في ساعة متأخرة من الليل ، في بقعة شبه مظلمة ، على خريطة باهتة ، في أكتوبر
1980 ، وفي اليوم الثاني منه تحديداً ، بدا وكأني على
وشك معاينة ليلة إستثنائية في كآبتها ، مازالت تفاصيلها عالقة بذاكرتي حتى الساعة
، وكأنها ليلة البارحة وليست ذكرى جاوز عمرها الخمس والثلاثون عاما ً ، محبوبي المفضل
وقتها ، محمد علي كلاي في نزال هو الأشهر تقريباً في حياة الرياضي الفذ ، لأنه في ظني الذي وضع حداً فاصلاً بين الأسطورة الحية ، وبين الواقعية الأكثر حيوية فيما
بدا ، مباراة شاهدتها منفرداً ، وقد منيت النفس - قبل بدئها- بأني سأكون أحد
الشهود على كتابة سطوراً جديدة من الملحمة ، وكان كل رجائي ، ألا يفسد كلاي متعتي
فيبادر إلى الإجهاز على منافسه في الجولات الأولى وبالضربة القاضية الفنية كما
تعود ، فقد أردتً - وأنا دون السابعة عشر حينها- مشاهدة المهارات غير المعتادة ، ولعدد
اكبر من الجولات ، أردت معاينة كيف تكون الإستهانة بالخصم الذي نازع الملاكم
العظيم مكانته ، ويريد - بصفاقة الآن - تجريده من لقبه ، كبطل للعالم في الوزن الثقيل .
بدأت
المباراة ، ولكن كلاي كان غائباً ، فمن حضر ليس سوى الصورة الشائهة التي تسمت
بإسمه ، وحملت ملامحه ، ونسيت أن تستحضر روحه ، أتذكر وجيب قلبي ، وأنفاسي
المحتبسة ، وأنا أرى المحبوب ، تنهال عليه اللكمات ، ويُحاصر في كل الزوايا ، كانت
عيناه زائغتين ، تستحثان رنين جرس أن يدق معلناً إنتهاء الجولة ، ليسترد بعض من وعيه
المفقود ، تكرر الأمر في الواقع طوال المباراة المقدر لها أصلاً 14 جولة ، ولكن في
الجولة العاشرة ، بلغت المأساة غايتها ، والكمد منتهاه ، وشاهدت بعين دامعة كيف أن البطل العظيم ، لم
يعد قادراً على أن يدفع عن نفسه اللكمات المهينة من منافسه لاري هولمز ، لم أكن
لأصدق ما أراه حقاً ، وبإنتهاء هذه الجولة ، سمعت الجلبة والصراخ في الركن
المخصص لجلوس كلاي ، حيث أنه قد أجبر على إيقاف المبارة من خلال طاقمه الفني ، فلقد
أراد مساعدوه أن لا يشاهدوا اللحظة التي يسقط فيها كلاي على الأرض إن إستمرت المباراة ، فيتمرغ تاريخه
في التراب ، وبصوت عصبي حاد ، صرخ المدير الفني لكلاي في وجه حكم المبارة ، ( أوقف
النزال - Stop The Fight ) ، لم تكن
وحدها المباراة التي توقفت ، فقد كففت أنا معها عن الإدراك لبعض الوقت ، تسمرت في
مقعدي ، أغلقت التلفاز ، وبأرجل ثقيلة أكاد أجرها جراً ، ذهبت لغرفة نومي ، تمددت
على فراشي ، وأنا لا أدري إن كنت سأتمكن من الخلود إلى النوم بأي حال ، وتعلقت عيناي بسقف غرفتي ، وأنا لا أصدق ما رأيت .. ربي أقم الساعة ، كان هذا شعور صبي على أي حال .
بمرور الوقت أدرك أكثر فأكثر ، أن باب الآمال العظيمة ، هو ذاته باب الإحباطات العظيمة ، كثيرة هي الأشياء والأسماء والشخوص التي تكبر في ناظريًّ ، وتتعلق بها روحي ، أنظر إليها بقلق ، وأرقبها بتوجس ، متمنياً أن لا تأتي اللحظة التي أعود فيها دامع العينين ، أو متفرساً في أسقف الحجرات ، أو متعجلاً قيام الساعة .
بمرور الوقت أدرك أكثر فأكثر ، أن باب الآمال العظيمة ، هو ذاته باب الإحباطات العظيمة ، كثيرة هي الأشياء والأسماء والشخوص التي تكبر في ناظريًّ ، وتتعلق بها روحي ، أنظر إليها بقلق ، وأرقبها بتوجس ، متمنياً أن لا تأتي اللحظة التي أعود فيها دامع العينين ، أو متفرساً في أسقف الحجرات ، أو متعجلاً قيام الساعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق