2010/10/24

تحضر يا .. محترم


الحضارات المرموقة ترى النور بفضل الهمم العالية لأبنائها ، والأمم الكبيرة تولد من رحم الأحداث الكبيرة ، والمجتمعات الناهضة تشب عن الطوق بنفضها غبار التاريخ والبحث عن كوة ترى من خلالها قرص الشمس ، والفرد أو الإنسان هو محور هذه الحياة ، بصلاح طويته وصلابته ينهض المجتمع فتولد الأمم فتتشكل الحضارات .

فلا تتشكل الحضارات هكذا بإنفجار كوني هائل ولا بتغير مناخي حاد ، فهذا وذاك لا يصنعان حضارة ، بل جغرافيا ، وإنما ما يصنع الحضارات حقاً هو الإنسان الذي له المقدرة على إلقاء حجر صغير في نهر فيخلق حالة جديدة من التموج وإن كانت بسيطة فتتغير على أثرها صفحة النهر.

فالحضارات في النهاية ما هي مجموعة من القيم التي إستقر عليها وجدان الناس ذلك لأنهم وجدوا فيها ما يكفي لإعلاء شأنهم روحياً ومادياً والإقرار بحقهم في العيش بكرامة والتعبير بحرية ، فضلاً عن الإعتزاز المعقول والإيجابي بتراثهم وإيمانهم في الوقت ذاته بدواعي التقدم ، مع الأخذ بأسبابه المعينة على ترسيخ هذه القيم أكثر فأكثر ، وبقدر إقتراب مجتمعاً ما من ملامسة هذه القيم فإنه ُيصنف عادة على أنه مجتمع حضاري دون نظر كبير إلى بلوغه المراتب العليا في شأن الأخذ بأسباب المدنية الحديثة .

فكونك لا تقطن أحد الأبراج السكنية العالية ذات المواصفات التقنية المتقدمة أو ما ُيسمى بالمباني الذكية ، أو كنت لا تملك حاسوباً خاصاً ، ولا تستخدم أحدث الهواتف المحمولة ، حتى وإن كانت لا تروق لك فكرة أن يكون لك بريداً إلكترونياً ، بل ولا تجد متعة في إستخدام الإنترنت ، فلا يعني أي من ذلك أنك بت إنسان غير متحضر ، إنما تحضرك يكمن حقاً في ما تملكه من قيم وأعراف وسلوكيات تحكم تصرفاتك ومسالكك بالحكمة الواجبة مع نفسك ومع من حولك ، وكونك قد بلغت في الأخذ بأسباب المدنية الحديثة شأواً بعيداً ، ونهلت من روافدها الشيء الكثير فلا يعني هذا بطريق الحتم واللزوم أنك أصبحت في عداد المتحضرين ، بل العكس تماماً قد يكون هو الصحيح ، فإستغراقك اللا واعي في الأخذ بهذه الأسباب دون وجود حكمة ظاهرة ، أو ضرورة ملحة يعد في الواقع أحد العناوين الناصعة على سطحيتك .

وحسب رأيي فإنه يوجد في الواقع لبس أو خلط بين مصطلحين ، أحدهما ُيطلق وربما ُقصد به الآخر ، وتجد ذلك جلياً عند الإشارة إلى كلمتي الحضارة والتاريخ ، فيقال مثلاً أن شعب ما ذي حضارة عميقة ، والقصد أنه صاحب تاريخ قديم أو متجذر أو موغل في القدم ، فكل ما كان قبل الآن فهو تاريخ ، أما الحضارة فهي لحظتك الأنية وهي حاضرك ، فأنت حاضر بها ومعها ولها ، وكلما تعاملت مع هذه اللحظة بقيمة عالية وهمة نشطة فلا مراء عندي في تحضرك ، فلا تنساب اللحظات من بين يديك عزيزي القارىء فتغدو وإياها تاريخاً مهملاً وفي أحسن الأحوال كتاباً ملقى على رف بمكتبة عتيقة ، فتحضرك الحقيقي داخلك ، وجمالك الحقيقي داخلك ، فدع عنك العلل والأسقام ، وحاول إستكشاف منابع الدفء وروافد الروعة التي تسكنك ربما من حيث لا تدري .

2010/10/18

وحيد بالمنزل


في وقت الوحدة تبرز التفاصيل الصغيرة ، وتشي الأركان وحتى الشقوق بكل الأسرار والخبايا ، ويعبق المكان بأبخرة الماضي القريب ، تعود المسلمات القديمة إلى طاولة البحث للتدقيق والقراءة من جديد ، وعلى أثر ذاك التداعي تتهادى الذكريات كأمواج متتالية لا يكاد يتوقف هديرها فتصيب العقل والنفس بإنفصام جزئي عن الواقع ، فتحمل أحدنا مرغماً على العودة إلى الوراء للحظات آخذة بيده لإعادة تفقد الأمكنة وإستراق السمع وإعادة رؤية المشاهد من جديد ، والمدهش أن المشاهد التي تتبدي في ناظرينا هي عين ما كان ، لا تفاصيل زائدة ولا ملفقة ، حفظتها الذاكرة كأي شريط سينمائي عتيق يعيد إستذكار والتذكير بما كان ، ومع هدوء المكان بفعل الوحدة تتسع دائرة الفراغ وتنمو بإمتياز وروعة كل أغرسة الحواس ، وكأن لها دوراً إضافياً أو إستثنائياً لا يظهر إلا في وقت الرهبة والسكون ، فالسمع بات أكثر إرهافاً ووعياً ، كما تنشط هي الأخرى العينان فتراها تدور حول الأمكنة وتتفقد الأشياء بهمة ونشاط ، فتفطن ربما للمرة الأولى إلى تداخل ورمزية ألوان السجاد وتقاسيم ومغزى الأشكال ، وتدقق في الرسومات السريالية للأطفال على كل جدران البيت فترى فيها فناً ومزجاً فريداً لا مجرد عبث وإتساخ ، في زمن الوحدة يغدو مخدعي كأي جزيرة منعزلة لم تطئها من قبل قدم إنسان ، فتموت على ضفافها كل الكلمات ، وتستحيل بدلاً عنها همهمات وتنهدات .
-

بالمنزل بت وحيداً أتسول صوت يأتيني ولو من بعيد ، فيستحيل الصوت صدىً يتردد في أرجاء المكان ، وترتسم في ناظريً على أثر ذلك صور ذات جاذبية لأشباح لطيفة شفافة تمنيت لو شاركتني وحدتي ولكنها لم تفعل حتى الآن ، رجوت قرين نفسي أن يحدثني وإستفززت فيه كل مشاعر غضبي وإحباطي لعله يستجيب ويبدد سكون المكان ويبعث من جديد موات الأشياء والجمادات المحيطة بي فإبتدرني بالصياح :-
- نعم يا قريني .. أما زالت مبتئس .
- وما لي ألا أكون ؟
- لطالما أحببت الوحدة وتغزلت في السكون والركون .. فما حل بك ؟
- لا أدري .. كأن بيً مس يحرضني على الإلتصاق وإعادة الإندماج .
- هيهات .. هيهات ، أبعد هذا العمر تريد إعادة النظر والقفز على حواجز تفننت في بناءها وتعلية أسوارها وإحكام إغلاق أبوابها ؟
- أكان ذلك كله عبثـاً إذن .. أتقصد ذلك ؟
- قد لا يكون عبثاً .. ولكن العبث كل العبث أن تلعب بك رياح الوهم فتصور لك أبنيتك وأسوارك وكأنها مدينة خربة مليئة بالأطلال مسكونة بالأشباح .
- إذن فإنك ترى أن أركن إلى ما أنا فيه فيهلهلني الفراغ والصمت .
- أفضل لك ألف مرة أن تموت في قبر بنيته بيدك من أن تموت في قصر إصطنعه غيرك .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة