إذا سالتني عن خلاصة ما تعلمته من القانون
(دراسة وممارسة) على مدار أكثر من 30 سنة لقلت لك أنه ليس سوى قاعدة واحدة فحسب ،
قاعدة فقهية بالأساس أخذت أشكال قانونية لاحقاً وهي أن ( العبرة بالمقاصد والمعاني .. لا بالألفاظ والمباني )
.
أي أنه في إطار الحكم أو التناول فيما يخص (الأشخاص ، الأفكار ، الأشياء )
فلا تهتم إلا بالمعني المراد ، والقصد النهائي ، ولا يكن كل شغلك العناية بالشكل
الذي إتخذه أو الزي الذي تزيا به ، قلا تغرق في التفاصيل المحيطة ، بل إحرص على
الولوج إلى النقطة المركزية في الدائرة ، دون إلتفاف – غير مبرر – حول محيطها ،
ذلك أن الإسراف الممل في التفاصيل قد يُصرفك عن معالجة صلب القضية ، وينسيك بالتالي
جوهر الموضوع ، فتظل مراوحاً لفكرة وتظن أنك قد عالجتها ، والحقيقة أنك حتى لم
تقترب منها .
حسناً .. نشرت مقالات أربعة عن فكرة المقدس للمفكر العلامة د.
حسن حنفي عن (ماهية المقدس) ، وحرصت أن لا أقترب من تعديل الصياغة أو سياق الفكرة
التي تناولها صاحبنا إلا بالقدر الذي رأيته لازماً لإظهار الفكرة أو بيان المعنى ،
ذلك أن هذا الصنف من المفكرين يكتبون بطريقة مغايرة لتلك التي تعودها ربما الكثيرون
منا ، فصنف المفكرين والفلاسفة - أمثاله - غالباً ما يلجأون (للترميز)
و(الإيحاء) و(الإسقاط) ، مع تحريض خفي للمتلقين على إجالة الخاطر فيما يكتب هؤلاء ، وغالباً أيضاً ما يُحجم
أيضاً المفكرون وصنوف الفلاسفة عن وضع إجابات حاسمة ، أو حتى تصورات شبه نهائية لأسئلتهم
وقضاياهم المحيرة ، وإلا ماعُـدوا فلاسفة ، فالفلسفة في تقديري هي (فن إثارة الدهشة) ، ولكن هذه
قضية أخرى
*****
الآن عودة
إلى المقدس !
لعلنا نتفق على أن القيم الإنسانية النبيلة
بكافة أشكالها قد سبقت ظهور الأديان ، فقد توافق الناس على مجموعة نظم ومبادئ – تم
تطويرها عبر السنين - رأوها كفيلة بتنظيم حياتهم ، ورعاية شئونهم ، وقد صمدت هذه
النظم وتلك المبادئ بالقدر التي ظلت فيه متناغمة مع الفطرة البشرية في صورتها
الأولى والمتمثلة في معنىً واحداً – في تقديري – ألا وهو الجمال ، نعم .. الجمال الذي
يتفرع عنه كل مؤنس للنفس ، كل متحد مع القلب ، كل ما لا يجرح العين ، ولا يخدش
المشاعر .
فمن أين
أتى الجمال إذن ؟
الجمال خلقة وصنعة أبدعها الكبير المتعال ،
ولكنه أيضاً - وفي جزء منه - تدريب ومراس ومران ، نتعلمه ، نمارسه ، ونعايشه ،
وبقدر إتساقك مع نفسك ، ومع ( من أو ما ) حولك تستطيع الحكم بسهولة على القدر الذي
حصلته في مضمار الجمال ، فأنت جميل بالعين التي تنظر بها ، وبالوعي الذي بداخلك ،
وبالضمير الذي يحركك ، وبالوازع الإنساني أو الخُلقي الذي هو مناط كل جمال .
هل
الإنسان مقدس ؟
الإنسان هو الغاية النهائية لأي جهد يُبذل في
شأن من الشئون ليظل قادراً على الوفاء بالتكليف المناط به ، لكن هذا لا ينبغي أن
يُحمل على مظنة أنه مقدس بصورة من الصور ، فالإنسان يجوع ويعطش ، يهدأ ويغضب ، يتذكر
وينسى ، يصح ويسقم ، وغيره كثير ، والإنسان بهذه المثابة ، لا يمكن أن يكون مقدساً
، المقدس كما أراه ليس سوى الله المنزه عن كل عيب ، والمتسامي عن كل نقيصة .
حوار أجريته مع نفسي وأنا أفكر في هذا
الموضوع الذي شغلني لبعض الوقت ، ولكني فرغت تماماً من تكوين قناعتي النهائية حوله
، فلننظر إلى ما حدثتني به نفسي ، وما حدثتها به :-
·
سألتُ عن المقدس ، قالوا لي الإنسان .
·
بما نال هذه المنزلة ؟ قالوا بسعيه نحو الكمال .
·
فإن لم يبلغ السعي تمامه ؟ قالوا يكفيه السعي لا التمام
.
·
فإن أتمه ؟ قالوا لم يبلغ ذلك إنسان .
·
وما الكمال ؟ قالوا نقيض النقصان .
·
فما النقصان ؟ قالوا علل وأسقام .
·
قلت فكيف يغدو مقدساً من حاله السقم والإعتلال ؟
*****
أي أن الإنسان يجب
أن لا يتألى على الله ، ويكفيه سعي حثيث ، وعمل دؤوب نحو الكمال ، الذي أراه ليس
سوى الجمال ، وعليه فإن الإنسان ليس مقدساً ، ولن يكون ، بل الإنسان مكرماً فحسب ،
أو كما قال الله تعالى ( ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من
الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا - الإسراء 70) ، نعم مُكرم من كريم ،
وأي فضل بعد هذا يرنو إليه المرءُ وهو يرى من خلقه يقول له أنت مكرم ؟ افيتأبى
الإنسان بعد ذلك على مقام المقدس ، وينازعه ما ليس له ، ثم بأي دليل ؟ .
عودة إلى
المقالات الأربعة .
المقالات الأربعة التي تفضل بها د. حسن حنفي
حوت الكثير من الإشارات الموضوعية الهامة لعل أهمها – في ظني - وجوب عدم الإستغراق
الكلي في (الشكل) دون (المضمون) لدى الحديث عن المقدس ، فذلك آفة كل فكر ، بل العكس
هو ما ينبغي ان يكون - وكما قلت في مقدمة المقالة – من وجوب العناية بالمقصد
والمعنى دون اللفظ والمبنى ، وهذه الحقيقة التي ينبهنا إليها صاحبنا هي الوصفة
الشافية والناجعة لكل ألم يلمُ بامة ، ولكل سقم يعتري مذهب أو طائفة ، ولو حاول كل
واحد منا – بإجنهاده الفردي- أن يجعل من هذه القاعدة منهجاً أو أسلوباً لحياته ،
لتغير مساره ، وإعتدلت بوصلته صوب درب الجمال الذي هو صفة من صفات المُقدس سبحانه
.
ولكي أكون متسقاً مع نفسي فإن سائر المقالات
وما حوته من جدل عقلي لطيف ، ورياضة ذهنية لا بأس بها ، يصح تماماً أن تكون دروساً
أكاديمية رصينة لطلبة الدراسات العليا بأقسام الفلسفة ، ولأولئك المغرمون بـ (الديالكتيك)
من كل صنف ونوع ، ذلك أنني لا أستطيع أن أتقبل فكرة أن يُقطع ذلك الخيط الممدود من
السماء إلى الأرض ، وإنجاز قطيعة تاريخية مع الماضي بزعم أن هذا غرق في (الرمز)
دون (المرموز) .
دائما ما تكون هناك مناطق وسطى في الأشياء ،
ويجب ألا يكون الخيار دائما في هكذا أمور إما النقطة (أ) أو النقطة (ب) ، إما
(معنا) أو (ضدنا) ، لا .. التوسط في كل شئ أمر حسن ولا ريب ، وكوني أو كون بعضنا
ينظر بمزيد من الإجلال والتقدير لفكرة المُقدس ولكونها منحصرة في ذات الله فحسب دون
غيره ، لا يعني أن اهمل أو نهمل كل ما يقربنا إلى هذه الفكرة أكثر وأكثر ، وذلك
بالعناية التامة بكل القيم الإنسانية النبيلة ، والفضائل ، ومكارم الخلاق وسائر
العناوين الفرعية التي تأتي تبعاً لها ، وتنفيذاً لمفتضاها .
شخصياً .. لا أرى غضاضة أبداً
في أكون مؤمناً حسن الإيمان ، ولكني مُكب على عملي ومجتهد فيه ، أصون الآخر أياً
كان (إسمه أو رسمه) ، أحترم خياراته مهما بدت غير متسقة مع الخط العام لأفكاري ،
أهتم بحقه وحريته في إبداء رأيه وممارسة معتقده ، بالشكل الذي لا يكون صادماً
للقيم الإنسانية التي تصالح عليها الناس في عمومهم على مدار حقب التاريخ ، وهذا
الرأي الذي أقول به ليس سوى إجتهاد قد يغلب عليه الصواب ، وقد ينال من صوابه الخطأ
، وهذا حال الإنسان منذ كان ، سعي نحو الجمال ، فإن تنكب الطريق فذاك ليس بقبح ،
وإنما ربما جمال أقل .
كن جميلاً .. كوني جميلة ،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق