2007/04/24

6- شيعة وسنة ... لماذا ؟

حمل التاريخ وُشقة الخلاف ... أربع عشرة قرناً فقط



يقول الكاتب الراحل الأستاذ / خليل عبد الكريم في كتابه { قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية } نقلاً عن البلاذري في مؤلفه أنساب الأشراف أنه في سقيفة بني ساعدة إجتمع المهاجرون والأنصار لبحث مسألة من يخلف محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعد أن إنتقل إلى الرفيق الأعلى راضياً مرضياً ، فتكلم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان رشيداً فقال : نحن قريش والأئمة منا ، وعندما إحتدم النقاش بين الفريقين إستطرد رضوان الله عليه قائلاً : ولن تعرف العرب الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، ثم إلتفت إلى أحد زعماء الأنصار وهو بشير بن سعد رضي الله عنه قائلاً : نشدتك الله ، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الأئمة من قريش ؟ قال بشير اللهم نعم ، كما يستعرض الأستاذ / خليل عبد الكريم ما أورده الراحل محمد حسين هيكل في كتابه عن أبو بكر الصديق حيث يقول أنه لما تمت البيعة إلى أبي بكر الصديق كان في نفس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - منها شيء ، فتوجه إليه أبو عبيدة رضي الله عنه وقال له : يا إبن عم أنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم في الأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد إحتمالاً ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، وإنك إن تعش ويطل بقاؤك فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق ، ولكن علياً -كرم الله وجهه- لم يرضه هذا التلطف من جانب أبي عبيدة فثار ثائر علي وقال : يا معشر المهاجرين لا ُتخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأننا أهل بيته

قراءات مختلفة

بعد هذه المقدمة إستهللت حديثي إلى صديقي وزميلتي وقلت لهما أنه وبإنتهاء هذه الحادثة تم تدشين أحد أكثر الخلافات شدة وحدة بين المسلمين ربما طوال تاريخهم ، الأمر الذي أدى إلى تقسيمهم إلى مدرستين .. واحدة للصحابة ، وأخرى لآل البيت .. وكأنه لا جامع بين المدرستين في حين أنهما قد نهلا معاً من نبع النبوة الصافي ، ثم أتت محنة الإمام الحسين وبعض من آل بيته - رضوان الله عليهم - لتزيد من حدة الخلافات وُتعمق وُتجذر إلى أبعد حد دعائم كل من المدرستين سالفتي الذكر ، وإستطردت أنه لا توجد جماعة بعينها ولا مذهب بذاته يستطيع أن يدعي أنه يملك وحده الحقوق الحصرية لحب وموالاة النبي وآل بيته الطيبين الطاهرين ، فالمسلمين جميعهم مأمورون بذلك ، وأردفت أنه مهما إختلفت التأويلات والتفسيرات فيمن تقدم للخلافة وفيمن تأخرعنها ، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون محلاً لخلاف المسلمين ، فالبحث عن نقاط الإلتقاء أفضل كثيراً من تصيد نقاط الإفتراق ، وأن المذهب الشيعي لم يتجاوز للآن حادثة السقيفة وظل – بعد أربع عشرة قرناً – يرنو إليها بكثير من الألم والشجن ، وُيرجع إليها وحدها ربما سبب الأزمات التي تعيشها الأمة إلى يومنا الراهن ، وأن مسائل كالولاية والخلافة والإمامة والوصية والوراثة تعد الأكثر ألقاً وبريقاً في مسبحة الفكر الأصولي الشيعي وبدونها فإن حبات هذه المسبحة تنفطر واحدة تلو الأخرى وبالتالي فقد لا يجد المذهب الشيعي ما يقوم عليه ، وأضفت أن المذهب الشيعي لم يتجاوز أيضاً محنة الإمام الحسين بن علي وآل بيته – رضوان الله عليهم – ويرون فيها عاملاً إضافياً من عوامل التشرذم التي حلت وتحل بالأمة ... ثم سألتهما معاً : هل الشخصية أو النفسية الشيعية عموماً تفضل العيش في هذا الماضي الذي ولى برجاله وأحداثه عن أن تواجه حقائق الواقع ؟ وبالتالي فهل هي شخصية أو نفسية ذات إكتئاب مزمن ؟

تلقف صديقي وزميلتي سؤالي بشيء من سعة الصدر المشبوب بالصدمة ، وعلقا على كلامي بأقاويل عديدة منها أنه من العبث أو القصور في التفكير - أعتقد أنهما يقصداني - إعتبار الحديث عن الإمامة أو غيرها من المسائل الأصولية في الفكر الشيعي أمراً يثير الخلاف بين جموع المسلمين لأنها مسألة واقعية حالها في ذلك حال موضوع الخلافة التي تطرح مسألة القيادة في الإسلام ، وهي مسألة غاية في الأهمية ، وأكدا أن أساليب معالجة هذه المسائل غالباً ما تكون هي وحدها السبب في إثارة هذه الحساسيات والخلافات وليس صلب المسائل بذاتها ، وأكدا أن الساحة الفكرية تزخر بألوان عديدة ذات أغراض تشويهية للحالة الشيعية ممارسة وإعتقاداً مما يسبب بدوره تشويهاً لمفاهيم الشيعة وتصوراتهم وأن الأمر أهم كثيراً من يُختزل في شكل رأي عابر ، أو نظر غير متبصر... قلت لهما إن الأمة أو الجماعة ذات المناعة الطبيعية إن أرادت أن تبقى حية ثرية بين جموع الأمم الناهضة والجماعات المتطورة عليها أن تتجاوز بعزم وبقوة أزماتها التاريخية ، وخلافاتها المذهبية ، وإن لم يسعها ذلك فلا أقل من محاولة للتوفيق بين حالة ما كان وحالة ما هو كائن معتمدة أول ما تعتمد على حسن نية من سبقها فيما إجتهد فيه من أمر ، فلربما إجتهد هذا فأصاب ، وإجتهد ذاك فأخطأ ، وكلاهما مأجور إن شاء الله ، وعلى المذهب أن يبادر بالبناء فوق تراثه إن هو أراد النهوض واللحاق بركب الأمم والجماعات في طورصعودها ورقيها ، أما أن يبقى هكذا يعيش تحت ظلال من الماضي البعيد أسير حادثة السقيفة من جهة وسجين مشهد كربلاء من جهة أخرى ، ويتستدعي على مسامعه كل حين إصطكاك السيوف وصليلها التي نالت من قمم رموزه العالية ، ويستحضر مشاهد الأشلاء والدماء وشقة الخلاف التي جمعته مع غيره في مشهد كربلائي متكرر فهذا ما أراه أمراً يدعوا إلى الإستغراب وعصياً على الفهم لإنعدام الجدوى الواقعية من وراء كل ذلك ... بعد أخذ ورد ، وبعد أن سرداً لي عشرات الروايات من مسانيد أهل السنة وصحاحهم فيما يعتقدون مؤيداً لوجهة نظرهما في مسائل الولاية والخلافة والإمامة والوصية والوراثة عقبت بالقول : أنه بإستطاعتي أن أزودكما أيضاً بعشرات الروايات في مسانيدكم وكتبكم المعتبرة مما ينقض أو يناقض بعض من أرائكم الجوهرية في هذا الأمر، وأنه من الأفضل ألا نتمترس وراء روايات كانت ومازالت محلاً للطعن من كلا الفريقين ، وأن التقابل عند نقطة ما تكون محل إتفاق هو السبيل الأمثل للوحدة بدلاً من الفرقة .

وبعد المساجلات إنتهى النقاش بعد جدل بيزنطي طويل كما كانت تنتهي في الغالب أكثر نقاشتنا ، وقل في نفسي إن هذه جولة ستعقبها جولات ، ولم أكن أدري أن ما دار بيننا لم يكن سوى الجولة الأخيرة بعد أن أصبح الجفاء سيد موقف العلاقة لاحقاً ، فبعد مكالمات هاتفية روتينية ، ومجاملات في مناسبات إجتماعية خبا وهج علاقة إعتقدت أنها ربما مرشحة للإمتداد طويلاً رغم الأسوار الفكرية التي تفصل فيما بيننا ، ولا ألقي باللوم هنا على أي منهما ، وبالتالي فلن ألوم نفسي ، فيبدو -والله أعلم- أن كل طرف قد إنحاز بشكل ما لبوابة مدرسته وأمسك بمقبضها فيما يعتقد أنه حصنـه الآمن وملاذه الأخير .

إنتهى

2007/04/21

5- شيعة وسنة ... لماذا ؟

تواصلت لقاءاتي مع صديقي المهذب وزميلتي في العمل على نحو ما تقدم ذكره في التدوينات السابقة وذلك لبضع سنوات في شكل لقاءات وحلقات نقاش بسيطة يغلب عليها الأحاديث الودودة الهادئة أكثر من كونها لقاءات فكرية جادة أوعميقة فيما يخص المذهب الشيعي ، ويبدو أنني كنت حريصاً على ألا تتجاوز علاقتي بهما هذا الحد لأنهما كانا معاً يشكلان الواجهة الإنسانية الوحيدة لي للفكر الشيعي ولو من بابه الضيق ، ولم أكن أرغب بالتالي في أن ُأضحي بهذه الواجهة بسهولة لو ُقدر لهذا النقاش أن يخرج عن حدوده المعقولة ، وأذكر كذلك أن كل منا كان يحاول تجنب إستخدام المفردات الحادة أو الأراء المفرطة في صراحتها تجاه المذهب الذي ينتمي إليه كل منا ، وهذه ُسنة رأيتها حميدة في حينه تأسيساً على القاعدة الذهبية القائلة { فلنتعاون على ما إتفقنا عليه ، وليعذر بعضنا بعضاً فيما إختلفنا فيه } ، ومن ناحيتي دأبت على التسلح - إن جاز ليً التعبير- بقراءات خاصة بي بعيداً عن مناهج الكتب التي كانوا يقومان بإهدائها لي بين الفينة والأخرى ، ولا أدري لما شعرت بالإرتياب إزاء هذا الإهداء المتكرر لمجموعة من الكتب والمراجع والكتيبات ، ولكني لم أقف عند أمر ذلك الإرتياب كثيراً إذ أن طبيعة الشك أو التشكك وأخذ الأمورعلى غير محاملها الظاهرة تشكل العنوان الرئيسي لطبيعة عملي كمحام ، فلا شيء مسلم به إلا بعد المراجعة والتدقيق .. فلندع الإرتياب إذن جانباً الآن .. أذكر كذلك أنني كنت حريصاً على ألا ُأطلعهما على مضمون ما أقرأ من كتب أنتقيها بنفسي لأن هذه النوعية من الكتب كان ستصدمهما لا محالة لما فيها من أراء حادة ، ومربكة للغاية لنهج الصداقة التي كانت تجمعنا والتي حرص كل منا بشكل أو بآخر ألا يعكر أحد صفوها أياً كان الداعي وراء ذلك ، لا سيما وأن صديقي الخلوق هذا كان كثيراً ما يردد فكرة وردية حالمة ولكني رأيتها مبتسرة ومفادها أن الخلاف بين الشيعة والسنة لا يختلف في مداه وجوهره عن مدى وجوهر الخلاف الدائر بين أصحاب المذاهب السنية الأربعة المعروفة فيما بين بعضهم البعض ، وهذه الفكرة المتسرعة كانت تختصر حسب رأيي وبسطحية عجيبة أربع عشرة قرناً من الخلافات والقصف المتبادل بين كلا المذهبين من الناحية الفكرية وغيرها ، وقد يكون مبعث هذا القول منه محاولة - ذات نية حسنة أو أمنية عزيزة ربما - للقفز على الجفوة التاريخية بين الفريقين والتي تسببت في ضياع علماً وفكراً وتراثاً فكرياً وفقهياً على الأمة لا ُيقدر بثمن نتيجة التأويلات الفكرية المغرضة بل والعبثية أحياناً علاوة على التفسيرات المجتزئة ، وفي نفس الوقت رأيت وبعد طول إطلاع أنه ليس أشق على المرء من أن يحاول الوقوف على هذه الخلافات أو الشوائب أو حتى محاولة حصرها ، فالأمر أشبه بالسير في حقلاً للألغام لا ُتعرف خارطته ، ولا توجد موانع أو مضادات فكرية معقولة له لاسيما لهذا الصنف غير المتخصص مثل العبد لله ، وإن كان من الممكن بالطبع الوقوف على بعض معالم هذه الخلافات وسماتها الظاهرة ، والغريب أن هذه الخلافات ليست في كثير منها محل إجماع لدى الفريق الواحد من كلا المذهبين ، فالإختلاف قد طال حتى أصل النشأة المذهبية التاريخية للشيعة بل وأصل التسمية أحياناً ، وظل الأمر على هذه الوتيرة الهادئة فيما بيني من ناحية وبين صديقى وزميلتي من ناحية أخرى إلى أن أتى اليوم الذي أصبحت فيه هذه الصداقة والزمالة على المحك عندما طرحت عليهما سؤالاً من شقين بدا لي وكأنه نقطة في نهاية السطر

يُتبع

2007/04/18

4- شيعة وسنة ... لماذا ؟

ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتولى أنت جميع أمرك

تذكرت هذا البيت بعدما إنتهيت من لقائي السابق مع صاحبنا ، فلابد لي إذن - وبدلاً من قضاء الوقت عبثاً في البحث غير المنظم أو السير في طرقات وعرة - أن أجد لقدمي موطئاً يناسب حجمها ومدى حركتها ، ولكني كنت مقتنعاً وقتها أن لا سبيل إلى الولوج إلى النبع الشيعي الخالص إلا من خلال الشيعة أنفسهم إحتكاكاً وتعاملاً وقرباً أكثر منه قراءة محضة وتنظيراً مملاً ، فالتجربة العملية دائماً خير برهان وأنفع دليل ، وبمرور الوقت وتدافع الأيام كونت فكرة مبدئية ومبسطة عن المذهب ، وكان أكثر إهتمامي منصباً على النشأة التاريخية له من مصادر كلا الفريقين ، فبحكم حبي للتاريخ تعلمت منه أنه غالباً ما يضع عناوين ناصعة للحقيقة ، ويسطر لنا وببعض الأمانة أيضاً المقدمات التي كانت ، وعلينا بالتالي أن نستخلص النتائج التي آلت ، فالتاريخ ليس سوى متى ، كيف ، لماذا

سُنـي في الحسينية

تعتبر مجالس العزاء الحسينية أو الحسينيات إختصاراً هي المعين المتجدد والنبع الثقافي الذي لا ينضب لجموع الشيعة عموماً ، ذلك أنها كانت ومازالت تمثل هذ الرابط الممزوج بالعاطفة الجياشة الذي يشد الشيعة شداً إلى مصاب أجدادهم ومصارع أئمتهم ، وبوسعي القول هنا أني لا أعتقد أن مسلماً واحداً ولو لم يكن عميق الإيمان إلا وقد إهتز فؤاده لمصاب آل البيت والسيوف التي جللت قاماتهم ، ففي هذه المجالس يتم إستذكار بل والتذكير بإستشهاد أحد سيدا شباب أهل الجنة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي رضي الله عنهما مع ثلة من أهل بيته في واقعة الطف بكربلاء ، والحسينيات عموماً لا تقام شعائرها فقط في أيام شهر محرم الحرام ( شهر المصاب الجلل ) ولاسيما في العشر الأوائل منه ، وإنما في الغالب هي مجالس متجددة على مدار العام ، ولكنها أشد ما تكون وهجاً في شهر محرم ، حيث يجري بها إلقاء محاضرات في شتى أنواع العلوم الإسلامية من { قرآن – حديث – فقه وغيرها } عن طريق بعض المحاضرين المتخصصين أو ما يصطلح على تسميتهم { بالقراء } ، على أنه وفي جميع الأحوال وأياً كان موضوع المحاضرة أو القراءة فإنه لا يمكن أن ينتهي مجلس العزاء هذا بأي حال من الأحوال دون التعريج على مصاب الإمام الحسين وبعض من آل بيت النبي الأكرم وذلك في مشهد صوتي مؤثر ممزوج ببكاء الخطيب حيناً وبتباكيه أحياناً وبصورة تأخذ بمجامع قلوب المستعمين المفترشين أرضية مجلس العزاء وجنباته ، ويعزف الخطيب بشدة هناك على أوتار الحب والإشفاق المشبوب بالحنان الكامن بقلب كل مسلم لآل البيت ، وحتى الذين هم ممن ليسوا من أتباع المذهب الشيعي { مثلي } وكانت لهم حظوة حضور بعض المجالس فالصورة لم تكن مختلفة كذلك ، فالعين كثيراً ما دمعت وتخبط الفؤاد بين ثنايا الصدرإزاء هذا الخطاب المؤثر والوصف التاريخي شبه الدقيق لهذا المصاب الجلل ، ويبلغ الأمر ذروته في اللحظة التي يبدأ فيها الخطيب برفع عقيرته بالبكاء وصوته بالتحشرج المختلط بهنهناته الشجية عندما يغالبه الدمع وهو يصف اللحظة التي قُتل فيها الإمام الحسين وُجزت رأسه الشريفة ورُفعت على أسنة رماح المنتصر الباغي ، فإذا بالجموع كبيرهم وصغيرهم ، ذكورهم وأناثهم وقد إنخرطوا في بكاء ونواح أقرب إلى العويل وكأنهم يرون بأم أعينهم مقتل الحسين وأهل بيته على شاشة فضية كبيرة بثاً حياً على الهواء مباشرة ، ولم يكن ذلك إلا للأداء الإنساني المؤثر بالغ الإقناع للخطيب ، وتراه ينتقل بهم من مشهد إلى آخر ، ومن صورة إلى أخرى غير متناسي بالطبع أهمية التدرج في نبرة صوته علواً وإنخفاضاً بما يتناسب وطبيعة المشهد الذي يقوم برسمه بمهارة بالغة وحرفية شديدة ، ومن نافلة القول التذكير بأن كثير من الحضور تنتابهم لعضهم حالات أقرب إلى الهستيرية بل وفقدان الوعي أحياناً من فرط ما أصاب نفوسهم من لوعة ، ومآقيهم من دموع ، فإذا ُقضي المجلس بدأ الجميع يتفرق كل إلى وجهته وعلامات الإرهاق الشديد بادية على محياهم دونما حاجة إلى دليل .


خطباء المجالس الحسينية
الوائلي ... نموذجاً


أذكر أني حضرت على مدار سنوات سابقة لكثير من الخطباء في مجالس العزاء الحسينية ، غير أن القليل جداً منهم من بات يحتل مكانة جيدة في ذاكرتي ، ومن هؤلاء واحداً من أعظم الخطباء قاطبة إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق وهو الشيخ الراحل الدكتور / أحمد الوائلي ، رأيته مرة وحيدة عن كثب في إحدى ليالي شهر محرم الحرام بإحدى الحسينيات التي وصلتها وصديقي مبكراً لأحجز لي مكاناً في صفوف المقاعد الوثيرة بجنبات المجلس ، فأنا لا أجيد الجلوس (مقرفصاً على الأرض أبدأ ) .. بعد قليل أتي الوائلي برفقة مستقبليه وجلس قبل خطبته على أحد المقاعد المتناثرة بفخامة على جوانب المجلس وكان يفصلني عنه مقعدين أو ثلاثة من الحضور ، بدأ حديثاً باسماً ودياً مع بعض رفاقه وكبار مستقبليه ثم تناول فنجان من الشاي ، وفجأة رأيته يشعل سيجارة ، إندهشت قليلاً .. أفي هذا المكان ؟ ، ورأي مرافقي وصديقي علامات التعجب على محيايً فبادل تعجبي بضحكة بدت لي مكتومة ولكنها مرسومة بوضوح على وجهه ، المهم أن الشيخ / الوائلي يملك أدوات فريدة ، وبضاعة رائجة لا تعرف الكساد ، وخلطة عجيبة لا يقوى عليها كثير من نظرائه ، فهو خطيباً مفوهاً ، واسع الإطلاع ، غزير المعرفة ، وهو غالباً وفي غير شهر محرم الحرام ما يبدأ خطبته بتفسير بعض من آيات الذكر الحكيم بطريقة قل أن تجدها عند غيره من الخطباء ، فهو كثيراً ما يحلل الآية تحليلاً لغوياً فريداً ويربطها بأصولها التقليدية في التفسير أولاً ، ثم يبدأ ويهدم من هذه الأصول ما شاء له أن يهدم ثم يعيد البناء من جديد وفق التفسيرالذي يراه أكثر ملائمة وعقلية مستنداً في ذلك إلى قواعد المنطق العقلي بشكل يُحسد عليه وكأنه أحد فلاسفة أثينا القدامى ، ولا تكاد تخلو له خطبة دون أن يعرج فيها على أبيات منتقاة بعناية من الشعر العربي المعينة والمناسبة لموضوع تفسيره ، وهو في الحقيقة له ذاكرة شعرية تكادلا ُتبارى ، ومن الطرائف في هذا المجال أنني تأثرت به في طريقة إلقاءه للشعر من كثرة إستماعي إليه ، بل وكنت أحاول جاهداً أن أستنسخ نبرته الصوتية وأنا أردد ذات أبياته وغيرها من أبيات القصائد الأخرى التي أحبها ، الأمر الذي كان محل إستحسان وثناء زوجتي على هذه الطريقة الجديدة والمعبرة في إلقاء الشعر ، ولكن المسكينة لم تكن تعرف مصدرية هذه الطريقة بالطبع ، حتى أتي عليً يوم بالمنزل كنت أستمع فيه إلى محاضرة له بالإذاعة في حضور زوجتي التي تصادف مرورها أثناء سماعي لها ، وإذا بصاحبنا كديدنه يلقي بعض من الأبيات الشعرية في معرض تفسيره لآية ما بطريقته المعهودة الشائقة ، وإذا بزوجتي تلتفت إليً وتقول لي: هذا هو إذن من تقلده ؟ فالطريقة ليست طريقتك ! فعتبت على الشيخ أن ألقى أبياته في هذا الوقت الحرج ، وخاطبت صوته المجلجل قائلاً : الله يسامحك يا شيخ .. فضحتنا .

يُتبع

3- شيعة وسنة ... لماذا ؟

المنابع

كان بابي الخلفي الذي ولجت من خلاله إلى عالم الثقافة الشيعية هو الشيعة أنفسهم وليس مكتباتهم ، يممت وجهي شطر زملائي بالعمل وإذ بي أكتشف - أو هكذا بد لي - أن كثير منهم كانوا من الشيعة ولكن المشكلة كمنت في أن كلهم تقريباً كن من الفتيات .. إذن الأمر يزداد صعوبة .. ورحت أتفحصهن واحدة تلو الأخرى ، وتساءلت : من تراها تكون المرشحة لتكون دليلي إلى هذه الثقافة ؟ كانت هناك فتاة حديثة التعيين تعمل معي كباحثة قانونية بذات القسم الذي أعمل به ، وكانت علاقتنا لا تزيد عن حدود البرتوكول الإجتماعي المعتاد ، كانت قصيرة القامة بعض الشيء ، نحيلة ، متدينة ذات حجاب ، مهذبة ، ولكن متحفظة إلى أقصى الحدود ، كما كانت عيناها تشع بالذكاء إلى الحد الذي رأيته كافياً لإنجاز المهمة ، ولكن كان الأمر بالغ الصعوبة ، فكيف لي أن أفاتحها هكذا وبلا مقدمات في موضوع الشيعة ومنابعهم الثقافية ؟ بدا لي الأمر أشبه بمغامرة شراعية في بحر لا أعرف موعد مده ولا جزره ، فوقفت على الشاطىء متهيباً .. أتقدم خطوة وأتأخر إثنتين

شراكة عمل


أخيراً .. أتي اليوم الذي ُعهد إليً فيه القيام بإجراء تحقيق موسع في مخالفات إدارية مع إحداهن من العاملات بالوزارة ، ورأت مديرة إدارتنا أن ُتكلف من يساعدني في إجراء التحقيق من الزميلات لكي يكتسبن الخبرة ، وكانت زميلتنا هذه هي من وقع عليها الإختيار ..يا لها من فرصة .. بدأت معها جلسات تمهيدية نتفق فيها على خطة إجراء التحقيق والسبيل الأفضل لإنتهاجه ، كانت لم تزل متحفظة ، ولا تنظر إلى بشكل مباشر أبداً ، وبدت وكأنها لم تكن مسرورة لمشاركتي في إجراء هذا التحقيق الأمر الذي شكل لي عامل إستفزاز ، فأردت أن أرد على الإستفزاز بمثله ، وأنا في الحقيقة ماهر في هذا الأمر ، بعد عدة أيام قدمت لي مسودة مذكرة قانونية للشق الذي ُعهد إليها إنجازه للتعليق عليها وإبداء أية ملاحظات تتراءى لي قبل إعتمادها بصورة نهائية .. وتعمدت أن أظهر تبسمي بشكل ساخر كلما مررت على فقرة من مذكرتها التي كانت محررة بخط يدها بشكل إنسيابي رائع ومقروء بوضوح وبلون أزرق لامع وكأن صاحبتنا كانت ترسم بالكلمات ، ( تبين فيما بعد أنها فنانة ذات ريشة ماهرة ) ،لاحظت أن عينيها كانتا مثبتتين إلى الأسفل ، فأردت أن ألفت إنتباهها لتشاركني عملية المراجعة والتدقيق ، فأمسكت بقلمي الأحمر وهممت بالتصحيح والتعقيب كما المدرس الذي ُيلفت عناية طالبته إلى ما يجب أن تقوم به على نحو سليم وكيف لها أن تستفيد ممن يكبرها سناً وخبرة .. كان هذا خياري الوحيد .. هالها وفاجئها كم الملاحظات التي أبديتها لها ، لغوية كانت أو قانونية ، وفي النهاية أعطيتها المسودة التي كانت أشبه بلوحة سريالية من كثرة تداخل اللونين الأحمر والأزرق ، وراقبت ردة فعلها ، فإذا بإحمرار قلمي قد إنتقل بشكل أكثر حدة وإمتقاعاً إلى وجهها ، وأحسست أنها شعرت بالمرارة والإهانة من مسلكي الذي كان مبالغاً فيه بكل صراحة ، ولكنها في النهاية لن تنبس ببنت شفة ، أشفقت عليها ، لكن كما قلت لم يكن لدي خيار آخر ، في اليوم التلي أتت بمذكرتها بعد أن قامت بالتصويبات والتنقيحات المفترضة التي لفت نظرها إليها ، أعطتها لي لمراجعتها بشكل نهائي ولكن هذه المرة مع إبتسامة خجلة وقالت : لا مزيد من التعليقات الحمراء هذه المرة أرجوك ، إذن أصبح للجدار العالي باباً للولوج منه الآن

حلقة نقاش

ومرت الأيام والتحقيق لم ينته بعد ، وإزدادت وتيرة النقاش العام خارج الموضوع المكلفين بإنجازه ، وفجأة دار الحديث حول تفسير بعض من آيات القرآن الكريم وأعطتني تفسيراً مخالفاً لما أعرفه عن آية بعينها ، رويداً رويداً أصبحنا لا نتحدث إلا عن المذهب الشيعي من حيث أصول نشأته الفكرية ورجاله وفقهه ، وأعترف أنها كانت مجادلة ماهرة ، إلا أنني أذكر كذلك أني لم أسترح لبعض إجاباتها ، وبدأت أطرح من خلال قراءاتي الأولية نقاشاً حول القضايا الخلافية بين الفريقين ، فأشارت عليً أن بوسعها تدبير لقاء لي مع أحد معارفهم ممن له تبحر وفهم في هذه الأمور العميقة .. فلربما خشيت صاحبتنا أن تقول ما يُحسب عليها ، هكذا فسرت الأمر ... وبالفعل قابلت هذا الشاب حيث تواعدنا بإحدى المكتبات التي تتيح لقراءها الإطلاع على ما يشاء من كتب داخلها ، إخترنا طاولة للجلوس ، أخذ صاحبنا المقعد المقابل لي مباشرة وبدت وضعية جلوسنا كما لو كنا على وشك البدء في مناظرة ، كان نحيلاً هو الآخر ذو لحية مهندمة بعناية ، ووجه غلبت ُحمرته بياضه ، دمث الأخلاق مهذباً إلى أبعد صورة ، ولم أذكر حتى تاريخ مقابلته أني قابلت شخصاً له من الخصال الحميدة ما لهذا الشخص ، وبعد المقدمات والتعارف سألني : أيوه يا بو محمد .. ماذا تريد أن تعرف ولماذا ؟ أجبته أني ليس لدي الكثير من المعرفة عن الثقافة الشيعة وسأكون ممتناً لو ساعدتني في هذا الأمر أو على الأقل إرشادي إلى ما يجب أن أتبعه من واقع خبرتك ، قال لي أن بوسعه تدبير بعض الكتب والمراجع المناسبة ، قاطعته بالقول أن الكتب متاحة في أي وقت ، وأنا ما أريد سوى النقاش ، أجابني مبتسماً : هذا صحيح الكتب متاحة في أي وقت ولكن النقاش بدون خلفية واسعة من الإطلاع الجيد لن يكون مثمراً ، أصابتني ملاحظته بشكل مباشر ، ويبدو أنه أدرك عمق الإصابة على قسمات وجهي ، فإلتفت بذكاء وقال لي :لا بأس بو محمد .. ما لم تكن تفضل النقاش حول ما تريده وفق مراجعكم أنتم أهل السنة .. إذن فالرجل مطلع واسع الإطلاع .. وبتسرع لا أتورط فيه عادة قلت له : فليكن ، وبدأ الرجل يُحلل وينظر وينتقل من مرجع إلى مرجع ومن قضية إلى أخرى ، وكل ذلك وفق مصادرنا نحن أهل السنة لا مصادر غيرهم ، وبدا لي الرجل كما لو كان ممسكاً بأطراف كل الخيوط ، يحركها كيف يشاء وقتما يشاء ، وعندها فقط أدركت أني قد ورطت نفسي بطلب النقاش ، حاولت بصعوبة إدارة دفة الأمور بطريقة لا أبدو من خلالها كما لو كنت في مناظرة ، لأني على الأقل أعرف من هو الطرف الخاسر فيها .. إتفقنا على موعد جديد وقبل الإنصراف لفت نظري إلى ملاحظة مباغتة فقال لي : بالمناسبة يا بو محمد فإن زميلتك الباحثة القانونية التي رتبت موعدنا سيدة ، قاطعته متعجباً : سيدة !؟ أعلم أنها غير متزوجة ، تبسم .. وقال أنها سيدة بالمفهوم الشيعي يا عزيزي ، إذ أن نسبها يمتد إلى العترة الطاهرة ، فجدتها الكبري حسب سلسلة النسب الشريفة هي البتول فاطمة الزهراء ، أسقط في يدي وتحير جوابي ، فإنصرفت متمتماً ... إن هذا ليوم عصيب

يُتبع

2007/04/17

2- شيعة وسنة ... لماذا ؟

تجاوزت صدمة الأمس وعزمت على الذهاب في رحلة إلى المكتبات في اليوم التالي لسد ثقوب جهلي التي تبدت ليً بلا مواربة ، يممت وجهي صوب إحدى المكتبات العامرة بكتب التراث والتاريخ الإسلامي وبنظرة سريعة على أرفف الكتب أدركت أن بغيتي ليست هنا ، ولكنني قلت لا بأس من سؤال مدير المكتبة لعل وعسى ، وبينما كان صاحبنا منشغلاً في إعداد فاتورة شراء بعض الكتب لأحد الزبائن من مواطني هذا البلد ، وبينما كانت نظارته الطبية منزلقة إلى طرف أنفه تقريباً حتى نظر إلي من فوقها وسائلني بعينيه عن بغيتي .. قلت له : هل عندكم كتب أو مراجع عن الشيعة الإمامية أو ........ ؟ وأتذكر أنني لم أكمل سؤالي حتى جاءتني إجابته على نحو حاسم : نحن لا نبيع مثل هذه الكتب هنا وحول عينيه عني وإنشغل في فاتورته ، وكان صوته مرتفعاً قليلاً إلى الحد جعلني أعتقد أنه يبعث برسالة ما لرواد المكتبة أنه لا يتعاطى هذا النوع من الثقافة في مكتبته ، أو كأنه يبرىء ذمته من شيء ما ، ويبدو أنه أدرك لاحقاً كم الحرج الذي أصابني من جراء إجابته لي على هذا النحو الحاد وعلى مسمع من رواد المكتبة ، حاولت مداراة خجلي بطواف سريع على أمهات الكتب التي تحتل أرفف المكتبة في شموخ ُينبىء عن الكنوز التي تحتويها .. ومازالت حمرة الخجل مستقرة على وجهي رغم أنني حاولت أن أبدو منشغلاً ومنهمكاً في تقصى أطراف كتب المكتبة .

بعد قليل ترك مدير المكتبة مكانه وتبعني متودداً هذه المرة وبصوت بدا لي خافتاً به نبرة المعتذر وقال لي في لهجة عطوفة لا تخلو من جدية ماذا تريد من كتب الشيعة الإمامية يا أخي ؟ قلت له أني مهتم بالقراءة في هذا المذهب هذه الآونة .. قال أن بوسعه تدبير بعض الكتب لي .. تركني ونزل إلى سرداب المكتبة وأحضر لي بعض الكتب القديمة ذوات الأوراق المصفرة التي يعلوها الغبار وبدأ يشرح لي مزايا كل كتاب وترجمة دقيقة لمؤلفه حيث كان الكتاب جميعهم من أهل السنة وأكد لي أن هذه الكتب غير متداولة في الأسواق للصدى والدوي الذي أحدثته عند نشرها ، ولما قلت له أني أريد كتب بأقلام الشيعة أنفسهم ، قال لي إذن من المستحسن أن تذهب إلى مكتباتهم وأنني بالتالي الآن في المكان الخطأ ، ولما بدا لي أن الرجل على وشك الإرتياب بي وجدت أنه من المناسب أن أدفع عن نفسي جريرة لم ُأتهم بها ، فقلت له أنني سني المذهب على أي حال ، وودت فقط أن أطالع كتب القوم بأقلامهم للوقوف على حقيقة مذهبهم حسبما يرونه ويعتقدونه ويؤمنون به .. ولا أدري في الواقع إن كنت قد أفلحت في أن أدفع نفسي الريب التي تبدت في عيون صاحبنا من أنني على وشك التشيع أو شيئاً من هذا القبيل ، ووجدته ينظر إلي مباشرة متجاوزاً حدود نظارته ، وقال لي لا بأس .. في النهاية أفلحت في الحصول منه على عناوين لبعض المكتاب الشيعية ، وترك المكتبة منصرفاً مع وعد مني بالزيارة مجدداً .. في هذا اليوم فقط أدركت - وقبل قراءة أي شيء - مدى وعمق الهوة التي تفصل بين الفريقين ( الشيعة والسنة ) ، ولكني تشجعت على خوض التجربة للنهاية .. قلت في نفسي اليوم في مكتبة سنية ، وغداً في مكتبة شيعية .. لا بأس .. مرحباً أيها التاريخ ! وتفكرت قليلاً وعزمت أنه - وتحاشياً لمزيد من الحرج الذي وقت فيه على مدار يومين متتاليين - فإنه من الأفضل لي ألا أرتاد مكتبة شيعية بشكل مباشر ولكن سألجها مستتراً أي من بابها الخلفي

يُتبع

2007/04/15

1- شيعة وسنة ... لماذا ؟

تحفل مكتبتي بكم غير قليل من كتب الشيعة الإمامية الجعفرية أو الإثنا عشرية كما يُسمون أحياناً ، كما تحفل مكتبتي كذلك بكم لا بأس به ببعض الكتب والمراجع السنية التي تُعتبر مناوئة إلى حد كبير لفكر الشيعة ومذهبهم ، ومن الطريف أني أجمع الكتب المحررة بأقلام الشيعة في رف منفصل عن ذلك الذي أجمع فيه الكتب المناهضة لهم ، ربما لإحداث نقلة على صعيد تنظيم المكتبة وأرففها من ناحية ، وربما من ناحية أخرى لتلاشي الإحتكاك التاريخي والمذهبي بين ُكتاب الفريقين إذا ما ُقدر لسوء التنظيم أن يجمعهم معاً ، فكان الفصل بين الفريقين على الأقل في مكتبتي أمرأ رأيته محموداً ، وأستطيع القول أن معظم قراءاتي في السنوات الأخيرة كانت منصبة على هذه الجانب من الثقافة بين مدرسة الصحابة ومدرسة آل البيت كما يحلو للبعض أن يسمي مصدر وجوهر الفوارق الفكرية بين الفريقين رغم المغالطة التي تنطوي عليها التسمية كما سيتضح من خلال هذه المجموعة من التدوينات التي ستتضمن بعض الخواطر والملاحظات الواقعية التي كانت محل تجربة خاصة بي ، ولا أدري إن كانت فصولها ممتدة حتى كتابة هذه السطور أم أني أوقفتها بفعل ما صار معلوماً لدي من المذهبين بالضرورة .. بداءة فإنني وحتى سن الثلاثين كانت معرفتي بمذهب الشيعة أشبه ما تكون بمعرفة جدتي - رحمها الله - بأسرار الهندسة الوراثية ، فلا درست مذهبهم ولا قرأت عنهم ولا سمعت خطبة جمعة تتناولهم من قريب أو بعيد ولا أدري إن كان هذا تكاسلاً مني أم كان تعتيماً مقصوداً على هذا المذهب ،على كل حال .. وفي أحد أيام شهر يوليه القائظ وقبل عشر سنوات تقريباً إنتقلت للسكنى بإحدى المناطق الهادئة في بلد خليجي حيث كنت أعمل ومازلت هناك ، وإذا بهذه المنطقة يقطنها الكثيرمن الشيعة بل بصورة ملحوظة .. تفقدت المكان ، أعجبني هدوءه ، ولما حل وقت صلاة المغرب تفقدت مساجد الحي ، دخلت أول مسجد قابلني ، لأؤدي صلاة المغرب ، كان المسجد فخماً من الداخل والخارج أشبه ما يكون بكاتدرائيات روما القديمة حيث النقوش والألوان متناغمة كما لو كانت في عرس مقدس ، أولاً بدا لي الأمرغريباً فالصفوف لم تكن منتظمة ولا مكتملة ، وأقيمت الصلاة وبينما إنتهى إمامنا من تلاوة الفاتحة وختمها بـ { والضالين } حتى رفعت عقريتي مؤمناً على دعاءه بقولي { آمين } جلجل صوتي بالمسجد وأدركت أنني الوحيد فيه الذي أمًن على دعاء الإمام ، فكان السكون يلف الجميع ، شعرت بالإستغراب وتساءلت في نفسي .. ماذا يحدث هنا ؟ من طرف خفي أدركت كذلك أنني الوحيد الذي يضع كلتا يديه فوق صدره كما نفعل عادة في صلاتنا ، بينما كان الجميع لا يضعون أيديهم مثلي وإنما متهدلة عمودياً وملتصقة إلى جنوبهم .. إذن هذا عامل إستغراب ثان .. أخيراً ختم الإمام الصلاة فقمت بالتسليم يمنة ويسرة ، وأدركت كذلك أنني الوحيد الذي فعلت ذلك فقد كان من يجاورونني من المصليين ُينهون صلاتهم بالتسليم عن طريق تحريك أيديهم إلى أعلى بحركة بدت لي غريبة .. الدهشة مستمرة إذن .. لكن هذا لم يكن كل شيء ، فبينما هممت بالخروج وإذ الجمع من أمامي ومن خلفي يستعدون لأداء صلاة العشاء تساءلت في نفسي ولما الجمع بين الصلاتين ؟ فلسنا على سفر ولا مطر ولا خوف ولا حرب ، شعرت بالحرج فلم يكن بوسعي لا التقدم ولا التأخر فثبت في مكاني لا ألوي على شيء حتى ُقضيت صلاة العشاء ، وبعد إنقضاء الصلاة تعمقت الدهشة داخلي والشعور بالإغتراب صار سيد موقفي ، جلست في أحدى زوايا المسجد قرب باب الخروج فكانت عيون الخارجين ترمقني بنظرات صاحب البيت إذا ما رأى غريباً يحوم حوله .. خرجت من المسجد لإلقاء نظرة خارجية عليه لعلي أبدد بعض من التشويش الذي لفني ، فإذا المسجد شيعي المظهر بقببه الخضراء كما أيقنت ذلك من أسم مؤسسه وبانيه والذي ينتمي إلى واحدة من كبريات العائلات الشيعية بهذا البلد ..... وتوالت الأحداث بشكل مثير
يُتبع

2007/04/11

مدون أحادي الجانب

رغم أن التدوين الإلكتروني بصيغته الراهنة يعد إلى حد كبير نسخة مطورة للمذكرات الشخصية التي يعتاد البعض على كتابتها بشكل منتظم لاسيما إذا ألمت بهم ملمة أو وقعت لهم من الأحداث أو حتى الطرائف ما يستأهل تدوينها للذكرى والإعتبار ، وحيث أنني من المهوسين بنظرية مفادها أن كل جديد حتماً لا يأتي إلا على حساب قيمة ما فإني أعتقد لهذا السبب أن شكل المذكرات الشخصية بصيغتها الورقية - إن صح التعبير- سيبقى أكثر وهجاً ومتعة لاسيما لصنف الكلاسيكيين من أصحاب المذكرات والرؤى ، ولعل من بدأ منهم تجربة التدوين الإلكتروني كالعبد لله قد شعر ببعض الغربة لإختلاف آليات التدوين بل ومضمونه .

فنحن في مذكراتنا الشخصية بصيغتها التقليدية كنا نكتب ونعلم بأن لا أحداً ما - على الأقل في حياتنا - سيقرأ أي من هذه المذكرات ، وأننا بالضرورة القراء الوحيدون لما نخط ، وكم تكون متعتنا إذا إنقضت سنون ثم نعاود قراءة ما خططناه بأيدينا مرة بعد مرة حيث نستلهم عندئذ مواضع العبرة لما كان ولما هو كائن الآن ، وبهذه المثابة تكون المذكرات التقليدية أكثر صدقاً وأعمق من حيث عفويتها وتلقائيتها ، أما التدوين الإلكتروني فهناك العديد من المحاذير الذاتية وإعتبارات الملائمة الموضوعية واللفظية ما يجعل المرء فينا يفكر ملياً قبل طرح موضوع ما على مدونته ، أو البوح برأى معين في قضية ما ، ولعل الأمر يعود في سبب منه إلى إعتبارات كوننا منتمون إلى هذه البقعة من الكون حيث الشرق بعاداته وتقاليده الذي عودنا الكتمان بدلاً من البوح ، وعودنا الدمع بدلاً من البكاء ، وعودنا أن يكون صراخنا داخلياً لا أن يكون على ملء من قراء المدونين ، وغيرهم من المتطفلين الذين يراقبون دلالات الحروف ومرامي المعاني والكلمات ويتصيدون لك ما لم يكن في حسبانك فإذا بك في النهاية متهم بما لم تفعل وموضع الشبهة بما لم تقترف يداك ، أما مدوناتنا الورقية فهي حبيسة أدراجنا .. أمينة على أسرارنا .. متفاعلة مع الصادق والكامن من مشاعرنا .. شاهدة بذاتها - وليس أحد سواها - على إحباطاتنا ونجاحاتنا

كما أن من بين فوارق التدوين الورقي والإلكتروني أمراً لا يخلو من طرافة كان محل تجربة ذاتية بي ، فأنا من أصحاب الخطوط الجيدة ويقال عنها أنها منمقة ولطيفة ، كان هذا في الوقت الذي كنت أستخدم فيه قلمي وقرطاسي طوال الوقت ، فلما إقتحم الحاسوب حياتنا وإستبدلنا بأقلامنا أزرار الكيبورد الصماء بدأ حس الكتابة باليد يخبو أو كاد وبدت الأقلام في أيدينا مرتعشة وجلة من عمق الجفوة التي لحقت بها وإن شئت فقل الصدأ الذي إعترى أناملنا جراء عدم إستخدام أقلامنا زمناً طويلاً ، وهذا سبباً إضافياً يجعلني أؤمن بالنظرية سالفة الذكر والأمثلة على ذلك كثيرة ، وعليه فإني مازلت منحازاً للتدوين الكلاسيكي بأسنان أقلامي المدببة والملونة على أوراقي التي ستظل وفية لي رغم صفرتها وذبولها وعلى الرغم كذلك من وجود عديد المدونات الإلكترونية الرائعة على سماء النت الملبدة بكل طعم ولون أرى كثيره غير مستساغاً ولا مهضوماً

2007/04/04

4- عندما يكون للشاطىء إبنة

بنت الشاطىء والعقاد ثانية

توجه مندوب من جريدة الجمهورية إلى الأستاذ العقاد يسأله عن آخر مؤلفاته ، فأجاب : كتاب (الإنسان في القرأن) وهو تكملة كتاب (المرأة في القرآن) ، ولما ذكر له المندوب أن هذا الكتاب أغضب سيدات كثيرات ، رد العقاد ( اللي زعلوا دول مش ستات ، دول منتسبات لعالم النساء فقط ، وسبب زعلهم الأصلي هو عدم فهمهم لنفسية المرأة ) ، فقال له المندوب إنه تحامل منك على المرآة ، فأجاب الكاتب الكبير ( أبداً لكن هذه رأيي .. الرأي الثابت والحقيقي .. رأي الطبيعة والخالق ) وبعد أن أوردت بنت الشاطىء هذه المقدمة قالت : { رأي الخالق ؟! يالها من كبيرة !! أفيضاف إلى الخالق سبحانه رأي ؟! وممن ؟! من كاتب مجمعي يؤلف الكتب الإسلامية ، وتحمل المجلة الرسمية للأزهر إسمه اللامع على غلافها ؟! } ، ثم أردفت تقول إن الرأي فيما نعرف وتعرف اللغة لا يكون إلا عن تدبر وإستحضار للمقدمات ، وإجالة الخاطر فيها ، ومن ثم لم يجز أن يُضاف إلى الخالق الحكيم ، كما لم يجز أن تُضاف إليه المعرفة ، أو يوصف بها ، وإنما هو تعالى الحكيم لا العارف !! ، وقالت أن الأب لامانس اليسوعي قد أدرك هذا في كتابه (الفروق الفردية) وأدرك معه لماذا نقول علم الله ولا نقول معرفة الله ، فكيف يغيب عن إدراك كاتب مسلم عضو في المجمع اللغوي يقول عنه مريدوه إن علمه لو وُزع على مئات من أساتذة الجامعة صاروا علماء ؟! ..... فرد الأستاذ العقاد وأورد آيات تُسند الرأي إلى الله فقال أن المعلوم لكل قارىء يفهم معنى القرآن الكريم أن كل كلمة تُنسب إلى الخالق لها تفسير غير تفسيرها بالنسبة إلى المخلوق ، وكذلك نفهم الوجه والعين واليد ، ونفهم المكر حين يُنسب إلى الله في قوله تعالى { ومكروا ومكر الله } أو قوله تعالى { ومكروا مكرا ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } فليس بالممتنع إذن أن يُنسب الرأي إلى الله بمعنى البصر أو بمعنى الحكم والتقدير أو بكل معنى من المعاني نفهمه على الوجه الذي يناسب مقام الخالق ، وإن ورد في عبارة واحدة منسوباً إلى الله وإلى الرسول وإلى المؤمنين وليسوا في الرأي - على أي معني من المعاني - بسواء ، ولولا أن السيدة (يقصد بنت الشاطىء) مسلطة على نفسها لما إنساقت مرة بعد مرة إلى هذه اللجاجة التي علم من يقرؤنها حقيقة ما تنطوي عليه ولم يبق أحد ولا إحدى يفهم أنها مناقشة بريئة تتحرى مواقع الصواب والموافقة كما تتحرى مواضع الخطأ والإنتقاد ..... لكن بنت الشاطى تقول له ( كلا ليس الأمر هذا يا أستاذ عقاد ، فالأمر أولاً أنك لا تملك أن تطلق على الله ما لم يأذن به الله ، والأمر ثانياً أن التأويل إنما يكون لما ورد به القرآن وكان موهماً كما في الجوارح والحركات ؟ ونحن المختصين في تفسير النص القرآني بيانياً لا يجوز عندنا أن نفسر مفردات القرآن بمصطلحات متأخرة أو نحتكم فيه إلى دلالات لا يأذن بها الإستعمال القرآني نفسه ، فحين صارت الحكمة مثلاً تطلق في عصور متأخرة على الفلسفة لم يجز عندنا أن نفسر قوله تعالى {وهو العليم الحكيم} ، بأنه العليم الفيلسوف ، وحين صار الثراء يُستعمل في الغنى لم يجز عندنا أن نفسر قوله تعالى {والله غني حميد} بأنه ثري أو مليونير، ولو لم يكن في الرأي - بمعني المذهب - إلا انه يأتي عن تدبر وترجيح أو إعتقاد لأحد النقيضين عن غلبة ظن لكفى بهذا الإيهام مانعاً لعربي يحسن العربية ومسلم يعرف الإسلام من إضافة الرأي إلى الخالق في مجال الإقناع بصواب رأي العقاد في المرأة ، وتستطرد بنت الشاطىء فتقول أنه يفوت المجمعي الشهير بمطالعاته أن أحداً - لمن يصلح أن يُخاطب به - يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر ، وهذا مدار قوة النفي به وشموله ، فإذا قلت لم يبق أحد هنا ، كان النفي عاماً شاملاً للمفرد والجمع ، والمؤنت والمذكر ، وبالعربية الفصحى تقول أحد من النساء .. لا إحدى منهن ، ومرجعي - أنا الجاهلة بالعربية والإسلام - كتاب العربية الأكبر ومعجزة الإسلام الخالدة ، فالله تعالى يقول في سورة الأحزاب {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} ..... وكان رد الأستاذ العقاد : قولوا للست المفسرة هل قال الأب لامانس اليسوعي أن (أحد النساء) كلام يجوز في لغته العربية ، وقولوا لها ما تفسير الأب لامانس لقوله تعالى { إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين} ، هل يفسره بأن (أحد) أو( إحدى) سواء في لغته ولغتها ...ومرة أخرى في الختام لا أحد ولا إحدى يقول هذا الكلام .....وقد علقت بنت الشاطىء على قول العقاد في مجلة المصور ( أنا فعلاً طاغية أدب ، وأنا لا أستبيح لنفسي أن أسترجل على بنت الشاطىء فألقمها حجراً وهي تعلم أني قادر على ذلك ) ..... فردت بنت الشاطىء ( لا والله ما أعلم أنك قادرعلى شيء من ذلك ولا يستطيع أن يُلقم مثلي حجراً من بيته من زجاج ، وإنما الذي أعلمه أن هذا الأسلوب في الخصومة الأدبية لن يجوز في عصر الإنسان الذي غزا الفضاء بقوة عقله وكرامة إنسانيته وصحة وجدانه وضميره ، لا بعضلات مسترجل وأحجار عملاق عاق للبشرية)

*****

بعد التدوينات الأربعة السابقة لابد وأننا ندرك الآن لما وضعتها مصنفة في باب ( بنات زمان ) ضمن هذه المدونة ... نعم إنهن بنات زمان ولسن بنات اليوم ، فأنتم وأنتن أدرى بحالهن ، إذن فيما كان الداعي لإستحضار ما فات ، وإستنبات ما إنطمر ؟ ... إنه الأمل على أي حال في أن تعاود بنات اليوم قراءة سيرة بنات الأمس ، ويتلمسن مواضع أخواتهن وأمهاتهن اللائي سبقنهن في دروب الحياة ومسالك الزمن ، فقد يكون للشاطىء إبنة جديدة ... والنهاية لا يفوتني أن أخص بالشكر بناتي الثلاثة وأمهن اللائي كن لهن الفضل في فكرة هذه التدوينات عن حسنة الذكر والذوق بنت الشاطىء رحمها الله تعالى

إنتهى

2007/04/03

3- عندما يكون للشاطىء إبنة

معارك أدبية

بنت الشاطىء وأحمد حسن الزيات

صدر كتاب ( دفاع عن البلاغة ) للأستاذ / أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الشهيرة وذلك في عام 1945 فتصدت له بنت الشاطىء بنقد لاذع وتناولت مآخذها على الكتاب ومن بين ما قالته : يعد فضولاً أن نتحدث عن المشقة البالغة التي يحتملها الأستاذ الزيات في معاناة الكتابة ونحت الألفاظ وتنميق العبارات ، فذلك هو طابع الأستاذ فيما يكتب ، ولكن يبدو أن عناية الكاتب بألفاظه قد صرفته عن رعاية الدقة في معانيه والصحة في أحكامه ، وتستطرد قائلة أن الكاتب ينسى أن الإلهام سر الفن ، ويرى العكوف البطىء على صنعة الكلام ونحت الألفاظ سر جماله ، فمتى كان بليد الذهن مثال الفنان ؟ ومتى كان البطىء الموسوس مثال المفكر ؟ وتواصل بنت الشاطىء نقدها للزيات فتقول بأن الأستاذ الزيات ُيعرف البلاغة في معناها الشامل بأنها ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة والكلام ، ولو أخذنا بمنطق الضبط في التعريف لكان التنويم المغناطيسي والرقية والعزيمة ونحوها مما يدخل في باب البلاغة ، لأنها جميعاً تدخل وتؤثر في العقل والقلب من طريق الكتابة والكلام ..... ولم يحاول الزيات الرد بما يقيم الحجة على ما كتب ، وإنما إكتفى بما ذكره الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا الذي طالب بأن يدرس الكتاب في الجامعات ، وأشار كذلك إلى ما قاله الأستاذان العقاد ، والمازني في الكتاب ، ثم قام بالتعريض ببنت الشاطىء فذكر أنها غير قادرة على فهم هذه الموضوعات ولكن في عبارات عنيفة وأنحى على الأمناء الذين يجعلون من أنفسهم مسئولين عن البلاغة ثم أردف يقول { ولو كنت أعرف السيدة بنت الشاطىء لقلت لها ليس من طبعك ولا في وسعك يا سيدتي الرد النزيه ، وليس من طبعي ولا في وسعي الرد السفيه ، فردي هذا القلم الغليظ إلى صاحبه ، وإستردي قلمك الرقيق من سالبه ، وثقي بأن الفرق بين الكلام في الشواطىء والحقول ، وبين الكلام في ثمار القرائح والعقول ، كالفرق بين تكسير الجرة وبين تحطيم الذرة } ومن هنا ندرك أن النقد كان مرده إغفال الأستاذ الزيات لحاجة في نفسه جهود الأستاذ الخولي في ميدان البلاغة وأن الرد لم يكن إلا وسيلة للنيل من بنت الشاطىء ومن الأستاذ الخولي معاً ، وفيه إتهام بتستر الأستاذ الخولي خلف تلميذته وزوجته بنت الشاطىء



بنت الشاطىء والعقاد


صدر كتاب { المرأة في القرآن الكريم } للأستاذ العقاد فتصدت له بنت الشاطىء تأخذ عليه ما جاء في كتابه من أنه نقل عشرات من الصفحات متتالية ومتتابعة من كتب له سابقة وأنه قد حشد كل براعة منطقه - وهو في قمة نضجه - ليقنع قراءه بأن المرأة قذرة سافلة متخلفة ناقصة ، لا خلق لها ولا ضمير وأوردت أمثلته الدالة على تفوق الرجال فيما هو من شأن النساء كالطبخ ، والتفصيل ، والتجميل ، والمراثي ، والرقص ، ونفيه عن المرأة أخص الصفات الأنثوية كالحياء ، والحنان ، والنظافة ، وقالت بنت الشاطىء إن كلاماً كهذا يجوز أن يصدر عنه في كتاب يحمل عنواناً آخر ، أما أن يُذاع في الناس بعنوان المرأة في القرآن الكريم ، فهذا لا يجوز ، ثم ختمت مقالتها النقدية بالقول ولا أزيد بل ألوذ بما لذت به حين قرأت هذا الكتاب فأقول : اللهم أني صائمة ... وكان رد الأستاذ العقاد إن السيدة بنت الشاطىء لا تحوجنا إلى جواب ، لأنها هي بذاتها جوابنا المفحم ، ولو أننا بحثنا عن رد عليها أقوى منها على إقناعها لأعيتنا الردود ، فمن الخير أن يُصان الكلام لغير هذا المجال ، ولم يتعرض لمآخذها عليه مما زاد في ثورتها ، فكتبت تنكر منه تجريدها من لقبها الجامعي على حين هنأ زميلاتها بنيلهن هذا اللقب ، ثم إنتقلت إلى أن الأستاذ العقاد شديد الولع بقصة إغواء حواء لأدم وإخراجهما من الجنة والتي كتبها منذ أعوام في كتابه { هذه الشجرة } ، ثم عاد فنقلها إلى كتابه المرأة في القرآن الكريم ، وزعم أنها وردت في كتب الأديان بما فيها الدين الإسلامي ، مع أنه يعلم أن القرآن الكريم لم يُسند الغواية قط إلى حواء ، وليس فيه إشارة من قريب أو من بعيد إلى أنها هي التي أغرت أدم فأكل من الشجرة المحرمة ، وإذا كان بعض المفسرين قد أسندوا الغواية والعصيان إلى حواء فمرجعهم فيها التوراة لا القرآن ، وقد نقلها إليهم وهب بن منبه وأمثاله من اليهود الذين أسلموا وحرصوا على أن يحشوا أذهان المسلمين بإسرائيلياتهم ، كما أخذت عليه بنت الشاطىء قوله أن الرغبة الجنسية في المرأة تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها ، ولا بد أن تكون نفاية ضائعة حقاً تلك المرأة التي تقصر بها آمالها الأنثوية دون التطلع إلى منزلة ربة الدار وأم البنين ، فقالت كيف نحكم على الجنس كله بنفاية ضائعة منه ؟ يجوز ... ولكن عن الأستاذ العقاد وحده ، ثم كيف يحكم على الفصيلة كلها بآخر واحدة فيها ثم أردفت لكني لا أريد أن أحرجه بالرد على مثلي ، إذ ليس أقسى على عملاق أن يضطر إلى منازلة سيدة يقول أنها لا تُحسن إلا العويل والبكاء ،، كما لا أريد أن أجشمه مشقة قطع الطريق الطويل بين مكانه العالي على قمة جنسه المتفوق الممتاز ومكاني الهابط في آخر صف النساء ... وأراد أحد المنتسبين للعقاد أن يجد مجالاً للقول فأغلقت بنت الشاطىء باب الجدل بقولها بقيت كلمة أرجوا أن تحسم هذا الموقف الكريه وهي أن كل ما يقوله الكاتب وغيره من خير في الرجال فهو منا وإلينا ، لأنهم أبناؤنا وأزواجنا وإخوتنا وأباؤنا ، وكل شر يقال في المرأة فهو حتماً مردود إلى الرجل ، لأن الدنيا لم تعرف رجلاً لم تلده أنثى

يُتبع

2- عندما يكون للشاطىء إبنة

بنت الشاطىء زوجة

تتواصل الرحلة مع بنت الشاطىء التي إتصلت بجماعة الديوان العربي وهي جماعة ثقافية يشرف عليها الأستاذ / أمين الخولي وتقوم برحلات إلى أماكن مختلفة بالبلاد ، حيث زاد هذا النشاط من إرتباط الطلاب بأساتذتهم ، ولقد كان الأستاذ الخولي يعلن في مجالسه عن ضرورة الرجوع إلى طريقة العامود في المسجد بحيث يختار الطلاب أساتذتهم ، ويكون تقدير الأستاذ بكثرة طلبته لا بأقدميته ، وهذا دون شك يعبر عن مدى إعتزاز الأستاذ بطلابه وعن التلاحم الفكري والنفسي بينهما ، ثم يذهب الخولي في رحلة خاصة إلى شبرا بخوم ويلتقي بوالدة بنت الشاطىء التي أوكلت إليه رعايتها ، وهناك تقرأ التلميذة النجيبة على أستاذها مذكرته في أدب البحث والمناظرة وتعلق عليها بخطها { قرأت هذه بدارنا في شبرا بخوم لأربع عشرة ليلة بقين من ذي الحجة عام ستين وثلاثمائة بعد الألف ، قرأته على شيخي ومصنفه وهو يسمع } ثم توقع : عائشة بنت محمد بن علي ... وتزداد الرابطة قوة وقد أصبحت التلميذة معيدة يساومها الأستاذ /أحمد أمين لتكون من كتاب الثقافة وعلى مقربة منه ، لكن المعيدة لا تجد إلا في الخولي الأستاذ والموجه والزميل والصديق وتشعر نحوه بمثل ما يشعر به المريد نحو شيخه ، ثم تمتنع عن حضور محاضرات الأستاذ أحمد أمين الذي يحدثها في ذلك فتقول له أحضر حيث أستفيد ، ويغضب الأستاذ العميد غضباً شديداً ويطلب خروجها من بيت الطالبات ويقول لوزير المعارف نجيب الهلالي أنا أو هي ، وأحدثت بذلك حدثاً فيما بين أمين الخولي وأحمد أمين بعد أن كانا على وفاق ... ثم يأتي وكيل للنيابة يُدعى الأستاذ / علي أبو المجد فيوسط الأستاذ الخولي لدى بنت الشاطىء من أجل الزواج بها ، فإمتنعت وطال إمتناعها ، حتى سألها الأستاذ الخولي في ذلك فقالت له : أنت الذي تقف بيني وبينه ، فقال لها لا تنسي أني رائح وأنت غادية ، فقالت أفضل أن أكون أرملة الخولي على أن أكون زوجة علي أبو المجد ... فقد عز على المريدة أن تستغني عن شيخها بعد تلك السنوات الطوال من التفاهم والتجاوب العقلي والإنسجام الروحي ، وتم الزواج بينهما بالفعل في عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعون ، ووقفت الأمينة إلى جانب الأمين تحمل ما يحمل من أوزار المجتمع الثقافي في الجامعة وخارجها حتى في خضم المعارك الأدبية التي كانت سمة هذه الحقبة النيرة من تاريخ مصر الثقافي

يُتبع

2007/04/02

1- عندما يكون للشاطىء إبنة


مقالة مهداة بداءة لسيدات وبنات الحقبة الراهنة ... لعل وعسى
فلنترك بنت الشاطىء الآن ترسم الإطار من بعيد

بنت الشاطىء والأستاذ الخولي

تقول عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطىء " إبنة شبرا بخوم ... بعد خمس سنوات من المكابدة والعذاب وصلت إلى باب الجامعة أحمل شهادة البكالوريا أدبي التي ظفرت بها عام 1934 مع قلة من الناجحين من منازلهم ، وهناك ألفيت الباب موصداً في وجهي بقضبان من فولاذ ، وفي العام التالي إلتحقت بكلية الآداب على أساس أن أحضر لكل أستاذ عدداً من الدروس يكفي لإثبات وجودي ، وكان يقيني آنذاك أن الأمر بالنسبة للغة العربية أيسر من أن أشغل نفسي به ، فكان يكفي - حسب تصوري- أن أحضر درساً واحداً لكل أستاذ - ثم أفرغ منه يوم الإمتحان ، لكن فريقاً من زملائي تحدوني أن أستغني عن درس واحد من دروس الأستاذ / أمين الخولي في البلاغة والتفسير على مدى السنوات الأربع ، فكانت أداري شعوري بالرثاء لضعفهم وأقابل تحديهم بنوع من الإستخفاف ، حيث قضيت عاماً بأكمله سادرة في أوهام غروري بما عندي من بضاعة القوم ، مباهية بقديمي الأصيل الذي ما تصورت أن الأستاذ الخولي يمكن أن يضيف إليه جديداً من عنده ، وكان حصاد ذلك العام عزلة نفسية وفكرية لي من هذه الجامعة التي كانت تلوح لي من بعيد { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } وإنتظرت موعدي معه لألقاه في درسه الأول للقرآن بالسنة الثانية وهاجس خفي يلقي في يقيني أنه اللقاء الأول الحاسم الذي تتم به التجربة حيث يبدأ منه إنطلاق خطواتي على معارج الطريق الواصل إلى الحق بعد أن تنجاب من الأفق سحب الوهم وتتكشف ظلال السراب ، وفي إنتظار الموعد المرتقب عكفت طوال أشهر الصيف على مراجعة ما في مكتبة والدي من ذخائر علوم القرآن والبلاغة إستعداداً للقائه وقد زين لي الغرور أني بإستيعاب تلك الكنوز أكون نداً لهذا الأستاذ الذي حسبته بهر تلاميذه من نبعنا الذي ُحجبوا عنه ، ودخل الأستاذ الخولي بسمته المهيب المفرد فألقى علينا التحية وإقترح لكي نتعارف أن يعرض علينا مباحث المادة المقرر علينا دراستها من علوم القرآن ، ولكل طلب أن يختار مبحثاً منها يعده ويعرضه للمناقشة ، وبادرت فأعلنت إختياري للموضوع الأول ، وعاد الأستاذ يسأل كل طالب منا عن الوقت الذي يحتاج إليه في إعداد بحثه فأجبت في عناد وشموخ .. يكفيني يوماً أو بعض يوم ، ولم يفتن أن الأستاذ رآني تورطت في هذا التعجل فكأني خشيت أن يأخذ عني فكرة خاطئة ، وقلت أسأله مدللة بما أملك من ذخائر : هل يكفيني أن أراجع في موضوعي كتب الأتقان ، واللباب للسيوطي ، والبرهان للزركشي ، مع الإستئناس بتفسير بن جرير الطبري ؟ فأجابني بأن كتاباً واحداً يكفي لو أنك عرفت كيف تقرأين. ثم بادرته قائلة : ما ذكرت هذه الكتب إلا لأنني قرأتها وإستوعبت ما فيها ، وإنما كان سؤالي عن مصادر أجنبية ، ظننت أن الأستاذ قد يضيفها إلى مراجعي فأجابني : لو أدركت الفرق بين المصادر والمراجع لما تورطتي في هذا السؤال... وتحيرت لا أملك سؤلاً ولا رداً ، وتابعت الإصغاء إلى الأستاذ وهو يلقي علينا مبادىء منهجه حريصة على ألا تفوتني كلمة مما يقول ، وإنجلى ما حسبته سراباً ، فإذا الجامعة تعطيني من جديدها ما لم يخطر لي قط على بال ، وإذ القديم الذي جئتها به يجلوه المنهج فيمنحه روح الحياة وحس العصر ، وإنتهت المرحلة الجامعية الأولى ولم يبق لي من زهو الطموح إلا إدراكي لحاجتي أن أتعلم وتطلعي إلى أن أظل ما عشت تلميذة لهذا الأستاذ الذي علمني كيف أقرأ .

من كتاب : هجمة علمانية جديدة ومحاكمة النص القرآني - د./ كامل سعفان .. بتصرف

يُتبع

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة