2007/04/18

4- شيعة وسنة ... لماذا ؟

ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتولى أنت جميع أمرك

تذكرت هذا البيت بعدما إنتهيت من لقائي السابق مع صاحبنا ، فلابد لي إذن - وبدلاً من قضاء الوقت عبثاً في البحث غير المنظم أو السير في طرقات وعرة - أن أجد لقدمي موطئاً يناسب حجمها ومدى حركتها ، ولكني كنت مقتنعاً وقتها أن لا سبيل إلى الولوج إلى النبع الشيعي الخالص إلا من خلال الشيعة أنفسهم إحتكاكاً وتعاملاً وقرباً أكثر منه قراءة محضة وتنظيراً مملاً ، فالتجربة العملية دائماً خير برهان وأنفع دليل ، وبمرور الوقت وتدافع الأيام كونت فكرة مبدئية ومبسطة عن المذهب ، وكان أكثر إهتمامي منصباً على النشأة التاريخية له من مصادر كلا الفريقين ، فبحكم حبي للتاريخ تعلمت منه أنه غالباً ما يضع عناوين ناصعة للحقيقة ، ويسطر لنا وببعض الأمانة أيضاً المقدمات التي كانت ، وعلينا بالتالي أن نستخلص النتائج التي آلت ، فالتاريخ ليس سوى متى ، كيف ، لماذا

سُنـي في الحسينية

تعتبر مجالس العزاء الحسينية أو الحسينيات إختصاراً هي المعين المتجدد والنبع الثقافي الذي لا ينضب لجموع الشيعة عموماً ، ذلك أنها كانت ومازالت تمثل هذ الرابط الممزوج بالعاطفة الجياشة الذي يشد الشيعة شداً إلى مصاب أجدادهم ومصارع أئمتهم ، وبوسعي القول هنا أني لا أعتقد أن مسلماً واحداً ولو لم يكن عميق الإيمان إلا وقد إهتز فؤاده لمصاب آل البيت والسيوف التي جللت قاماتهم ، ففي هذه المجالس يتم إستذكار بل والتذكير بإستشهاد أحد سيدا شباب أهل الجنة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي رضي الله عنهما مع ثلة من أهل بيته في واقعة الطف بكربلاء ، والحسينيات عموماً لا تقام شعائرها فقط في أيام شهر محرم الحرام ( شهر المصاب الجلل ) ولاسيما في العشر الأوائل منه ، وإنما في الغالب هي مجالس متجددة على مدار العام ، ولكنها أشد ما تكون وهجاً في شهر محرم ، حيث يجري بها إلقاء محاضرات في شتى أنواع العلوم الإسلامية من { قرآن – حديث – فقه وغيرها } عن طريق بعض المحاضرين المتخصصين أو ما يصطلح على تسميتهم { بالقراء } ، على أنه وفي جميع الأحوال وأياً كان موضوع المحاضرة أو القراءة فإنه لا يمكن أن ينتهي مجلس العزاء هذا بأي حال من الأحوال دون التعريج على مصاب الإمام الحسين وبعض من آل بيت النبي الأكرم وذلك في مشهد صوتي مؤثر ممزوج ببكاء الخطيب حيناً وبتباكيه أحياناً وبصورة تأخذ بمجامع قلوب المستعمين المفترشين أرضية مجلس العزاء وجنباته ، ويعزف الخطيب بشدة هناك على أوتار الحب والإشفاق المشبوب بالحنان الكامن بقلب كل مسلم لآل البيت ، وحتى الذين هم ممن ليسوا من أتباع المذهب الشيعي { مثلي } وكانت لهم حظوة حضور بعض المجالس فالصورة لم تكن مختلفة كذلك ، فالعين كثيراً ما دمعت وتخبط الفؤاد بين ثنايا الصدرإزاء هذا الخطاب المؤثر والوصف التاريخي شبه الدقيق لهذا المصاب الجلل ، ويبلغ الأمر ذروته في اللحظة التي يبدأ فيها الخطيب برفع عقيرته بالبكاء وصوته بالتحشرج المختلط بهنهناته الشجية عندما يغالبه الدمع وهو يصف اللحظة التي قُتل فيها الإمام الحسين وُجزت رأسه الشريفة ورُفعت على أسنة رماح المنتصر الباغي ، فإذا بالجموع كبيرهم وصغيرهم ، ذكورهم وأناثهم وقد إنخرطوا في بكاء ونواح أقرب إلى العويل وكأنهم يرون بأم أعينهم مقتل الحسين وأهل بيته على شاشة فضية كبيرة بثاً حياً على الهواء مباشرة ، ولم يكن ذلك إلا للأداء الإنساني المؤثر بالغ الإقناع للخطيب ، وتراه ينتقل بهم من مشهد إلى آخر ، ومن صورة إلى أخرى غير متناسي بالطبع أهمية التدرج في نبرة صوته علواً وإنخفاضاً بما يتناسب وطبيعة المشهد الذي يقوم برسمه بمهارة بالغة وحرفية شديدة ، ومن نافلة القول التذكير بأن كثير من الحضور تنتابهم لعضهم حالات أقرب إلى الهستيرية بل وفقدان الوعي أحياناً من فرط ما أصاب نفوسهم من لوعة ، ومآقيهم من دموع ، فإذا ُقضي المجلس بدأ الجميع يتفرق كل إلى وجهته وعلامات الإرهاق الشديد بادية على محياهم دونما حاجة إلى دليل .


خطباء المجالس الحسينية
الوائلي ... نموذجاً


أذكر أني حضرت على مدار سنوات سابقة لكثير من الخطباء في مجالس العزاء الحسينية ، غير أن القليل جداً منهم من بات يحتل مكانة جيدة في ذاكرتي ، ومن هؤلاء واحداً من أعظم الخطباء قاطبة إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق وهو الشيخ الراحل الدكتور / أحمد الوائلي ، رأيته مرة وحيدة عن كثب في إحدى ليالي شهر محرم الحرام بإحدى الحسينيات التي وصلتها وصديقي مبكراً لأحجز لي مكاناً في صفوف المقاعد الوثيرة بجنبات المجلس ، فأنا لا أجيد الجلوس (مقرفصاً على الأرض أبدأ ) .. بعد قليل أتي الوائلي برفقة مستقبليه وجلس قبل خطبته على أحد المقاعد المتناثرة بفخامة على جوانب المجلس وكان يفصلني عنه مقعدين أو ثلاثة من الحضور ، بدأ حديثاً باسماً ودياً مع بعض رفاقه وكبار مستقبليه ثم تناول فنجان من الشاي ، وفجأة رأيته يشعل سيجارة ، إندهشت قليلاً .. أفي هذا المكان ؟ ، ورأي مرافقي وصديقي علامات التعجب على محيايً فبادل تعجبي بضحكة بدت لي مكتومة ولكنها مرسومة بوضوح على وجهه ، المهم أن الشيخ / الوائلي يملك أدوات فريدة ، وبضاعة رائجة لا تعرف الكساد ، وخلطة عجيبة لا يقوى عليها كثير من نظرائه ، فهو خطيباً مفوهاً ، واسع الإطلاع ، غزير المعرفة ، وهو غالباً وفي غير شهر محرم الحرام ما يبدأ خطبته بتفسير بعض من آيات الذكر الحكيم بطريقة قل أن تجدها عند غيره من الخطباء ، فهو كثيراً ما يحلل الآية تحليلاً لغوياً فريداً ويربطها بأصولها التقليدية في التفسير أولاً ، ثم يبدأ ويهدم من هذه الأصول ما شاء له أن يهدم ثم يعيد البناء من جديد وفق التفسيرالذي يراه أكثر ملائمة وعقلية مستنداً في ذلك إلى قواعد المنطق العقلي بشكل يُحسد عليه وكأنه أحد فلاسفة أثينا القدامى ، ولا تكاد تخلو له خطبة دون أن يعرج فيها على أبيات منتقاة بعناية من الشعر العربي المعينة والمناسبة لموضوع تفسيره ، وهو في الحقيقة له ذاكرة شعرية تكادلا ُتبارى ، ومن الطرائف في هذا المجال أنني تأثرت به في طريقة إلقاءه للشعر من كثرة إستماعي إليه ، بل وكنت أحاول جاهداً أن أستنسخ نبرته الصوتية وأنا أردد ذات أبياته وغيرها من أبيات القصائد الأخرى التي أحبها ، الأمر الذي كان محل إستحسان وثناء زوجتي على هذه الطريقة الجديدة والمعبرة في إلقاء الشعر ، ولكن المسكينة لم تكن تعرف مصدرية هذه الطريقة بالطبع ، حتى أتي عليً يوم بالمنزل كنت أستمع فيه إلى محاضرة له بالإذاعة في حضور زوجتي التي تصادف مرورها أثناء سماعي لها ، وإذا بصاحبنا كديدنه يلقي بعض من الأبيات الشعرية في معرض تفسيره لآية ما بطريقته المعهودة الشائقة ، وإذا بزوجتي تلتفت إليً وتقول لي: هذا هو إذن من تقلده ؟ فالطريقة ليست طريقتك ! فعتبت على الشيخ أن ألقى أبياته في هذا الوقت الحرج ، وخاطبت صوته المجلجل قائلاً : الله يسامحك يا شيخ .. فضحتنا .

يُتبع

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة