2015/11/15

عذراً .. باريس !


بقلم : ياسر حجاج
في الأزمنة المرتبكة كزماننا ، والعوالم الخطرة كعالمنا ، تغدو الجغرافيا المحيطة ترفاً ، وعلم الإجتماع يُصبح مكملاً ثقافياً يمكن أن ينتظر قليلاً أو كثيراً ، فالكون بخريطته البائسة ، وخبيئته المريبة ، لن يكون بوسعه أن يقدم لك تبريراً مقنعاً ، لاسيما إذا ما تداخلت لديك خطوط الطول والعرض ، بفعل الكوميديا السوداء ، التي هي على مرمى حجر منك ، أينما وليت وجهك عاينت طرفاً لها ، حتى وإن لم تكن جزءاً منها ، فالشرر وإن كان يصيب اللاعبين بالنار حتماً ، فإنه ينال بشكل أو بآخر أيضاً من أولئك الأبرياء الذين ما أشعلوا في حياتهم عود ثقاب .

صليل الصوارم ، يُعزف بتوزيع جديد هذه المرة  ، يصك آذان السامعين الآمنيين بفرنسا ، ويُحيل الليل الباريسي الناعم ، إلى مواكب يختلط فيها صوت الموت مع نداء الإستغاثة ، وصوت الموسيقى مع صراخ عربات الإسعاف التي تريد أن يُفسح لها الطريق ، الرؤوس التي تعودت أن تميل طرباً ، مالت ميلتها الأخيرة ، بعد ان زرعت البداوة نبتتها الجافة في عاصمة كل ذنبها ، أنها فرحة ومرحة .
لعل أحد أهم وأخطر التعليقات من الداخل الفرنسي بعد هذا العمل الإرهابي الذي ضرب العاصمة باريس يوم الجمعة الماضية ، ما قيل أنه على فرنسا ، عدم الركون - من الآن - لفكرة كونها عاصمة النور ، أو البقاء على حالة الإسترخاء الليبرالي بوضعيته الراهنة ، الأمر الذي يعني أن تتحلل هذه المدينة التاريخية العظيمة ، ولو إلى حين ، من بعض بهاءها لحساب إجراءات إستثنائية فرضتها أجندة من هم على خصام دائم مع الحضارة .


رينه سولي برودوم
يُعتقد على نطاق واسع أن الشعب الفرنسي هو أكثر شعوب الأرض ثقافة ، وبعيداً عن كون الفرنسيين هم أكثر من حصدوا جائزة نوبل للآداب بواقع (15 مرة) حتى الآن ،وأن أحد أبناءها (رينه سولي برودوم) ، هو أول من فاز بها على مستوى العالم ، وكان ذلك في العام 1901 في النسخة الأولى من هذه الجائزة المرموقة ، فإن الفرنسيين أناس مثقفون حقيقيون ، الأمر الذي أظنه محل حسد أقرانهم الأوربيين ، فالتاريخ الفرنسي شاهد بشكل لا يقبل الجدل ، على أن التأثير الذي تركه الفرنسيون في مجالات الأدب والفلسفة والفنون ، بل والقانون  وغيرها من العلوم الإنسانية ، أكثر مما خلفه غيرهم في قطر من الأقطار ، كان هذا فيما سبق ، وهو كذلك الآن ، غريب بالنسبة لي أن يحدث ما حدث في فرنسا .

أعادتني الأحداث المريرة إلى الوراء ، وتحديداً لحقبة الدراسة الثانوية ، حيث بدا لي أحد معلمي اللغة الفرنسية ، كأنه نبيل حقيقي ، أو أرستقراطي تحدر من تلك الطبقة المخملية ، التي كانت تحكم في حقبة ما قبل الثورة الفرنسية ، وأذكر كم كنت أنظر إليه بعين مليئة بالإكبار والإعجاب ، ذلك أنه لم يكن معلماً تقليدياً للغة أجنبية فحسب ، بل حسبته غارقاً أو مستغرقاً في الفرنسية كأنها لغته الأم ، فمن خلف نظارته الطبية ، ووسامته التي كانت بادية للعيان ، تجاوز الرجل كل الحدود التقليدية لمنهج دراسي عقيم ، فقد كان يطوف بنا كل أرجاء فرنسا ، من خلال شوارعها الضيقة ، وعاين معنا الشرفات التي كانت تطل على الثوار وهم يتجهون لإقتحام سجن الباستيل ، كيف لي أن أنسى وهو ينصب خيمته على مقربة من خيام كل أولئك النفر الذين جعلوا من باريس عاصمة حقيقية للنور ، فيعطينا طرفاً من متعة جار هنا ، وطرفاً من إثارة جار هناك ، أشار مدرسنا بيده ذات مرة لذاك النابغة  ، الذي صك مقولته الخالدة ( أني أختلف معك في رأيك ، ولكنني مستعد أن أموت دفاعاً ، من أجل حريتك في التعبير عنه ) ، كان هذا فولتير .

لويس الرابع عشر
في كلية الحقوق ، كانت إحدى المواد المحببة لديًّ هي مادة (النظم السياسية والقانون الدستوري) ، حيث يًعنى هذا العلم بعرض لنظم ونظريات الحكم قديماً وحديثاً ، مع عرض الإتجاهات المختلفة الخاصة بوضع الدساتير التي هي الرباط الحاكم ، أو الناظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وأذكر هنا أن تصدر أحد الفصول ، عبارة مقتبسة ومنسوبة للملك الفرنسي لويس الرابع عشر ، المعروف بالملك الشمس ، والتي يقول فيها (أنا الدولة ، والدولة أنا) ، وحيث أنني لديِّ بعض الميول الديكتاتورية لسبب غير معلوم لي للآن ، فقد إهتممت بهذه المقولة أيما إهتمام ، غير أن تتبعي لقائلها ، أتاح لي إكتشاف زوايا جديدة له ، ففي رسالته مثلاً لأحد أحفاده الذي كان يستعد للمغادرة ليصبح ملكاً على أسبانيا ، قال له لويس الرابع عشر :-

( لا تقرب أبداً أولئك الذين يزيدون في تملقك ، ولكن تمسك عوضاً عن ذلك بهؤلاء الذين يغامرون بإزعاجك من أجل مصلحتك ، ولا تهمل عملك أبداً لمصلحة متعتك ، نظم حياتك حتى يصبح فيها وقت للإسترخاء والتسلية ، أعط أمور الحكم كل إنتباهك ، ثقف نفسك قدر المستطاع قبل إتخاذ أي قرار ، إعمل كل ما في وسعك لتتعرف على الرجال المتميزين ، بحيث تتمكن من الإستعانة بهم متى إحتجت إليهم ، كن مهذباً مع الجميع ، لا تُسئ لأي إنسان ) .


في الختام .. وبعيداً عن الفتنة الباريسية ، وكل ألق مستحضرات التجميل ذائعة الصيت ، والعطور الفاخرة ، وعروض الأزياء ، بعيداً عن قوس النصر والشانزليزيه ، بعيداً حتى عن قصر فرساي ، بعيداً عن كل الأيقونات المضيئة ، فأنا كغيري مدينٌ شخصياً لهذه المدينة بالكثير ، مدين لها بكل ما قرأته لثلة من أبناءها البررة ، الذين ساهموا عبر السنين ، ولا يزالون في تشكيل الوعي والوجدان الإنساني في كل حقل ومضمار ، مدين لأقلام أدبائها العظام وفلاسفتها النوابغ ، الذين علمونا ولا يزالون كيف يعمل العقل ، وكيف يكون الجدل ، ما هو التسامح ، والعدل ، والإخاء ، والمساواة ، لذا فأني أعتذر لهذه المدينة التي أهان جمالها أجلاف من البادية ، كل زادهم تراثٌ يفوحُ من رائحته البارود .

2015/11/11

مؤرخون .. لكن ظرفاء !



بقلم : ياسر حجاج
التاريخ .. ما التاريخ !! سفر يُعنى غاية العناية بأن يقول لك ، ماذا حدث ، ومتى حدث ، وكيف حدث ، ولماذا حدث . ليس الأمر دائماً على هذه الشاكلة السلسة ، فأحياناً كثيرة ، لا حدث قد وقع إبتداءاً ، ومع ذلك فإن شرذمة من المؤرخين الظرفاء ، يُصرون على أن يصفوا لك (أن هذا الذي لم يحدث) متى حدث ، وكيف حدث ، ولماذا حدث ! ومطلوب منك كقارئ ، أن تصدق هذا الذي حدث ، وذاك الذي لم يحدث أيضاً ! .

ورغم ذلك ، ولأنني إمرؤ لا يكاد يتعلم من أخطائه ، فإن كتب التاريخ مازالت تحتل المرتبة الأولى في قائمة مشترياتي ، لا أدري لماذا تحديداً ، لعل أحد المبررات هو حبي اللافت للحكايا وسمر الليالي ، والتلذذ بتلك الأنخاب الدائرة على شرف كل من قد سلف أو تلف ، والتفكه بتتبع خبر كل من قُبر أو غبر .

 والتاريخ من قبل ومن بعد لا يخيب رجاء المحبين ، فأيا ما كان الهوى الذي ترنو ، أو الفن الذي ترجوا ، ستجد أن هناك دائماً طرفاً من خيط يُغريك بلمسه ، من المهم جداً أن تُدرك إلى أين يأخذك هذا الطرف ، ذلك أن تجاهل الأمر ، أو التعامل معه بخفة ، قد يقودك من حيث لا تحتسب إلى (مشنقة تاريخية) ، كان هذا الطرف الناعم الذي إستهنت به ، جزءاً من نسيجها ، وكنت أنت لسوء طالعك أحد ضحاياه .

ولأنه في جزء منه سئ السمعة ، عمد المؤرخون حديثاً إلى وضع قواعد منهجية ، وأصول علمية ، يقولون أنك من خلالها تستطيع كباحث متخصص أو حتى كقارئ متلصص ، التثبت - إلى حد ما - من صدقية ما كان من أمر أخبار الأمصار، هم يقولون ذلك ! من جانبي .. لا تتوقع مني أن أقول لك كيف تقرأ التاريخ ، فأنا حتى لا أعرف على وجه اليقين .

لكن ما أعرفه ، ولعلي أود منك أن تعرفه ، أن لا تجعل من عقلك مستودعاً لمتاع المؤرخين ، وقصاصي الأثر عبر السنين ، يتطلب الأمر منك بالتأكيد ، وعياً وضميراً وحياداً ، بالمناسبة ومن واقع التجربة ، ليس من اليسير عليك في بادئ الأمر ، أن تأتي بها جميعا ، ولكنها فيما أظن ، لافتات إرشادية يجب أن تكون حريصاً على أن تُبقيها مضيئة - قدر إستطاعتك - في كل الصفحات التي تمر من تحت عينيك ، يستوي في ذلك عندي وعندك ، بيتاً في ديوان شعر ، أو أثراً في كتاب فقه .


التاريخ على حبي له ، قد يُشكل أحياناً حقل ألغام ، ومن أسفٍ أنه لا توجد خرائط واضحة ، تشير إلى موضع الخطر ، أو موطن العطن ، ليس مستغرباً أن أتورط أحياناً ، وأبدي ندمي - من بعد ذلك - في كثير من الأحيان ، من منا لم يتورط بشكل أو بآخر ؟ لكن .. لن يكون منصفاً دائماً أن أُلقي بالتبعة على الآخرين ، أو أُلصق التهمة بأقرب مؤرخ رأيت إسمه على مجلد أنيق ، فالمؤرخون أحياناً يتورطون ، أليس كذلك ! فأنا من أنصار المدرسة التي تقول : إن زعم أحدهم وصلاً بليلى ، فلا تصدقه حتى تقر له ليلى بذاكَ ، مع خالص إعتذاري لمجنون بني عامر .

2015/11/10

والله زمان !!


بقلم : ياسر حجاج
 في ساعة متأخرة من الليل ، في بقعة شبه مظلمة ، على خريطة باهتة ، في أكتوبر 1980 ، وفي اليوم الثاني منه تحديداً ، بدا وكأني على وشك معاينة ليلة إستثنائية في كآبتها ، مازالت تفاصيلها عالقة بذاكرتي حتى الساعة ، وكأنها ليلة البارحة وليست ذكرى جاوز عمرها الخمس والثلاثون عاما ً ، محبوبي المفضل وقتها ، محمد علي كلاي في نزال هو الأشهر تقريباً في حياة الرياضي الفذ ، لأنه في ظني الذي وضع حداً فاصلاً بين الأسطورة الحية ، وبين الواقعية الأكثر حيوية فيما بدا ، مباراة شاهدتها منفرداً ، وقد منيت النفس - قبل بدئها- بأني سأكون أحد الشهود على كتابة سطوراً جديدة من الملحمة ، وكان كل رجائي ، ألا يفسد كلاي متعتي فيبادر إلى الإجهاز على منافسه في الجولات الأولى وبالضربة القاضية الفنية كما تعود ، فقد أردتً - وأنا دون السابعة عشر حينها- مشاهدة المهارات غير المعتادة ، ولعدد اكبر من الجولات ، أردت معاينة كيف تكون الإستهانة بالخصم الذي نازع الملاكم العظيم مكانته ، ويريد - بصفاقة الآن - تجريده من لقبه ، كبطل للعالم في الوزن الثقيل .

بدأت المباراة ، ولكن كلاي كان غائباً ، فمن حضر ليس سوى الصورة الشائهة التي تسمت بإسمه ، وحملت ملامحه ، ونسيت أن تستحضر روحه ، أتذكر وجيب قلبي ، وأنفاسي المحتبسة ، وأنا أرى المحبوب ، تنهال عليه اللكمات ، ويُحاصر في كل الزوايا ، كانت عيناه زائغتين ، تستحثان رنين جرس أن يدق معلناً إنتهاء الجولة ، ليسترد بعض من وعيه المفقود ، تكرر الأمر في الواقع طوال المباراة المقدر لها أصلاً 14 جولة ، ولكن في الجولة العاشرة ، بلغت المأساة غايتها ، والكمد منتهاه ، وشاهدت بعين دامعة كيف أن البطل العظيم ، لم يعد قادراً على أن يدفع عن نفسه اللكمات المهينة من منافسه لاري هولمز ، لم أكن لأصدق ما أراه حقاً ، وبإنتهاء هذه الجولة ، سمعت الجلبة والصراخ في الركن المخصص لجلوس كلاي ، حيث أنه قد أجبر على إيقاف المبارة من خلال طاقمه الفني ، فلقد أراد مساعدوه أن لا يشاهدوا اللحظة التي يسقط فيها كلاي على الأرض إن إستمرت المباراة ، فيتمرغ تاريخه في التراب ، وبصوت عصبي حاد ، صرخ المدير الفني لكلاي في وجه حكم المبارة ، ( أوقف النزال - Stop The Fight  ) ، لم تكن وحدها المباراة التي توقفت ، فقد كففت أنا معها عن الإدراك لبعض الوقت ، تسمرت في مقعدي ، أغلقت التلفاز ، وبأرجل ثقيلة أكاد أجرها جراً ، ذهبت لغرفة نومي ، تمددت على فراشي ، وأنا لا أدري إن كنت سأتمكن من الخلود إلى النوم بأي حال ، وتعلقت عيناي بسقف غرفتي ، وأنا لا أصدق ما رأيت .. ربي أقم الساعة ، كان هذا شعور صبي على أي حال .

بمرور الوقت أدرك أكثر فأكثر ، أن باب الآمال العظيمة ، هو ذاته باب الإحباطات العظيمة ، كثيرة هي الأشياء والأسماء والشخوص التي تكبر في ناظريًّ ، وتتعلق بها روحي ، أنظر إليها بقلق ، وأرقبها بتوجس ، متمنياً أن لا تأتي اللحظة التي أعود فيها دامع العينين ، أو متفرساً في أسقف الحجرات ، أو متعجلاً قيام الساعة .

2015/11/01

عفواً .. ماذا تقول !!


بقلم : ياسر حجاج
من دون أشياء كثيرة ، وحدها الأفكار تأخذ وقتاً أطول للنضوج ، فإن نضجت - أو بدت كذلك - طُرحت على وجوه الخلق ، فمنهم من يتقبلها بقبول حسن ، ومنهم من يلفظها ، ومنهم من يقف حيالها حائراً متشككاً ، وهناك أيضاً من يرجمها بحجر ودون مبرر واضح أحياناً ، تلك سُنة قد خلت في الذين من قبلنا ، وستستمر معنا ، ومن بعدنا حتى خط النهاية . الأفكار في ذاتها لا تموت ، ولا ينبغي لها ، ذلك أنها في النهاية ليست سوى نتاج معاناة إنسانية ما ، صحيح أنك قد تتفق أو تختلف معها بالنظر إلى المخرجات النهائية لها ، إلا انها تظل فكرة ، حتى وإن بدت غريبة أو حتى شاذة ، من هنا تأتي أهمية تطوير الأفكار والبناء عليها ومعالجة الإختلالات الحادثة بها ، ولكن وفق المعايير العقلية والإنسانية التي تواضع عليها عموم الناس .

كثيرة هي الأفكار العظيمة ، واللفتات النابهة في تاريخ الأمم والشعوب ، بيد أنها - في حينها - ربما لم تكن كذلك في نظر البعض ، بل ولربما كان يُنظر إليها بحسبانها ليست سوى نزق مفكر مفلس ، لا يجد إيجار غرفته الرثة  ، أو طيش جامح أصاب عقل أديب ، لا يكاد ينتبه من نوبة سكر، حتى يدخل في أخرى . تمضي أعوام عديدة ، وربما قرون ، قبل أن ينتبه أحد ويتساءل .. ولما لا ؟ فإذا بنا إزاء هذا المفلس أو ذاك السكير وقد وضع قدمنا على جادة الطريق أو دس في أيدينا مفتاح الولوج إلى الحقيقة في صورتها البهية . 

تظل الأفكار على هذه الحال تتردد ما بين منتديات المثقفين ، إلى حوانيت العامة ، إلى أن تغدو ثرثرة مقيتة تلوكها الألسن في الطرقات ، وذلك حتى ينبلج لها صبح مأمول ، أو تُدفن مع أول خيط من خيوط الفجر ، سيكون أمراً رائعاً في تقديري ، لو قُدر للفكرة المتسرعة أن تُسحب من سوق التداول ، وتحل ضيفة على غرفة مثيلاتها (المبتسرات) ، فينالها من الرفق والعناية والأناة ، ما يجعلها مهيأة - بعد حين - للإختبار والصمود مرة أخرى .

الأفكار الكبيرة هي غالباً وليدة نقاشات كبيرة ، وحوارات إيجابية نالت حظها الأوفى من الفهم والإدراك والإخلاص ، ومن الأمثال الجارية ( أنك إن أردت أن تقفز عالياً ، فعليك قبل ذلك أن تعدو طويلاً ) وإلا - وبمفهوم المخالفة - فإنك لن تتمكن بحال من بلوغ القمة المرادة ، وأنت مزروع في المكان .
لقد بات من الواضح الآن ، وبالنظر إلى واقعنا المُعاش ، أن لا أفكار كبيرة منتظرة ، ذلك أننا لا نجيد النقاش الإيجابي ، بقدر ما نجيد الكلام ، أمر ملفت للغاية أن تكتشف بعد ساعات من المناظرة والمناكفة ، أنك لم تقل شيئاً تقريباً ، على الرغم من أنك لم تكف لحظة عن الكلام ، فإما أنك لم تقترب من ملامسة جدية لحدود ما كنت تتحدث في شأنه ، وإما أنك كنت تتحدث في شأن مختلف تماماً عن موضوع نقاشك الأصلي ، متوهماً أنه فرع منه أو ذا صلة به ، من المحبط أنك تكتشف ذلك بعد إنتهاء جلسات النقاش ، حيث من العسير الإستدراك ، أو حتى الإعتذار ، وبالتالي فإن هكذا بؤس ليس من شأنه أن ينتج أفكاراً ، بل ربما صداعاً بنكهة عربية مقززة .

*****
تجربة طريفة مررت بها ، وكنت أحد شهودها ، بل ومن المشاركين فيها ، كان الأمر أشبه بمهزلة حقيقية ، ذلك أن أحد الزملاء طرح على صفحته على الفيس بوك سؤال بسيط ، يتعلق بإعراب جملة ، بدا وكأن لديه مشكلة في فهم مدلولها ، وبالتالي قد صعُب عليه أمر إعرابها ، فناشد الأصدقاء التدخل ليدلو كل منهم بدلوه ، وبالفعل تداخل الكثير من أصدقاء صفحته ، تلبية لهذه الدعوة .

في الحقيقة إستغرق الأمر أكثر من يومين على ما أذكر حتى إنتهت كل التعليقات التي فاقت المائة بكثير ، وبما أنني كنت أحد المشاركين في التعليقات ، فقد أخذتني الدهشة بعد فترة وأنا أتابع تسلسل تعليقات الأصدقاء ، يا إلهي .. أكثر من 95% من التعليقات ليس لها علاقة لا بأصل السؤال ولا بأي مضمون قد يتصور أنه متفرع منه ، فصحت في مرح : ألم يكن موضوع (البوست) مجرد سؤال في النحو ؟  فما هذا الذي أراه !! .


إن لم تكن تصدقني .. حاول أن تجرب هذا ، خض غمار أي نقاش مع فرد أو مجموعة  ، فأياً ما كان الموضوع ، سينتهي بك المطاف حتماً على غير مبتداه ، وبشكل جلي حقاً ستعاين بنفسك ، ماذا تعنيه عبارة (المتلازمة الجدلية البائسة) ، فإن هي إلا لحظات حتي (يتكور) النقاش فيغدو ككرة تتقاذفها الأرجل يمنة ويسرة ، فما بين مشكلة الشرق الأوسط ، وازمة اللاجئين السوريين ، إلى بطء خدمة الإنترنت بمنزلك ، إلى رائحة العطر لهذه الحسناء التي مرت لتوها الآن ، إلى أحدث تسريحة رأيتها لزوجة جارك ، إلى نتائج الإنتخابات البرلمانية ، لكن .. إنتبه ، ماذا كان محور النقاش في الأصل ؟ آه .. كنت تتحدث عن أحدث أنواع الهواتف المحمولة المتاحة بالأسواق الآن ، لا أستغرب أبداً ولأسباب تربوية وتعليمية ، أننا لا نجيد إحراز الأهداف ، على الرغم من إستحواذنا على الكرة لمدد طويلة  ، فكما أننا نتكلم كثيراً ، فإننا في الواقع ، لا نقل شيئاً . 

2015/09/16

كوكب سيجارو !!


بقلم : ياسر حجاج

الأخبار السعيدة تأتي غالباً متأخرة ، حسن أيضاً أنها تأتي ، فبعد قرابة الـ35 عاماً لم تنطفئ فيها ليَّ نارُ ، تأتي رسالة من وراء الحجب تقول لي : أيها العزيز ، كفاك ، فلن تجد على النار هدى .

في ختام مرحلة الدراسة الإعدادية ، أوعز طبيبُ العيون إلى الأسرة بحاجتي إلى نظارة طبية ، وبحس صبياني لا يخلو من مرح ، رأيت أن إنفجاراً كونياً على وشك الوقوع ، دبدبتُ بقدمي على الأرض ، أخيراً سأصبح مثقفاً ، فالمثقفون يلبسون نظارات طبية ، تُرى ما وقع الأمر إذا ما أضيفت أيضاً نكهة بطعم الدخان ! لا شك ستكون الأمور إستثنائية تماماً ، لنرى ردود الأفعال على محيا بنات الجيران .
لم يكن التدخين في الحقيقة بالنسبة لي يشكل عامل إغراء من أي نوع ، إلا بالقدر الذي رأيته متناغماً تماماً مع شخصيتي ، فأنا أحب أن أمسك بالسيجارة ولو غير مشتعلة ، وأضعها في فمي لفترات طويلة ، خامدة دون دخان ، ثم ألهو في عملي وسائر شأني ، فأتذكر بعد حين أني قد نسيتُ شيئاً ما في فمي ، كانت علبة دخاني وجراب نظارتي أول توأم ملتصق في حياتي ، تجري الآن عملية فصل بينهما بكل سلاسة .

كمدخن أحتفظُ بالعديد من الذكريات المرتسمة بأعواد الثقاب وخيوط الدخان وبعض السعال ، أتذكر ملابسي التي لم أعد أستخدمها إثر إكتشاف ثقب هنا أو هناك نتيجة شرر متطاير ، أو سقوط رماد ، كثيراً ما كنت أشعل سيجارة - من باب المكايدة - لدي سماعي أي حديث عن التحذيرات الطبية ، والأثار السلبية للتدخين ، تلك الأثار التي كنت أتفرسُ فيها باسماً وأنا أرسم بدخاني كلمة .. ولو ! .
كمدخن أعرف أن اليوم الأخير من شهر مايو من كل عام ، هو اليوم العالمي لمكافحة التدخين ، حيث الندوات والحلقات النقاشية والبحثية ذات الصلة ، إليكم عني هذا العام ، برجاء المحاولة في وقت لاحق .. كثيراً ما كنت أقول ذلك .

كمدخن أحتفظُ في هاتفي المحمول ببعض الأرقام الخاصة بالمراكز الصحية المتخصصة التي تقدم مساعداتها لمن يريد أو يفكر في الإقلاع عن التدخين ، ولا مرة واحدة حاولتُ إستخدام أي من هذه الأرقام ، ولو حتى من باب تجلية الأمر ، لم تكن لدي الرغبة في الحقيقة في شئ من ذلك ، كنت سعيد بهذه الحالة ، ليس بميسور عليًّ أن أتنازل هكذا عن مكون معنوي هام من مكونات شخصيتي ، أذكر الآن أنه في بداية الإحتفال بسنة ميلادية جديدة ، كانت أمنيتي الوحيدة ، أن أجدَ وسيلة تمنع سقوط رماد سجائري بين أزرار الكيبورد الخاص بحاسوبي ، إلى هذا الحد ؟ نعم .

زوجتي سيدة صالحة مستجابة الدعاء ، أنا شاهدٌ على ذلك لربع قرن على الأقل ، كثيراً ما كانت تُبدي دهشتها من أنه على الرغم من كونها تلهجُ بالدعاء ، وتتخيرُ ساعات الإجابة ، فإن دعاءها لي بالإقلاع عن التدخين ، لم يظهر له أثر ، أو ثمة إمارة ، الآن يا زوجتي العزيزة إليك المفاجأة ، ففي وقت أدعيتك وتوسلاتك ، كان هناك وغدٌ في الشرفة ، يدخنُ ويرفع عيناه على إستحياء لمعانقة حافة السماء ، ويدعوا الله أن لا يستجب .

أذكرُ أنني قد حاولتُ مراراً الإقلاع عن التدخين ، أو تنظيمه على أقل تقدير ، كافة المحاولات لم يُكتب لها النجاح لأسباب مختلفة ، بمرور الوقت أدركتُ أن الموضوع بات يشكل خطراً على صحتي النفسية من حيث أنه بهذه المثابة سيُسهم في كسر إرادتي ، ويجعلني أشعرُ بالضآلة أمام نفسي .

حانت لحظة لم أكن أرتبُ لها ، أو أخططُ لحدوثها ، صلاة الجمعة في الـ14 من أغسطس الفائت ، تحديداً وقت السجود ، كلمات بسيطة يبدو أنها كانت صادقة ، اللهم أعني على هذا الأمر ، فرغتُ من أداء الصلاة ، وعدت إلى المنزل مواصلاً حفل التدخين حتى المساء كالمعتاد ، عدت إلى المسجد مجدداً لصلاة العشاء ، دون دعاء هذه المرة ، وفي طريق العودة مررت على البقال لشراء علبتي سجائر كالمعتاد ، إذا بي أختار شراء علبتي زبادي ، صادفت أحد الأصدقاء يشتري سجائره ، قلت له ممازحاً : أما زلت تدخن ؟ ، نظر لي بإستغراب وكأنه يستنكر عليَّ سؤالي بحسبانه يعلمُ أنني مدخنةٌ تمشي على قدمين ، حتى فاجاته : لقد أقلعتُ عن التدخين اليوم ، وقد كان .

الأيام الثلاثة الأولى كانت صعبة للغاية ، لم أكن أطيق أن أبقي على مقعدي ، ولكنني تماسكتُ وضغطتُ على أعصابي بشدة ، الأمر لم يكن يحتمل أي فشل هذه المرة ، بمرور الساعات ، كانت تتحسن معنوياتي ، وأقول لنفسي ، أرأيت .. لقد مرت خمس ساعات الآن بلا دخان ، إستمر ، إنك قادر على إنجاز المهمة ، في اليوم التالي ، نمت لي خلايا جديدة من الأمل ، وتحليتُ بمزيد من الثقة ، هيا أيها الهمام ، لم يعد يقف في طريقك شئ ، ها أنت تطيح بقدميك أكثر من ثلاثة عقود من الإحباط والفشل .

كانت ردود الأفعال مرحبة ومشجعة ، وبعضها متوجسة من إخفاقٍ محتمل ، أتتني تمنيات الأصدقاء والأسرة (بالتثبيت!!) ، وكأنني ذلك الذي لم يعرف طُهرٌ في حياته ، وهو الآن على وشك أن يعانقَ أثواب الفضيلة للمرةِ الأولى ، ما علينا .. وأياً ما كان الأمر ، فما أعرفه حقيقة أنني لن أعود مجدداً للعيش على هذا الكوكب ، ذلك أنني قد إتخذتُ قرار الإقلاع عن التدخين بإرادة حرة ، وليست تحت أية ضغوطات جسدية ، أو توصيات طبية بائسة ، ومع مرور الشهر الأول ، تبدو الأمور رائعة حقاً ، والقادم لابد أنه سيكون أروع ، إختبار واحد ينقصني للتأكيد بشكل نهائي على صواب قراري ، وهو أن أتمكن من الإتيان بوصف دقيق للقبلات من خلال شفاهِ خالية من النيكوتين .

2015/07/31

القناة وأنا !!


بقلم : ياسر حجاج
ككل الأشياء الكبيرة ، لا أستطيع التعبير عنها بسهولة ، جغرافية مصطنعة ، عرفت طريقها إلى أطلس العالم منذ زمن ، لعل الكل منشغل الآن بإعادة رسم الأبعاد ، وإستبدال البقع الصفراء بخط أزرق دقيق ، جدول جديد نبت في عرق الوطن ، وبرهان على أن الأصالة لن تجدها فحسب مطمورة في كتب الحكمة التي صاغها الأقدمون ، نظرة إلى الشاطئ ، قدم تلامس حافة المجرى ، فشل قديم في تعلم السباحة ، الإكتفاء بلملمة السمك الذي وقع أسيراً في شباك الخال رحمه الله ، الثلج المجروش ، رائحة الفجر لدى العودة من رحلة الصيد .

في العام 1975 .. عدنا إلى الإسماعيلية بعد رحلة هجرة قسرية عقب النكسة ، تهيأت للحصول على شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية ، وقبل أن أبدأ في التعرف على معالم مدينتنا التي هجرتها في عمر الرابعة ، يممت وجهي تلقاء بحيرة البلاح المطلة على القناة لأبدأ رحلة من المرح الطفولى الممزوج بالدهشة والعجب بهذا الممر الملاحي العتيد ، أذكر أني كثيرا ما كنت أستخدم المنظار المكبر أثناء جلوسي على الشاطئ قبل الغروب ، حيث كنت ألوح للسفن الأجنبية المارة ، وأولئك النفر هناك الذين كانوا يعتلون أسطحها ، لا أدري إن كان أحداً منهم قد بادلني التحية .

توالت رحلات الصيد ، وإلتصقت وجدانياً برائحة الماء ، وقبل أن يبلغ بي الحب الحافة ، هجرة قسرية جديدة لاحت في الأفق ، تعكرت الأجواء ، ولم تُحسب فروق التوقيت ، ولا المقتضيات المرعية ، رُسمت الصورة ، واختيرت الألوان ، بقي الإتفاق على شكل إطار ، والمكان المناسب للتحنيط على وجه جدار ، لم يكن الأمر على هواي ، كانت الحركة على الأرض تفرض هيبتها ، لم يكن لي أن ألاطم الريح أنذاك لوقت طويل ، وقبل أن ترسم الهزيمة المذلة خطوطها الغائرة ، بدأت في خطة إنسحاب ، لا أعلم الآن إن كان منظماً بدرجة كافية ، لكني على ضوء تحليل النتائج بعد عدة عقود ، أستطيع التأكيد أنني قد نجوت بنفسي ، ولكن الثمن كان باهظاً .. الحياة كلها ، فقد غادرت المدينة الرائعة ، للبحث على بصمة وراثية متطابقة ، أزعم الآن أنني لم أجدها .

قناة السويس الموازية هيجت الذكرى ، ونكأت الجراح من جديد ، منذ أيام كنت قي زيارة لبعض من أفراد العائلة هناك ، كان حديث القناة يتصدر الجلسات ، الآمال المعقودة كثيرة ، والأماني باتت على مرمى حجر ، عدت إلى الوراء كما هي عادتي ، هل من عودة قريبة إلى مدينة ميلادي ، وموطن صباي ، ولو حتى في مناسبة كرنفالية ؟ لا أعتقد هذا  ، ففي اليوم الذي يصادف إفتتاح القناة ، سأكون ُملقىً على مقعد طائرة ، مخلفاً ورائي تاريخ قديم كأنه حبيبات الجمر المتناثر ، مازالت حرارته تسكن الأمكنة ، وتتسرب إلى الشقوق رغماً عني ، وكمالك الذي هو خازن النار ، أقف بوجه بارد يعلوه الحياد ، أقلب الجذوة بعود من حديد ، لكي لا تبرد الذكرى ، ولا يخفت بكاء السنين ، ولتبقى من بعد ذلك أكوام الملح تعالج الجروح ، ويعلو صوت الأنين .

مدينتي الصغيرة التي تخترق خاصرتها قناة السويس ، لم تتح لي فرصة كافية لممارسة فنون العناق ، مازال أملي كبير في أن أتمكن من تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ومع كل تطمينات الأهل ودعاء الأقربين ، أغادر من جديد ، مخترقاً طرقاً ومدناً ، هنا ... لافتة صادمة على الطريق تقول : محافظة الإسماعيلية .. صحبتكم السلامة .

2015/07/14

ذهاب وعودة




بقلم : ياسر حجاج

يأتــــي النداء الأول
فالثاني  .. ثم الأخير
السيد ............................................. برجاء التوجه إلى البوابة رقم (  ) تمهيداً للسفر .
 تباً لكم ، فلست متأخراً، فقط كنت في الجوار ، في المكان المشبوه ، مأوى الرجال سيئ السمعة ، غرفة المدخنين ، جنسيات عديدة ، وأعمار متنوعة ، ماركات سجائر ، كثير من الرماد ، قداحات ، وعلب كبريت ، جبال من الدخان بالطبع ، هنا نادراً ما أدخن على عجل ، بل لعله المكان الوحيد الذي أدخن فيه بتؤدة ، وكأني أعمل على بلورة نظرية جديدة ، انظروا أيها الأوغاد كيف أرسم صورتي بخيوط الدخان ، ذاك الذي يتحدث بكل اللغات ، لا يقطعه غالباً سوى رشفة شاي أو قهوة ، أو ضحكة مباغتة من هذه الحسناء التي توشك أن تغادرنا إلى برلين ، فلتحيا الوحدة الأوروبية .

*****
- مرحباً .. سيدي ما هو رقم مقعدك ؟
- آخر مقعد بالطائرة .
- "مندهشة " .. المقعد الأخير بالطائرة .. هل أنت متأكد ؟
- نعم .

ثم بعربية ركيكة ، وإنجليزية تدعو للتقيؤ ، رئيس طاقم الضيافة بالطائرة يُلقي البيان الأكثر مملاً في عالم الطيران : نحن على ارتفاع أكثر من 30 ألف قدم ، وسرعة الطائرة 850 كم/س ، ثم يستعرض بياناً عن درجة الحرارة في الخارج ، يتلو ذلك عرض فيديو لا يهتم أحد بمشاهدته غالباً عن الخطوات الواجب إتخاذها حال الطوارئ ! ليتها تسقط يا عزيزي ، فينفض كل هذا السامر ، وليذهب كل منا إلى هناك ، للعثور على أجوبة نموذجية عن كل الأسئلة الإجبارية ، بالمناسبة ، لما لم تكن هناك الكثير من الإختيارات ؟ .

أكثر من ستة صفوف أفقية شاغرة قطعتها المضيفة قبل أن تصل إلى مقعدي في آخر الطائرة ، فقط لتسألني عن الوجبة المفضلة لدي ، ثم بلهجة ودودة :-
- حضرتك قاعد في الآخر ليه ؟
- هذا ما بدا لك ، نظرة عكسية ستثبت لك أنني أجلس في مقدمة الطائرة .
تركتني بعد أن رسمت إبتسامة باهتة إقتضتها ظروف الحال ، وكأن لسان حالها يصرخ : كم معتوه آخر على متن هذه الطائرة ! .

ليلاً .. رحلاتي المفضلة ، النافذة الجانبية لا تشي بشئ ، لا أضواء قادمة من بعيد ، سباحة في الظلام ، أفكار هي خليط بين الأمل والرجاء ، ضحكات مكتومة لصدى من الذكريات المرحة ، كابتن الطائرة يلقي الآن بالبشارة : على الجميع ربط أحزمة المقاعد ، فنحن نقترب من مطار القاهرة ، دقائق بعدها حتى ألقيت على سمار وسهارى المحروسة تحية المساء .

 يُكتب تاريخ بعضنا أحياناً في المطارات ، أختام المغادرة ، أختام الوصول ، وما بينهما سرد بائس من اللزوميات التي لا لزوم لها ، الخامس في الطريق ، فأربع جوازات سفر سابقة ، لم تكن كافية على ما يبدو لإنجاز المهمة ، صفحات إضافية ربما من الجواز الجديد ستكتب فصلاً أو فصولاً جديدة من مسرحية يصعب تصنيفها تحت عنوان واحد كبير ، لما أشعر الآن أنني قد عشت أكثر من اللازم ؟ . 

*****
خيالي لم يزل قديمــاً !
أناقة في وجه المرايا .
حامل حقائب هدايــــا .
وسلال من الحكايــــا .
وأدمع تصف الشكايـا .

ثرثرة نبيلة تعود ، يا لقدم الهوايــة .
شفاه محنطة تــاقت لأزمنة الغـواية .

*****
أخيراُ سأصافح غرفة مكتبتي .. في هذا الركن ، كان سفر الفتنة الكبري ، لم تصغر قط إبنة اللعينة ! كل شئ هادئ في الميدان الغربي ، لم يعد الأمر كذلك مستر ريمارك ! التاريخ هنا مرصوص بإتقان على أرفف متربة ، يستعد في صمت لكتابة مطولات جديدة في فنون المناورة والرياء ، يا لمكتبتي المتخمة بالكذب !
بات الحياد سيد الموقف ، الملامح تغيرت ، والمعاني تماهت ، والنكهات طغي بعضها على بعض ، أين الوطن ؟ يفعل السفر بي أكثر مما ظننت ، لا يتعلق الأمر حقاً بملامح مستحدثة ، ولا تغير في أرقام الأعمار ، أو حتى في أرصدة الحسابات ، السفر حاصل جمع وطرح مضروب في أعداد لا نهائية غير قابلة للقسمة على إثنين وفق أي قانون رياضي ، السفر حالة موت وميلاد في آن ، شكل من أشكال التداخل غير المفهوم أحياناً ، فلا أنت حي بشكل كاف ، ولا أنت ميت أيضاً بشكل تام ، كأصحاب الأعراف الذين لا يعرفون على الأرجح أي نهاية ستكلل مسيرة حياة أحدهم ! بين حل وترحال قرابة الربع قرن ، كل شئ نسبي ، لا شئ مؤكد تقريباً بالنسبة لي ، سوى حقيبة سفري .

2015/06/17

الوصفة !


بقلم : ياسر حجاج
صغيراً .. كثيراً ما كنت أكافح الإرهاب وفق القانون :
زئير النفير يصم الآذان .
ساعة الصفر تبرق من هناك .
فلتتقدم الطابية ، ولتٌزح كل المعوقات على جميع خطوط الطول والعرض .
ليرقص الحصان ، ويطح بحافره كل معتد أثيم .
لتصرخ الفيلة الآن ، فيسقط كل من تراوده نفسه الإقتراب .
بشائر النصر تلوح في الأفق .
يتقدم الجنود لتطهير الميدان .
يرقب الوزير المشهد من بعيد .
يشرب الملك أخيراً نخب الإنتصار .
فلتضئ الشموع ، ولتعلو البيارق .
أين تــــراها الآن .. إبنة الجيران ؟


 كبرت .. فشاركت ، الفريد هتشكوك الخلاص من كل الأعداء :
تم نزع مكابح سيارته .
غرق في مغطس حمامه .
وجد مشنوقاً بملاءة سريره .
أصيب بالإختناق داخل المصعد .
إختل توازنه فهوى من شرفة منزله .
عُثر عليه مذبوحاً داخل مكب للنفايات .
أصابته رصاصة طائشة أثناء رحلة صيد .
صدمته سيارة مسرعة أثناء عودته إلى منزله .

كبرت أكثر.. فعاينت إرهاب الإخوان
فعكفت على مشاهدة فيلم رصاصة في القلب

2015/06/14

حوارات حواري !


بقلم : ياسر حجاج
ربما دون أن تدري ، فلا قضية منتهية تقريباً ! كل نهاية متوهمة ، هي ذاتها إستهلال رتيب لفصل جديد ، ولربما مع أناس آخرين ، تصل به ما سبق ،  وفي طقس يجمع ما بين المحبط والممل ، يبدأ النقاش ، بادئ الأمر في منطقة محددة ، ومساحة زمنية معينة ، دقائق على بدء النقاش ، تجد نفسك ملقى إما في حضن جبل ، او عالقاً بجذع شجرة ، أو تصارع موج من أجل البقاء على اليابسة ، قد تسترد بعض من وعيك ، وتملأ رئتيك ببعض الهواء ، ثم تسأل السؤال الذي لا يعرف أحد الإجابة عنه : ماذا كنت أريد أن أقول ؟ ، لن يجيبك أحد ، فالكل منشغل بالبحث عن إجابة .
  
عجيب أمر هذه الحوارات التي نكون طرفاً فيها ، فأياً ما كان الموضوع ( هام - تافه ) يندر أن يبدأ النقاش وينتهي دون خروج أحد عن صلبه (أنت أو هو) ، وكأن القاعدة هي تلك التفريعات العديدة ، والخطوط الجانبية ، التي غالباً ما تستنفذ الوقت الأكبر ، والمجهود الأوفى ، ليس مستغرباً إذن أن لا قضية منتهية ، فكل طرف من خيط ، يُسلمك إلى طرف آخر ، وهكذا دواليك ، حتي يستحيل الأمر في النهاية ، إلى كومة من الشرنقات المتداخلة التي تنسج حول روحك حبلاً ، سيكون خبراً سعيداً بالتأكيد إن تمكنت من النجاة بنفسك ، هذا بالطبع إن كنت مهتم .

النقاش هو نوع من الفنون ، غير أن إدارته هو عين الفن ، والإلتزام بالخط العام للموضوع ، هو أمر جوهري للغاية ، نوع من المران يُكتسب ، كما أنه أحياناً جزء أصيل من ثقافة المتحاور ، وكلماً كنت حريصاً على الإلتزام به ، بل وجعل غيرك يلتزمه ، كلما كان أمل الوصول إلى نتائج محددة ، وفائدة مرجوة كبيراً ، فعديدة هي القضايا التي لا نجد لها حلاً ناجعاً ، أو لا نجد لها حلاً على الإطلاق ، ليس لأنها في ذاتها مستحيلة أو عصية على الحل ، لا .. ولكننا في الحقيقة لا نتحدث بشانها ، وإنما في شأن من شئونها أو أشباهها ، قديماً تشابه البقر على بعضهم ، وبعد مناورات ومداورات ، أدركوا أن التشابه الذي تراءى لهم ، لم يكن في الواقع له حظ من الحقيقة ، بقرة .. أي بقرة ! .

لسنا أفضل حالاً .. لم يعد الأمر مقتصراً على بقرة ، إنما حتى على البيضة ( مين اللي جابها وسلقها وقشرها وأكلها ) ، صحيح كان هذا فيما سبق ، عندما كنا صغاراً ، ولكن هل كبرنا ؟ خض غمار أي حوار ، ستدرك بسرعة ، انك ما بارحت حجر أمك ، او صدر أبيك ، لابد وأن قصة البيضة لم تزل تستهويك .. أليس كذلك ؟ .

النقاش ليس هدفاً في ذاته ، ولا ينبغي له أن يكون ، هو نوع من التواصل بشكل ما ، صحيح أنك لا تصل غالباً إلى شئ ذي بال في النهاية ، ولكنك على أي حال ربما تكون قد أدركت من خلاله ، أن بوسعك إفحام طرف أو أطراف أخرى ، بدا لي كم كنت سعيداً عندما وضعت أحدهم في زاوية ، وحاصرته بحججك ، وصببت عليه البراهين صباً ، حتى إستغاث ورفع منديله الأبيض ، لكم كنت قاسياً ، وأنت تسفه من أراءه ، وتسوق الأدلة على هشاشة منهجه ، لقد قتلته يا رجل ، ولكن قل لي : هل أنت سعيد الآن ؟ إن كنت كذلك ، فيؤسفني أن أقول لك ، أنك لست أقل تفاهة ، فهذا ليس نقاش ، وإن تسمى بإسمه ، وتزيا بزيه .

كثيراً ما نبتدع أسماءاً جديدة لذات الأشياء ، ونكهات مختلفة نُغطي من خلالها على المذاقات الأصلية لها ، فلما نفعل ذلك ؟ لأننا ألفنا اللعب والمناورة والتبرير ، جزء من ثقافتنا ، أو تراثنا ربما ، حتى بات توأمنا الملتصق ، الذي لا يريد المغادرة قريباً على ما يبدو ، إن أفضل ما رأيته وعاينته من سني العمر المنقضية ، أن فضيلة الإنصات لا تضاهيها فضيلة ، كم هو جميل أن تكون إذنك في مقدمة الركب ، جميلة هي أيضاَ لحظات الإسترخاء العصبي ، المصحوبة بإبتسامات باهتة ، وأنت تعاين الكذب والمبالغة والتنطع ، أيها الأوغاد .. هل أعرفكم من قبل ! عبارة وددت لو ألقيتها على وجوه الكثيرين .

نقاش واحد ، هادئ وصادق ستجده ، لما لا تنظر إلى المرآة الآن ، ها قد عرفته إذن ، جريدتك وفنجان قهوتك ، وإن شئت فسيجارتك ، فر إلى الشرفة أو غرفة المكتب ، إنسحب الآن من كل هذه العوالم الخطرة ، إنفض عن نفسك غبار الحوارات ، خاصم تلك (المكلمات) البائسة ، فنفسك تستحق بعض من الرعاية والتدليل ، قل لي بالمناسبة .. هل جربت أن تستخدم (إصبع روج) زوجتك في الكتابة ؟ لقد وجدته رائعاً .. المهم أن تتعلم كيف تكتب به .. حاول .. لن تندم ، إنما .. لا يكن جل همك أرجوك ، إستنساخ عبقرية يوسف وهبي .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة