( متى يتم هذا التحول في ثقافتنا من المقدس إلى الإنساني ، وعلى الرغم من عدم
وجود نقيض للفظ المقدس كما هي الحال في اللغات الأجنبية ، فإنه يمكن إستعمال الدنيوي
، على الرغم من أن المقابل له في العربية هو الديني ، وفي ثقافتنا أصبح كل شئ
مقدساً ، جسد الرسول ، شعره ، بوله ، ولباس الرسول ، نعله ، قفطانه ، وعمامته ،
ومركب الرسول ، بغلته وحماره ، وأواني الرسول ، كوبه وصحفته ، أما فقر العامل
والفلاح وعذاب المواطن في المواصلات ، وسعيه نحو لقمة العيش ، وحاجته إلى التعليم
والعلاج والإسكان ، ونظافة الطرق ، ونقص الخدمات ، فخارج عن نطاق المقدس ، تُـقبل
أيدي المشايخ والأئمة والأولوياء ، ويُعتدى على حياة الفقراء والمساكين ، فأين
المقدس ؟ ) .
بهذه
الكلمات السابقة – بين قوسين - إختتم الأستاذ الدكتور / حسن حنفي أستاذ الفلسفة
الإسلامية والفيلسوف المصري المرموق بحثه القيم حول :-
رؤى العالم المقدس كمحدد
لتابعية الرؤية الدينية للعالم
سلطة المقدس
وكأني قد
وقعت على صندوق يحمل الأجوبة على أسئلة مازلت لديِّ حائرة ومترددة ، ولكن السؤال
الذي إختتم به د. حسن حنفي بحثه ( فأين المقدس ؟ ) ، أوحى ليِ بأن الرجل على سعة
علمه وموفور تجربته ، لم يصل هو الآخر إلى إجابة ، الأمر الذي أغراني بإعادة قراءة
البحث بتؤدة وهدوء متجرداً من أية مواقف مبدئية ، أو عناوين سابقة التجهيز ، لعلي
بذلك أصل إلى أجوبة شافية في ظل التشوهات التي نالت من هذه المفردة الفريدة ..
المقدس .
في حديث
سابق مع بعض الأعزاء على الفيس بوك ، تم مناقشة هذا الأمر ( ما أو من المقدس ؟ ) ،
النقاش وقتها لم يكن مستفيضاً ولا دسماً إلى الحد الذي تستطيع معه أن تتبني وجهة
نظر نهائية ، ولا حتى ان تدعها بالكلية ، ولكن من حادثتهم في هذا الأمر قد إنتهوا –
كل بطريقته - إلى أن المقدس ليس سوى
الإنسان الذي هو الغاية النهائية لأي جهد إنساني أو علمي .
فلندع هذا
الآن ، ولنصطحب د. حسن حنفي في رؤيته عن (المقدس) ، وسأحاول قدر الإمكان أن أكون
موجزاً بلا خلل ، ولا أكون مستطيلاً حد الملل .
***
بعد مقدمة تاريخية فلسفية- يمكن تجاوزها – يقفز د.
حسن حنفي إلى صلب الموضوع ويتساءل ( المقدس .. في الموضوع أم في الذات ؟ ) ، أي هل
المقدس في الشئ المقدس أم في الذات المقدسة ؟ هل هو في الموضوع أم في الذات ؟ هل
له وجود موضوعي أم هو حالة نفسية من حالات الذات ؟ ثم يستطرد أنه إذا كان المقدس
ليس مقولة معرفية بل حالة شعورية ، فإنه يكون في فعل التقديس وليس في موضوع
التقديس ، بمعتى أنه ليس بناءاً في الذهن أو مقولة من مقولاته ، بل هو موقف نفسي
وإجتماعي في العالم ، فيتكون المقدس بفعل التقديس ثم يُشخص في الخارج ، ويتحول من
ذات إلى موضوع ، ومن حالة إلى شئ ، وهو أحد إستعمالات الفعل في القرآن ( ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك ) .
ثم وبناءاً
على ما تقدم يقول د. حسن حنفي أن المقدس إنما ينشأ من الجهل ، وعدم القدرة على فهم
الظواهر الطبيعية ، وللإستعجال في الحكم وعدم الصبر على طول التأني في المعرفة
وتعدد وسائلها ، كما ينشأ من نقص في إدراك الصلة بين العلة والمعلول ، فكما ينشأ
المقدس من الخوف والموقف الإنفعالي من العالم كالخوف من ثعبان أو فيضان أو ريح ،
فينشأ التقديس لإتقاء الضرر وجلب المنفعة .
وفي الوقت
الذي تتم فيه مواجهة الأخطار بدفع المضار وجلب المنافع بالعقل والعلم أي معرفة الأسباب
، ينتهي التقديس ، كما ينشأ المقدس من العجز عن مواجهة الأخطار والرغبة في إتقائها
بأشكال أخرى من الفعل غير المباشر مثل السحر والطقوس والرقص والدعاء والبخور
والأضاحي والقرابين .
وفي الوقت
الذي تتم فيه الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة بالفعل المباشر وإتقاء الخطر وجلب
المنافع يتوقف فعل التقديس ، لأن تحقيق الأماني يكون بالفعل المباشر والتخطيط ،
وتتجلى سلطة المقدس الخارقة في المعجزات وخوارق العادات والقوى الفائقة ، مثل
الملائكة والجن والشياطين .
يُـتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق