بقلم : ياسر حجاج
في الصف الأول الثانوي ، وفي
الإمتحان المقرر لمادة التربية الفنية كان السؤال الوحيد تتصدره الآية الكريمة ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ – فاطر 13 ) ، حيث كان المطلوب رسم تصور لمفهوم
الآية ، بدا الأمر لي في البداية محبطاً بعض الشئ ، فكيف لصبي في السادسة عشر من
عمره الإجابة (رسماً) عن آية لم تكن لتتضح معانيها بشكل واضح له ؟ .
بحس – لا أعرف مصدره – رأيت أن مفردة (يولج)
تعني التداخل بشكل ما ، وما أعانني على هذا الفهمً تكرارها ، مع حرف الجر (في) بشقي الآية ، أي أن شيئاً يتداخل في شئ ، كان
الباقي سهلاً ، أمسكت القلم الرصاص لعمل كروكي اولي تضمن في شق منه قرص الشمس ، وشقه
الآخر كان القمر ، مع مزج معقول بين الإثنين ، تلى ذلك سكب ألوان صفراء وآخرى بلون الشفق ، وأذكر أنني نجحت في هذه المادة بدرجة
متدنية جداً تكاد تفي بمطلوب النجاح ،
غير أنني كنت أتوقع علامة أكبر لما إعتبرته فهماً فنياً للأية ، ولكنني ربما أدرك الآن سر درجتي المتدنية ، إذ قمت في أسفل (اللوحة) بكتابة نص مختصر (شارح للرسم) ، الأمر الذي بدا وكأنه وقاحة غير مبررة يُقدم فيها صبي على إبانة مرامي رسوماته لمدرس مادة التربية الفنية ، لعله كان إستفزازاً وإن كان غير مقصود بالطبع ، مع الوقت أدركت خطأي ، وأيقنت أن الرسم يجب أن يظل رسماً فحسب ‘ فإن أضفت إليه شروح ، فإن ذلك من شأنه أن يُوصد باب التأويل ، ويغلق نافذة هامة للخيال .
Mona Lisa |
ثلاث سنوات لاحقة إنتقلت بعدها للإقامة بالمدينة
الجامعية التابعة لجامعة القاهرة مستهلاً دراسة القانون بكلية الحقوق بها ، حيث
كنت أقيم منفرداً بغرفة رأيت أنه من المناسب لها أن تتزين إحدى حوائطها بلوحة فنية
ما ، وذلك إستجلاباً لحالة من الدفء من شانها – ربما – أن تقلل قدراً ما من برودة
الإغتراب ، ومتاهة التعامل مع غرباء .
لم يكن الأمر بحاجة إلى مجهود إستثنائي ،
على الفور قمت بشراء لوحة الموناليزا ذائعة الصيت للفنان الإيطالي الأشهر ليوناردو
دافنشي ، وأذكر تماماً الآن كم كنت أقف مطولاً أحياناً أمام هذه اللوحة متأملاً
تلك البسمة الغامضة لصاحبتها والتي كادت أن تموت على شفتيها ، ولكم كان يثير في نفسي بعض الخوف أحياناً عندما كنت أتجول
في الغرفة لبعض شئوني ، فتقع عيناي مصادفة على اللوحة فأجد أن صاحبتها ترمقني من كل الزوايا .
كم ساءلت نفسي (ولما هذه اللوحة بالذات ؟) ،
هل لأنها كانت زهيدة الثمن ؟ هل لأني ربما قرأت عن دافينشي وأعجبت به كثيراً أثناء
دراستي للتاريخ في المرحلة الثانوية فيما يُسمى بعصر النهضة الأوروبية ؟ يجوز .. لكن مازالت
هذه اللوحة تُـذكرني بحقبة أثيرة في نفسي ، ولا أدري للآن سر تعلقي بها ، على الرغم من انها - وقت إقتنائها - لم تكن لتشكل أي عامل إغراء لشاب في مقتبل العمر ، اللهم إلا تلك الأحاديث الصامتة التي كنت أجريها معها ، ومن وقتها وأنا مهتم غاية الإهتمام باللوحات الفنية لاسيما تلك التي تتناول معاناة ، أو تثير في نفسي أسئلة .
في تراثنا العربي يقولون (أن
مداد قلم العالِم ، أفضل من دم شهيد) ، بالنظر إلى فضل
العلم الذي به تنهض الأمم ، وترقى حياة الشعوب ، وفي ظني أن لوحة فنية بسيطة تفي عن إقتناء كتاب أحياناً ، وما أود قوله على ضوء السياق المتقدم
ذكره ، أن مناهج التربية والتعليم في بلادنا يجب أن تُعنى أكثر وأكثر بتنمية
جانب التذوق الجمالي ، والإبداع الفني في نفوس الطلاب ، بدءاً من المرحلة الدراسية
الإبتدائية بالتحديد ، حيث تشكيل الوعي أيسر ، وتطويع الملكات أطوع ، وذلك من خلال
مناهج علمية يشرف على وضعها وصياغتها كل من له صلة بالأمر من قريب أو من بعيد ،
كعلماء النفس والتربية ، وأخصائيين مؤهلين للتعامل مع المراحل السنية المبكرة ، ناهيك عن الفنانين والمبدعين .
إن تنمية الجوانب الفنية لا سيما في مجال
الرسم سيكون لها أثر إيجابي هام - ولا ريب - في إثراء حاسة (الذائقة) البصرية
والشعورية لأبناءنا ، فينشأ أحدهم وقد أدرك أن الرسم ليس خلطاً للألوان ، بقدر ما
هو مزج للمشاعر ، والأحاسيس الإنسانية ، وأن الرسم في حد ذاته هو وسيلة تعبير راقية جداً
، إلى حد إعتبارها نصاً مرسوماً ، يصمت وينطق ، بل ويصرخ أحياناً ، إن الشخصية
السوية هي تلك التي تملك وسائل تعبير راقية وغير صادمة بأي وجه من الوجوه ، وأن الرسم بالتأكيد في القلب من هذه الوسائل ، فهو الشعر المُصور ، والقادر وحده على تجاوز حدود الكلمات ، بل وعابراً لكل تعبير مهما بدا رقيقاً أو بليغاً ، فلا شئ أجمل من أن ترى لوحة تشي لك بما كان ، وما هو كائن ، وما قد عساه يكون ، فترى هنا دمعة نازفة أكثر بياناً من مرثية ذات مائة بيت من الشعر ، وهناك نظرة لامعة تُغنيك ربما حتى عن مطالعة عين الشمس .
إن مطالعة عابرة لما تشهده بلادنا ، بل والعالم من إنتشار واسع لظاهرة الإرهاب بصوره العديدة تأتي إحدى أهم مسبباتها أن نفراً من الناس قد خاصم - بلا مبرر - مواطن الجمال الشعوري المتأصل في كل نفس بشرية ، وأن لا شئ في الكون تقريباً قد داعب خياله ولو قليلاً ، فغدا - من بعد هذا الخصام معتصماً بكل وسيلة خشنة أو جافة للتعبير عن معتقد أو فكرة ، ويبدو لي أن لا أحداً من هؤلاء النفر قد توقف يوماً أمام لوحة ، سوى ربما لوحة عذابات القبور ، وحسب تقديري المتواضع أن كل نزوع إلى الشر ، قد قابله بوجه من الوجوه تآكل مَلَكَة شعورية جميلة ، أو جفاف لحاسة فطرية رائعة ، فليكن نزوع أحدنا إلى شئ من ذلك مؤشراً ضابطاً على أنه قد (أو كاد) يتنكب الطريق أو على وشك الغرق في مجهول ، فلننهض من جديد ، ولنرسم عصر نهضة من جديد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق