2010/10/24

تحضر يا .. محترم


الحضارات المرموقة ترى النور بفضل الهمم العالية لأبنائها ، والأمم الكبيرة تولد من رحم الأحداث الكبيرة ، والمجتمعات الناهضة تشب عن الطوق بنفضها غبار التاريخ والبحث عن كوة ترى من خلالها قرص الشمس ، والفرد أو الإنسان هو محور هذه الحياة ، بصلاح طويته وصلابته ينهض المجتمع فتولد الأمم فتتشكل الحضارات .

فلا تتشكل الحضارات هكذا بإنفجار كوني هائل ولا بتغير مناخي حاد ، فهذا وذاك لا يصنعان حضارة ، بل جغرافيا ، وإنما ما يصنع الحضارات حقاً هو الإنسان الذي له المقدرة على إلقاء حجر صغير في نهر فيخلق حالة جديدة من التموج وإن كانت بسيطة فتتغير على أثرها صفحة النهر.

فالحضارات في النهاية ما هي مجموعة من القيم التي إستقر عليها وجدان الناس ذلك لأنهم وجدوا فيها ما يكفي لإعلاء شأنهم روحياً ومادياً والإقرار بحقهم في العيش بكرامة والتعبير بحرية ، فضلاً عن الإعتزاز المعقول والإيجابي بتراثهم وإيمانهم في الوقت ذاته بدواعي التقدم ، مع الأخذ بأسبابه المعينة على ترسيخ هذه القيم أكثر فأكثر ، وبقدر إقتراب مجتمعاً ما من ملامسة هذه القيم فإنه ُيصنف عادة على أنه مجتمع حضاري دون نظر كبير إلى بلوغه المراتب العليا في شأن الأخذ بأسباب المدنية الحديثة .

فكونك لا تقطن أحد الأبراج السكنية العالية ذات المواصفات التقنية المتقدمة أو ما ُيسمى بالمباني الذكية ، أو كنت لا تملك حاسوباً خاصاً ، ولا تستخدم أحدث الهواتف المحمولة ، حتى وإن كانت لا تروق لك فكرة أن يكون لك بريداً إلكترونياً ، بل ولا تجد متعة في إستخدام الإنترنت ، فلا يعني أي من ذلك أنك بت إنسان غير متحضر ، إنما تحضرك يكمن حقاً في ما تملكه من قيم وأعراف وسلوكيات تحكم تصرفاتك ومسالكك بالحكمة الواجبة مع نفسك ومع من حولك ، وكونك قد بلغت في الأخذ بأسباب المدنية الحديثة شأواً بعيداً ، ونهلت من روافدها الشيء الكثير فلا يعني هذا بطريق الحتم واللزوم أنك أصبحت في عداد المتحضرين ، بل العكس تماماً قد يكون هو الصحيح ، فإستغراقك اللا واعي في الأخذ بهذه الأسباب دون وجود حكمة ظاهرة ، أو ضرورة ملحة يعد في الواقع أحد العناوين الناصعة على سطحيتك .

وحسب رأيي فإنه يوجد في الواقع لبس أو خلط بين مصطلحين ، أحدهما ُيطلق وربما ُقصد به الآخر ، وتجد ذلك جلياً عند الإشارة إلى كلمتي الحضارة والتاريخ ، فيقال مثلاً أن شعب ما ذي حضارة عميقة ، والقصد أنه صاحب تاريخ قديم أو متجذر أو موغل في القدم ، فكل ما كان قبل الآن فهو تاريخ ، أما الحضارة فهي لحظتك الأنية وهي حاضرك ، فأنت حاضر بها ومعها ولها ، وكلما تعاملت مع هذه اللحظة بقيمة عالية وهمة نشطة فلا مراء عندي في تحضرك ، فلا تنساب اللحظات من بين يديك عزيزي القارىء فتغدو وإياها تاريخاً مهملاً وفي أحسن الأحوال كتاباً ملقى على رف بمكتبة عتيقة ، فتحضرك الحقيقي داخلك ، وجمالك الحقيقي داخلك ، فدع عنك العلل والأسقام ، وحاول إستكشاف منابع الدفء وروافد الروعة التي تسكنك ربما من حيث لا تدري .

2010/10/18

وحيد بالمنزل


في وقت الوحدة تبرز التفاصيل الصغيرة ، وتشي الأركان وحتى الشقوق بكل الأسرار والخبايا ، ويعبق المكان بأبخرة الماضي القريب ، تعود المسلمات القديمة إلى طاولة البحث للتدقيق والقراءة من جديد ، وعلى أثر ذاك التداعي تتهادى الذكريات كأمواج متتالية لا يكاد يتوقف هديرها فتصيب العقل والنفس بإنفصام جزئي عن الواقع ، فتحمل أحدنا مرغماً على العودة إلى الوراء للحظات آخذة بيده لإعادة تفقد الأمكنة وإستراق السمع وإعادة رؤية المشاهد من جديد ، والمدهش أن المشاهد التي تتبدي في ناظرينا هي عين ما كان ، لا تفاصيل زائدة ولا ملفقة ، حفظتها الذاكرة كأي شريط سينمائي عتيق يعيد إستذكار والتذكير بما كان ، ومع هدوء المكان بفعل الوحدة تتسع دائرة الفراغ وتنمو بإمتياز وروعة كل أغرسة الحواس ، وكأن لها دوراً إضافياً أو إستثنائياً لا يظهر إلا في وقت الرهبة والسكون ، فالسمع بات أكثر إرهافاً ووعياً ، كما تنشط هي الأخرى العينان فتراها تدور حول الأمكنة وتتفقد الأشياء بهمة ونشاط ، فتفطن ربما للمرة الأولى إلى تداخل ورمزية ألوان السجاد وتقاسيم ومغزى الأشكال ، وتدقق في الرسومات السريالية للأطفال على كل جدران البيت فترى فيها فناً ومزجاً فريداً لا مجرد عبث وإتساخ ، في زمن الوحدة يغدو مخدعي كأي جزيرة منعزلة لم تطئها من قبل قدم إنسان ، فتموت على ضفافها كل الكلمات ، وتستحيل بدلاً عنها همهمات وتنهدات .
-

بالمنزل بت وحيداً أتسول صوت يأتيني ولو من بعيد ، فيستحيل الصوت صدىً يتردد في أرجاء المكان ، وترتسم في ناظريً على أثر ذلك صور ذات جاذبية لأشباح لطيفة شفافة تمنيت لو شاركتني وحدتي ولكنها لم تفعل حتى الآن ، رجوت قرين نفسي أن يحدثني وإستفززت فيه كل مشاعر غضبي وإحباطي لعله يستجيب ويبدد سكون المكان ويبعث من جديد موات الأشياء والجمادات المحيطة بي فإبتدرني بالصياح :-
- نعم يا قريني .. أما زالت مبتئس .
- وما لي ألا أكون ؟
- لطالما أحببت الوحدة وتغزلت في السكون والركون .. فما حل بك ؟
- لا أدري .. كأن بيً مس يحرضني على الإلتصاق وإعادة الإندماج .
- هيهات .. هيهات ، أبعد هذا العمر تريد إعادة النظر والقفز على حواجز تفننت في بناءها وتعلية أسوارها وإحكام إغلاق أبوابها ؟
- أكان ذلك كله عبثـاً إذن .. أتقصد ذلك ؟
- قد لا يكون عبثاً .. ولكن العبث كل العبث أن تلعب بك رياح الوهم فتصور لك أبنيتك وأسوارك وكأنها مدينة خربة مليئة بالأطلال مسكونة بالأشباح .
- إذن فإنك ترى أن أركن إلى ما أنا فيه فيهلهلني الفراغ والصمت .
- أفضل لك ألف مرة أن تموت في قبر بنيته بيدك من أن تموت في قصر إصطنعه غيرك .

2010/04/20

أصل وفصل


( قد أكون أفغانياً منذ خمسين عاماً ، وقد أكون مسلماً منذ ألف وأربعمائة عام ، غير أنني بشتونياً منذ ثلاثة ألاف عام ) بهذه العبارة لخص أحد المواطنين الأفغان المنتمي إلى قبائل البشتون قصة طويلة عمرها ربما يقدر بعمر نشأة الجماعات وتطور المجتمعات ، إذ إنحاز هذا المواطن بكل فخر لا إلى وطنه حيث يعيش ، ولا إلى دينه الذي يتعبد به ، وإنما إنحاز إلى عرقه القديم وأصله التليد ، فمن المبهر حقاً أن يتجاوز أحدنا حدود زمنه الراهن ، وحتى حدود زمنه البعيد نسبياً قافزاً قفزات واسعة إلى الوراء حيث الزمن الأبعد والأقدم .

يبدو الأمر وكأن هناك جاذبية ما تشدنا شداً إلى الوراء وتستنهض فينا الرغبة إلى إعادة الرؤية والتبصر ولو عبر منظار طوله ألوف السنين ، ولابد أن أحدكم قد راودته يوماً ما على حين غرة فكرة السؤال أو حتى البحث والتقصي عن أصول عائلته ومنابت جذوره ، فإن توصلت بعد عناء مفترض إلى الوصول إلى حقيقة النشأة عبر سلسلة طويلة من أرحام النساء وأصلاب الرجال ووجدت في هذه النشأة ما يستحق الذكر والتنويه كأن يكون نسبك مثلاً عائداً إلى إحدى القبائل الشريفة أو جماعة ُعرفت بالشجاعة والإقدام أو الكرم وإغاثة اللهفان ، فإنك ستجد نفسك متلبساً في نهاية المطاف برائحة التاريخ العتيقة ، فيأخذك الحنين محلقاً بك إلى مرابط أجدادك الأولين ، ولربما إتسعت حدقة رؤيتك فتراك تطوف بخيامهم وتتفقد مواضع جيادهم وتتقلد سيفاً من سيوفهم ، ولربما عاينت بعين الشفيق المعارك التي خاضوها والدماء التي أراقوها من أجل الدفاع عن حياض القبيلة وشرف العائلة .

ولكن السؤال هو ... لما يفعل أحدنا ذلك ؟ قد تكون الإجابة في أبسط صورها أن اليأس من حواضرنا والتوجس من مستقبل أيامنا هو ما يدفعنا ربما دفعاً إلى البحث عن ومضات مضيئة قديمة وإن غدت بفعل الزمن خافتة لعلنا نجد فيها ما يساهم في رفع روحنا المعنوية ويدفعنا ولو دفعة بسيطة إلى الإمام ، فبالهروب إلى مواطن ثراءنا الغابرة تتجلى صور من تعزية النفس وتهدئة الخواطر ، وربما الإسترخاء إلى فكرة أن الأمور ليست بهذا السوء ... على الأقل فيما مضى .

هذا نمط من تحليل الظاهرة غير أنني لا أستريح إليه ، ذلك أن البحث عن الجذور أمر لا يقتصر على أولئك الذي يعانون في حواضرهم ويترقبون بخوفٍ قادمات أيامهم ، ذلك أن كثير من المجتمعات والتي غالباً ليس لديها مشكلات إقتصادية آنية كبيرة ، أو قلق أو توجس من المستقبل لدى أفرادها ذات الهوى والجامح أحياناً إلى الإرتداد إلى حيث بواكير نشأة العرق أو الأصل الأول ويظل الولاء إلى هذا الأصل متجذراً في نفوس هؤلاء الأفراد مهما بلغ شأنهم وعلت مكانتهم ، وما أشجار النسب المنتشرة في كثير من البلدان إلا دليلاً على ولع الكثير منا - لاسيما ذوي الأصول القبلية – بالبحث والتمحيص عن منابعهم القديمة ، بل أن البعض يعتبر هذا الأمر من الضرورات الشرعية لما يترتب عليه من حفظ الأصول والأنساب .

ولكن إزاء هذه العبور الإرتدادي اللافت إلى الوراء سيحملك الشوق ربما إلى محاولة التأسي بأخلاق القوم وشيمهم ، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنك قد بت حقاً واحداً منهم منتسباً إليهم ، فما لم تكن شريفاً في ذاتك فإن شرف قومك الأقدمين وعراقة نشأتهم لن يغني عنك من الأمر شيء ، وإذا كنت ممن تنخلع قلوبهم من مجرد صوت لصرير باب غرفتك في ليلة ظلماء ، أو من صوت هبة ريح عاتية فإن شجاعة قومك ستقف عاجزة كل العجز عن أن تهدئ من روعك ، بل أن كرم جدك الأعلى وإن كان حاتم الطائي ذاته لن يفلح في معالجة إمتقاع وجهك وإعراضك عن سؤال واحد من أصحاب الحاجة والفاقة ،
فكن أنت نفسك ، ودع عظام أجدادك ترقد في سلام ، قال تعالى { فاذا نُفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } « سورة المؤمنون 101 » .

2010/03/29

رمزي ورمزية


بوسعك التبسم إن أردت أن لا يلحظ أحد عليك ضحكاتك ، ويمكنك الإمتعاض بدلا ً من البوح برفضك أو إستهجانك ، وسيكون لك الأنين أفضل ألف مرةٍ من تألم صريح يجر عليك التشفي أو الرثاء ، وربما كان من المجدي لك أن ُتلقم فمك حجر بدلاً من أن تلقيه على عدو متربص تخشى بطشه وغدراته ، ومن الجائز أن يدك قد خانتك غير مرة فصوبتها إلى أقرب جدار أو مرآة حمام بدلاً من أن تصوبها إلى بعض من الوجوه الكالحة التي رأيتها في حياتك ، وإذا كنت ممن يهوون كرة القدم فلربما كانت قدمك اليمنى أو اليسرى – كيفما إتفق – كثيراً ما أطاحت بحصىً وحجارة من الطريق وتمنيت لو أنها كانت بمرمي خصومك وأندادك ، وقد تكون لذت بالصمت مرة أو مرات في مواضع كان يتحتم عليك فيها البيان والتبيين ، كل هذا وأكثر من الجائز حدوثه ، ولكن هل فكرت مرة لما كانت هذه خياراتك ؟

قبل أن تجيب وتقفز إلى إستنتاجات متسرعة دعني أدلي لك أولاً برأيي حول هذا الموضوع ، فأنا شخصياً أميل إلى أهمية رمزية الأفعال ودلالتها في العلاقات الإنسانية والإجتماعية ، ولربما كانت هذه الرمزية أحياناً دليل عقل وحسن تصرف ، كما قد تكون في أحيان أخرى دليل طيش جامج ونزق غير محمود العواقب ، فالتعبيرات الحركية لأحدنا - لاسيما العاقلة منها - يكون لها من الوقع ما لا تقوى الكلمات على إيصاله والتعبير عنه ، وتختلف هذه التعبيرات العاقلة بطبيعة الحال بالنظر إلى مقدار الثقافة التي حصلتها ، ومستوى ذكائك ، وكم الخبرات التي تراكمت عبر سني حياتك ، وإن كان هذا لا يمنع من قيام أحد الأفراد المحسوبين على تيار ثقافي رفيع من الإتيان بتعبيرات حركية لو صحت نسبتها إليه لكان حري به أن يكون خلف القضبان .

ورد بالقرآن الكريم ذكر كثير من التعبيرات الحركية والإيحائية فهناك من ( عبس وتولى ) ، وهناك من (
أعرض ونأى بجانبه ) وهناك من ( إذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدورأعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) وهناك من ( عبس وبسر ) ، وعلى كل حال فنظراتنا ، وتقطيبة جباهنا وإنبساطها ، وحركات شفاهنا ، وتكوير أصابعنا ، وإعراضنا وإقبالنا لرموز في حد ذاتها وردود أفعال ذات دلالة عميقة تترجم بعفوية ما يعتمل في نفوسنا من مشاعر وخواطر ، وتتابين قوة هذه الدلالات من حيث الشكل والمضمون بالنظر إلى المدى الذي أحدثته للتعبيرعما نريد ، وتتحكم فطرتنا ومدى إمساكنا بزمام أنفسنا في أي من التعابير نريد إن كان لدينا أكثر من خيار يمكن إستخدامه ، فإذا كان لدينا خيارات عديدة يوماً ما فلنبادر إلى أرقها وأجملها ولنمسك عن أخسها وأقبحها .

فلئن تشيح بوجهك مثلاً عن أحدهم لهو خير لك من أن تمطره بصوت خفيض بوابل من قاموس شتائمك العامر ، ولئن أطرقت رأساً خجلاً دون أن تهتز جفونك فإنك بهذه المثابة إنما ُتسدي عميق الإعتذار والتأسف لما بدر منك بدلاً من تجابه ندك بالقول له لما لا تذهب إلى الجحيم ؟ وإن أطحت بيدك في الهواء غضباً عندما ترى صورة زعيم بلدك على شاشة التلفاز لهو أفضل كثيراً ربما من أن تملأ الشاشة ببصاقك ، وفي ذات السياق فإن وردة بيضاء اللون تلقيها بحنان على فراشك زوجتك لرسالة جديرة بالإعتبار على الرغم من كونك تعلم بأنها لا تعي مغزي الورود ولا دلالة الألوان ، فلا تحدثك نفسك الأمارة بالسوء بأن هذه المرأة يستوي عندها الأمر إن وضعت لها وردة أو وضعت سكين ، فلتضع الوردة إذن يا عزيزي وتترك لها خيار أن تقوم هي لاحقاً برميها في سلسلة المهملات كالعادة .

وقد يختلط عليك مفهوم الرمزية ودلالته فتعتقد أن كل ردة فعل تأتي بها هي بمثابة رسالة أو رمز لطرف ما ، وهي وإن كانت في الحقيقة كذلك فإنها قد تكون أحياناً دليلاً على حمقك المستعر ورداءة تواصلك مع الأغيار ، وإلا فقل لي لما تبادر إلى تحطيم جهاز هاتفك المحمول وإفراغ أحشائه ونثره من حولك بغل ٍ لمجرد أن أحد أزراره لا يعمل بصورة طيبة ؟ ولما تلكم شاشة حاسوبك بقيضة يدك حال تباطؤه في الإستجابة لطلباتك السخيفة أو حال توقفه فجأة عن العمل ؟ وما ذننب أربطة حذائك إن أبت الإفتكاك فبادرت بهوس ٍإلى تمزيقها وتوزيع أشلائها هنا وهناك ؟ فإن كنت من الصنف الأول من الناس ممن يرمزون برقة فهنيئاً لك ، وإن كنت من الصنف الثاني فتأبى المهادنة وتقبل على المجابهة كيفما كانت فلا شك عندي أنك بحاجة إلى الكشف على قواك العقلية ، وإن كنت تنهل من الصنفين معاً فتأتي بالغث والسمين ، رقة حيناً وغلظة حيناً آخر ، فلا مراء عندي كذلك أن تحليل حمضك النووي سيكون لك ضرورة ملحة لترى بنفسك إلى أي كائنات الأرض أنت أقرب وأشبه ... ولا أبرئ نفسي .

2010/03/23

الموت لحظة .. وأشياء أخرى


بوفاة فضيلة شيخ الأزهر الدكتور/ محمد سيد طنطاوي إنطوت صفحة من تاريخ هذه المشيخة العتيدة والتي ُتصنف تقليدياً على أنها رأس الهرم للمذهب السني في العالم ، كما إنطوت قبلها صفحات كثر بموت غيره من المشايخ الأجلاء الراحلين ، فذهب من ذهب بعدما قدم كل منهم عمله وأفضى إلى ربه ومولاه ، وإزاء حالة كالموت لا يملك المرء منا كثير كلام ، فهذه الحالة الفريدة والإستثنائية لها مقدرة هائلة على الإختصار والإختزال في نفوس المتابعين ، وأياً ما كان وجه رأيك فيمن إعترته هذه الحالة وبات من أصحابها فمن الأفضل لك أن تمسك عن الخوض ، وأن تترفع عن النقد ، فمن كان ينازلك وتنازله ويقارعك وتقارعه قد غاب عن المشهد ومضي بعيداً إلى حال سبيله ، فلا حجة لك بعد الآن عليه ، وليس من المرؤة في شيء أن تظل سهام نقدك تطال عقل وذكرى من لا يقوي على رد ولا بيان بعد أن أبحر بشراعه بعيداً ووحيداً ، فلا أقل من أن نلقي عليه السلام وتتمنى له سلامة الوصول وحسن الوفادة في مبيته الجديد .


ولا أدري حقيقة سر هذه السكينة التي تتلبس بنا ونحن نتابع خبر وفاة أحد ممن نعرفهم ، يبدو لي الأمر وكأنه لحظة عبقرية - وإن كانت عابرة - نقف إزاءها متأملين وبنبل بالغ أحياناً مسترجعين جانباً رأيناه مشرقاً في حياة وسيرة ضيف اللحظة وصاحب مشهدها ، فيما تتراجع على إستحياء كل فنون النقد وتترجل جميع الحجج والدعاوى التي أعملناها طويلاً في أراء ومسالك أحدهم ، وإزاء هذا السمو اللحظي اللافت نتمنى لو أن هذا السمو ظل يعمل عمله فينا فيمتد إلى أولئك الذين لا يزالون يدبون على الأرض ويثيروا من حولنا صخباً وضوضاءاً ، فليس من الحكمة أبداً أن نظل دوماً في إنتظار وفاة أحدنا لنحرم أنفسنا من لحظة عالية القدر كتلك التي نتحلل من خلالها من كل أرجاس النقاش والمناظرات ولوي أعناق الحقائق أحياناً ، فالموت وإن كان لحظة رعد قاصفة تنفلت على أثرها الروح ، فإنها كذلك لحظة برق لامعة تداعب القلوب والنفوس فترفعها إلى مصافٍ من السمو والرقي والنبل .


وأما الضيف الجديد الذي توسد مسند المشيخة فضيلة الدكتور أحمد الطيب فلا أدري حقاً ما هي المعايير التي أهلته لشغل هذا المنصب الرفيع ، ولا أطعن هنا في قدر الرجل ولا مبلغ علمه ، وأما نواياه فموكول أمرها إلى الله ، ولكن من حق المسلمين ليس في مصر فحسب بل في سائر الأقطار الإسلامية أن يعرفوا معيار الإختيار ودواعي الترقي ، ذلك أن الدور المناط بمشيخة الأزهر يتجاوز حدود تخريج حملة الشهادات الجامعية في المجالات الدعوية والفقهية وغيرها من سائر المعارف العلمية العصرية الأخرى ، فالأزهر ومنذ القدم كان مهبط أفئدة التواقين إلى العلم وبات خريجيه يطبقون الأفاق شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ، وينظر إليه المسلمون نظرة روحية ملؤها الإجلال والإكبار بوصفه إحدى قلاع الإسلام الشامخة ، فلا أقل من أن نبدي قدراً من الشفافية والوضوح حول أسس الإختيار أو حتى دواعي الإقصاء التي شملت نفر ممن رشحوا لهذا المنصب الجليل ، والحقيقة أن عدم وضوح المعايير في هذا الشأن وغيره من الشئون إنما يفتح باب الإجتهادات الظنية وإن شئت فقل الشطحات الفكرية التي قد تبعد أو تقترب من الحقيقة ، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يتم فيه إختيار شيخ الأزهر من خلال المجامع الفقهية الإسلامية المختلفة ورابطة علماء المسلمين حتى ولو أفضى الإختيار إلى ترشيخ شيخاً غير مصرياً أو حتى غير عربي لتولى وإدارة شئون المشيخة التي يجب أن ننأى بها عن الأهواء والسياسة والأفق الضيقة والمصالح غير بعيدة المدى ، ولا أرى في النهاية منطقاً في أن نقارب بين مشيخة الأزهر وغيرها من الهيئات الإقليمية التي يحرص القائمون وأصحاب الهوي والسياسة على أن يكون رئيسها من دولة المقر ، فالأزهر مشيخة عالمية جاوزت ولا تزال تجاوز الحدود الجغرافية الحمقاء .

2010/01/04

المربع الأول


من المعلوم أنك إنما تنطلق عبر مسارات حياتك المتعددة من مرحلة إلى أخرى ، وترتقي سلم صعودك المتنامي من درجة إلى أخرى ، وكل مرحلة تجاوزها أو درجة تتخطاها فإنها تمثل لك ماضياً أو تاريخاً ترنو إليه بعين الحسرة حيناً وبعين الإكبار حيناً آخر ، فهكذا هي حياة الإنسان دوماً سلسلة لا تنتهي من الإنكسارات والإنتصارات ، والضحكات والدموع ، بل وخليطاً منهما أحياناً ، وأياً كانت أوجه إخفاقاتك أو نجاحاتك فالثابت أنك بواحدة منها تأخرت خطوة في موضع ما وتقدمت أخرى في موضع ثان ، فهذا هو منطق الأمور وطبيعة الأشياء ، ويتساوى في ذلك الجميع على إختلاف أدوارهم في الحياة ، ولكن ما يحيرني حقاً هو أن أحدنا أحياناً قد يظل واقفاً في مربعه الأول دون أن يجاوزه فلا يشعر بخيبة إخفاقه ، ولا حتى بزهو نجاحه .

لا أعلم إن كان هذا الأمر متعلقاً بموروث ثقافي أو بيئي أو نفسي ، ولكن الثابت أن هذا يحدث أحياناً ، فمثلاً قد يشعر المنهزم أو المتواني ببعض الراحة وقدر من الإسترخاء للإخفاق الذي ألم به ، ذلك أنه يجنبه عناء التفكير في الجولات التالية وتراه يفضل الإنسحاب من الميدان عن إستمرار المواجهة ، وقد لا يشعر بأي غضاضة وهو يرفع رايته البيضاء ، ذلك أن الإنسحاب - على هوانه - أفضل من ترقب الهزيمة أو إنتظار أخرى ، وقد سمعت مرة أن المنتحريين الذين أرادوا إنهاء مسيرتهم في هذه الحياة فإنهم في الحقيقة لا يبغضون الحياة ذاتها وإنما أرادوا فقط أن يتوقف الألم .

ولكن هل توقف الألم فعلاً ؟ قد يحدث هذا في الواقع وإنما مع إحداث ألم في منطقة أخرى ، فتعجلك في خلع أحد أضراسك مثلاً رغم قابليته للعلاج هو رغبة منك في أن يتوقف الألم ، وهو إن تحقق فإنه كان على حساب ما كان أن ُيفترض به أن يصاحبك مدة أطول .

من ناحية أخرى قد يشعر المنتصر ببعض القلق إزاء ما حققه وحصله من نجاح ، وهو أمر صحي في الغالب ذلك أن كلفة النصر غالية والتشبث به أكثر كلفة ، ولكن أحياناً يُحدث النجاح في نفوس بعض من أصحابه ما يحدثه الفشل في نفوس ذوي الإخفاق والفشل من ألم يجاوز حتى حد القلق ، وهم ألم مبعثه الخوف من عدم إمكانية إستمرار النجاح أو ثباته ، بل أننا لو دققنا النظر لوجدنا أن طائفة من هؤلاء تتمنى لو أنها بقيت على حالة إسترخائها بعيداً عن لمعان التفوق ووميض الرفعة مؤثرين العيش على جوانب الحياة الخافتة بعيداً عن الضجيج .

وأياً ما كان من شأن الفريقين فإن إختصار المسافات ليس بالضرورة حلاً أمثل في جميع الأحوال ، بل قد يكون قطع الطريق ذو المسارات الوعرة أجدى في المدى المنظور والبعيد ، ذلك أن يربي فينا فضيلة التعامل المتأني والمنظم والحكيم مع ما نجابهه من نتـؤات وزوايا حادة في دروب حياتنا .

فلا ينبغي على من صادفته عثرة أو كبوة أن يقف أمامها طويلاً إلا بالقدر الذي يجيل خاطره فيها ويتأمل من خلالها مواطن العبرة من أجل دفعة جديدة إلى المربع الثاني لا أن يقف متهيباً من معاودة الكرة مرة من بعد مرة ، فما تذوق قط ذو شبع لذةٍ لطعام ، وأما من بؤثرون الإنزواء على مجابهة صخب النجاح مع قدرتهم عليه فإنهم بهذه المثابة يضربون للخاملين أروع الأمثال في كيفية الإنكفاء على الذات والإنسحاب غير المنظم من الحياة ، فما على هؤلاء لتجنب قلق النجاح أو حتى ألمه إلى أن ُيبدوا قدر من التواضع إزاء قفزاتهم الرفيعة وأن يكونوا أكثر عدلاً مع من شاركوه نجاحاته .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة