولا التقليل من شأنه ، وما نشاهده الآن في
حقل من الحقول وينال إستحساننا ودهشتنا أحياناً كان في جزء منه ( صغر أو كبر ) ثمرة
جهد هذا الصنف ومثابرتهم ، ولا شك عندي أيضاً أن الكثيرين منا تحفل مكتبته الخاصة
بكل أو بعض من مؤلفات هؤلاء ، وأننا بشكل أو بآخر قد تربينا على بعض مفاهيمهم وقد
نكون قد تحمسنا أيضاً لبعض نظرياتهم ، مما أدى في النهاية إلى أن (وعاء الوعي)
لدينا قد ناله قدر من عطاءهم كل حسب درجة تقبله لهذا
النوع من العطاء ، منا من إبتل وعائه فحسب ، ومنا من إمتلاً وعائه ، بل منا من فاض
وعائه بالكلية حتى الغرق ، وإن شئت فالإستغراق .
عودة الآن إلى الملاحدة الذين دائماً ما يطرحون الأسئلة
الصعبة ، ويخوضون غمار النقاشات الشائكة بلا كلل أو ملل ، سلاحهم الجدل ، حجتهم القياس
والمنطق ، يستميتون في الدفاع عما يظنونه الحق ، تكاد لا توجد قضية لديهم تنجو من طاولة
البحث ، وإعمال مشرط التشريح في كل أوصالها ، الشواهد العينية والتجارب المعملية
هي عمدة الأمر عندهم ، المبني للمجهول لديهم سفاهة غير مبررة ، وإسناد الأمر
للمعلوم حقيقة مقدرة ، على خصومة ثأرية ودائمة مع فكرة الغيب .
في عصر العلم والإكتشافات ، بدا وكأن الملاحدة قد
كسبوا أرضاً جديدة وإستحوذوا على مساحات إضافية من عقول أولئك النفر المهووسين
بالعقل الإنساني بحسبان أن الإنسان وتجربته وجهده ودأبه هي جميعها تمثل الدليل
المعرفي الأوفي ، والثابت الواقعي لكل مظهر إيجابي أو حضاري تراه العين وتلمسه
الأيدي ، دون الإكتفاء أو الإتكاء على فكرة ما ورائية أو غيبية ، لا تقدم في ظنهم
لا حلاً لمشكلة ، ولا نهوضاً بمستوى أمة من الأمم .
لا يستند الملاحدة إلى خلفياتهم المعرفية وتجاربهم الحياتية فحسب ،
بل أن هناك مجالاً مغناطيسياً جاذباً آخر يزيد من صلابة معتقدهم ، ألا وهو ضآلة
منطق الخصوم وهشاشته أحياناً ، الأمر الذي يترتب عليه بالضرورة إجراء عملية حسابية
منطقية تُفضي في نتيجتها النهائية إلى (خصم من رصيد طرف ، وإضافته إلى رصيد الطرف
الآخر) في معركة قد تبدو غير متكافئة أحياناً ، هذه المعركة مُقدر لها - في ظني -
الإستمرار لإختلاف الأرضية التي يقف عليها وينطلق منها كل فريق ، ولتباين العتاد
الذي يتسلح به كل منهما ، فهذا نوع من (العراك) ليس بممكن أن يثوب طرفاه إلى منطقة
وسط .
رأي خاص :-
ليس كل قضية خاسرة في جانب طرف ما تعني أنه مجانب للحق ، مجافي
للحقيقة ، لكن أحياناً تكون طريقة التعبير عن الحق بمثابة خنجر حاد يغرزه صاحب
الحق في كبد حقيقته ، أو يغدو كمن إنتحر شنقاً مع إلصاق التهمة بالحبل المتدلي من
سقف غرفة ما ، ينطبق هذا على الملاحدة وعلى من يناهضونهم بوجه عام ، إن العلم
الناقص أشد من الجهل المطبق .
وإذا أردتم رأيي ، فإنني أتوافق بالمطلق مع العلم وآلياته في سبيل
جعل الإنسان أكثر سعادة وأوفى صحة ، دون إهمال لجانب التصالح النفسي والروحي اللذان
يمثلان قوة الدفع لأي قيمة أو إنجاز أو عمل نبيل في هذه الحياة .
إن الملاحدة قد يكونون بمقياس فهمنا أناس مفكرون .. لا بأس ، ولكنهم -
للأسف - ليسوا سوى نفر قد خاصم الفطرة الإنسانية في أبسط معانيها التي تُعنى
بالسبب دون إهمال المُسبب ، مع فهم ووعي بالمحسوسات ، دون قطيعة غير مفهومة بالمدلولات
.
(من شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر... - الكهف 29)، فلهذا شأنه ، ولذاك خياره ، شخصياً أتعلم من فريق منطق وجدل
وتراتبية ذهنية ، وألوذ بفريق لضبط زوايا الرؤية ، وتحديد مسارات الطريق ، وإدراك الغاية
النهائية من كل الأمر .
وللجانب الذي يزيد من رصيد الملاحدة أقول .. أن (التفكير مع بعض) خير من (تفجير بعض) ، وأن (التنظير عن بعد) يتساوى مع (التفجير عن بعد) سواء بسواء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق