2007/05/06

عندما يكون الهروب جميلاً



كنت أقرأ بكثير من التأمل قول الشاعر الراحل جبران خليل جبران في كتابه رمل وزبد { يقولون أن عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة ولكني أقول أن عصفور واحد على الشجرة لهو خير من عشرة في اليد } كم جميلة هذه العبارة التي تعاود ترسيخ إحترام رغبات الكائنات في أن تعيش ضمن فضاءها الرحب ومحيطها الطبيعي ، فقد كنت دوماً أرى أن حبس أو أسر هذه الطيور وغيرها من الكائنات الأخرى - في أقفاص أنيقة وأحواض جميلة لمستلزمات الزينة - قسوة غير مبررة ، ودليل إفلاس ذهني وعاطفي للشخص الذي يقدم على إرتكاب هذا الفعل على عكس ما قد يتوقعه البعض من كون هذا الشخص ذو إحساس مرهف أو ذو حس جمالي مميز.

وحدث أن تقبلت على مضض هدية لإبنتي الكبرى من جارتنا لعصفورين ملونين ، حيث كانت إبنتي الكبرى إبنة السابعة آنذاك محبة لهذين الطيرين حيث دأبت على مداعبتهما والحديث ربما إليهما كلما زارت منزل جارتنا التي رأت أن تهديها هذين العصفورين مع قفصهما الأنيق لتكون على مقربة منهما ، ودأبت إبنتي على العناية بهما وتدبير وإعداد حبوب طعامهما وشرابهما وتنظيف قفصهما ، وكانت لا تحب أن يشاركها أحد منا شرف هذا الأمر ، والحقيقة أن الضيفين الجديدين شعا على المكان بهجة وجمالاً بأصواتهما الرائعة لاسيما في فترة الصباح بينما يتأهب كل منا للمضي في طريقه فهذا إلى مقر عمله وهؤلاء إلى مدارسهم ، فكان الجميع يغادر المنزل وأصوات الزقزقة اللطيفة تودعه وتضرب بلطف بالغ موضع أذانه وتشرح مكنون صدره ، إلا أنني كثيراً ما كنت أتحدث مع أهل بيتي بأن هذين العصفورين ليس هاهنا مكانهما ولكنه الفضاء الرحب حيث الحرية ، فلا أقسى على النفس من رؤية كائناً ما حبيس قفصاً ولو كان جميلاً أنيقاً ، إلا أننا لم نفصح عن رأينا هذا لإبنتنا لعلمنا بردة الفعل المتوقعة منها ، لذا أجلنا الأمر إلى حين مجيء فرصة مواتية ، وبقي هذين الضيفين الخفيفين عندنا ، وأذكر أنني كنت أراقب بشيء من الشفقة حالهما ، وكنت دائم التبسم عندما يسود الود والدفء بينهما وأرقب تلامس وتلاصق منقارهما في مشهد غرامي يعجز عن تصويره ُكتاب القصص الرومانسية ، كم كنت شاهداً كذلك على فترات الجفوة التي تعتيرهما أحيانا وهو الأمر الذي تطلب من أحدهما بذل مجهود مضاعف ليلفت نظر رفيقه عن طريق قيامه بألعاب أكروباتية وتحرشات لطيفة لعل الصفاء يعرف إلى قلبه طريقاً وكنت متحيراً من هذا المسلك إلى أن أفادتنا جارتنا صاحبة الهدية أن العصفورين في الحقيقة كانا ذكر وأنثى .

إذن فالمشاعر واحدة بين الجنسين أناساً وأنعاماً وطيوراً ، ولما حان موعد سفرنا إلى مصر لقضاء إجازتنا السنوية كان لزاماً علينا أن ندبر لهذين العصفورين مأواً جديداً لحين عودتنا حيث رفضت إبنتي بشدة فكرة أن نطلق صراحهما ، وبعد مداولات إستقر الرأي على ُنودعهما جارة أخرى لنا لحين عودتنا ، وبالفعل رحبت الجارة بالفكرة وقبلت إستضافتهما حيث كانت في زيارة بالمصادفة لنا وعرضت توصيل جارتنا والعصفورين إلى منزلها ... في البداية قمت بوضع العصفورين مع قفصهما في مؤخرة السيارة ، وبمجرد وصولنا قرب منزل جارتنا همت هي برفع صندوق العصفورين وإذا بي أكتشف أن أرضية الصندوق لم تكن مثبتة أو محكمة بالقدر الكافي بهيكل القفص وإذ بها وبمجرد قيامها برفع القفص هوت أرضيته إلى أسفل حقيبة السيارة الخلفية وأصبحت ممسكة بقفص خال من العصفورين اللذين أصبحا طليقين في المؤخرة ، حتى إذ لاح لهما الهواء الطلق والأضواء المحيطة بالمكان إنطلقا فارين محلقين ... ووسط صراخ جارتنا وهي تستحثني أن أفعل شيء من أجل إلتقاط العصفورين اللذين هما بالطيران بالفعل وجدتني صامتا فارغاً فاهي لا أحرك ساكناً وعلت إبتسامة من الرضا محياي وأيقنت أن هذه ترتيبات قدرية منحت هذين العصفورين حريتهما لأول مرة دون منة من سجانهما ، ولا أكاد أنسى هيئة العصفورين وهما يشقان الطريق إلى درب الحرية الذي إفتقداه طويلاً ، فكانا في البداية ومن طول ما مكثا في القفص لم يحسنا في البداية الطيران بشكل معتاد ، إذ كانا يتعثران علواً وإنخفضاً وكأن أجنحتهما قد تيبست من ندرة إستعمالهما ، وشعرت بسعادة ورضاء داخلي للنتيجة التي آلت إليها الأمور في الوقت الذي علا الوجوم وجه جارتنا إذ أعتبرت نفسها مسئولة عن ضياع العصفورين الحبيبين لإبنتي ... هدأت من روعها وقلت لها أننا لا يمكن أن نحصل على نتيجة أفضل من ذلك .

ولكن كان علي تبرير هذا الموقف لإبنتي وظللت طوال طريق العودة إلى المنزل أفكر في كم المبررات التي سأسوقها لها لكي تتفهم هذا الموقف ودواعيه ، وما أن دلفت باب منزلي فإذا بدموعها تنهمر بشدة ويزداد نحيبها وإستغربت في البداية عن سبب ذلك ، حتى أيقنت أن جارتنا تطوعت مشكورة بالإتصال هاتفياً بمنزلي وساقت لزوجتي ولإبنتي الخبر بينما كنت لم أزل في طريق العودة للمنزل ، وكان هم إبنتي وبعد أن أدركت أن عصفوريها الحبيبين قد ولا دونما رجعة أن أشرح لها مرة بعد مرة كيف طارا ؟ وكيف سمحت لهذا الأمر أن يحدث ؟ ولكن ما كان يدميني حقاً سؤالها المتكرر الممزوج بالدمع كيف كانت هيئتهما وهما يطيران ؟ أجبتها : لا تحزني يا ليلى فلقد كان هروبهما جميلاً

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة