2015/01/26

عصور نهضة أخرى !



بقلم : ياسر حجاج

في الصف الأول الثانوي ، وفي الإمتحان المقرر لمادة التربية الفنية كان السؤال الوحيد تتصدره الآية الكريمة ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ – فاطر 13 ) ، حيث كان المطلوب رسم تصور لمفهوم الآية ، بدا الأمر لي في البداية محبطاً بعض الشئ ، فكيف لصبي في السادسة عشر من عمره الإجابة (رسماً) عن آية لم تكن لتتضح معانيها بشكل واضح له ؟ .

بحس – لا أعرف مصدره – رأيت أن مفردة (يولج) تعني التداخل بشكل ما ، وما أعانني على هذا الفهمً تكرارها ، مع حرف الجر (في) بشقي الآية ، أي أن شيئاً يتداخل في شئ ، كان الباقي سهلاً ، أمسكت القلم الرصاص لعمل كروكي اولي تضمن في شق منه قرص الشمس ، وشقه الآخر كان القمر ، مع مزج معقول بين الإثنين ، تلى ذلك سكب ألوان صفراء وآخرى بلون الشفق ، وأذكر أنني نجحت في هذه المادة بدرجة متدنية جداً تكاد تفي بمطلوب النجاح ، غير أنني كنت أتوقع علامة أكبر لما إعتبرته فهماً فنياً للأية ، ولكنني ربما أدرك الآن سر درجتي المتدنية ، إذ قمت في أسفل (اللوحة) بكتابة نص مختصر (شارح للرسم) ، الأمر الذي بدا وكأنه وقاحة غير مبررة يُقدم فيها صبي على إبانة مرامي رسوماته لمدرس مادة التربية الفنية ، لعله كان إستفزازاً وإن كان غير مقصود بالطبع ، مع الوقت أدركت خطأي ، وأيقنت أن الرسم يجب أن يظل رسماً فحسب ‘ فإن أضفت إليه شروح ، فإن ذلك من شأنه أن يُوصد باب التأويل ، ويغلق نافذة هامة للخيال .

Mona Lisa
ثلاث سنوات لاحقة إنتقلت بعدها للإقامة بالمدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة مستهلاً دراسة القانون بكلية الحقوق بها ، حيث كنت أقيم منفرداً بغرفة رأيت أنه من المناسب لها أن تتزين إحدى حوائطها بلوحة فنية ما ، وذلك إستجلاباً لحالة من الدفء من شانها – ربما – أن تقلل قدراً ما من برودة الإغتراب ، ومتاهة التعامل مع غرباء .
لم يكن الأمر بحاجة إلى مجهود إستثنائي ، على الفور قمت بشراء لوحة الموناليزا ذائعة الصيت للفنان الإيطالي الأشهر ليوناردو دافنشي ، وأذكر تماماً الآن كم كنت أقف مطولاً أحياناً أمام هذه اللوحة متأملاً تلك البسمة الغامضة لصاحبتها والتي كادت أن تموت على شفتيها ، ولكم كان يثير في نفسي بعض الخوف أحياناً عندما كنت أتجول في الغرفة لبعض شئوني ، فتقع عيناي مصادفة على اللوحة فأجد أن صاحبتها ترمقني من كل الزوايا .
كم ساءلت نفسي (ولما هذه اللوحة بالذات ؟) ، هل لأنها كانت زهيدة الثمن ؟ هل لأني ربما قرأت عن دافينشي وأعجبت به كثيراً أثناء دراستي للتاريخ في المرحلة الثانوية فيما يُسمى بعصر النهضة الأوروبية ؟ يجوز .. لكن مازالت هذه اللوحة تُـذكرني بحقبة أثيرة في نفسي ، ولا أدري للآن سر تعلقي بها ، على الرغم من انها - وقت إقتنائها - لم تكن لتشكل أي عامل إغراء لشاب في مقتبل العمر ، اللهم إلا تلك الأحاديث الصامتة التي كنت أجريها معها ، ومن وقتها وأنا مهتم غاية الإهتمام باللوحات الفنية لاسيما تلك التي تتناول معاناة ، أو تثير في نفسي أسئلة .

في تراثنا العربي يقولون (أن مداد قلم العالِم ، أفضل من دم شهيد) ، بالنظر إلى فضل العلم الذي به تنهض الأمم ، وترقى حياة الشعوب ، وفي ظني أن لوحة فنية بسيطة تفي عن إقتناء كتاب أحياناً ، وما أود قوله على ضوء السياق المتقدم ذكره ، أن مناهج التربية والتعليم في بلادنا يجب أن تُعنى أكثر وأكثر بتنمية جانب التذوق الجمالي ، والإبداع الفني في نفوس الطلاب ، بدءاً من المرحلة الدراسية الإبتدائية بالتحديد ، حيث تشكيل الوعي أيسر ، وتطويع الملكات أطوع ، وذلك من خلال مناهج علمية يشرف على وضعها وصياغتها كل من له صلة بالأمر من قريب أو من بعيد ، كعلماء النفس والتربية ، وأخصائيين مؤهلين للتعامل مع المراحل السنية المبكرة ، ناهيك عن الفنانين والمبدعين .

إن تنمية الجوانب الفنية لا سيما في مجال الرسم سيكون لها أثر إيجابي هام - ولا ريب - في إثراء حاسة (الذائقة) البصرية والشعورية لأبناءنا ، فينشأ أحدهم وقد أدرك أن الرسم ليس خلطاً للألوان ، بقدر ما هو مزج للمشاعر ، والأحاسيس الإنسانية ، وأن الرسم في حد ذاته هو وسيلة تعبير راقية جداً ، إلى حد إعتبارها نصاً مرسوماً ، يصمت وينطق ، بل ويصرخ أحياناً ، إن الشخصية السوية هي تلك التي تملك وسائل تعبير راقية وغير صادمة بأي وجه من الوجوه ، وأن الرسم بالتأكيد في القلب من هذه الوسائل ، فهو الشعر المُصور ، والقادر وحده على تجاوز حدود الكلمات ، بل وعابراً لكل تعبير مهما بدا رقيقاً أو بليغاً ، فلا شئ أجمل من أن ترى لوحة تشي لك بما كان ، وما هو كائن ، وما قد عساه يكون ، فترى هنا دمعة نازفة أكثر بياناً من مرثية ذات مائة بيت من الشعر ، وهناك نظرة لامعة تُغنيك ربما حتى عن مطالعة عين الشمس . 

إن مطالعة عابرة لما تشهده بلادنا ، بل والعالم من إنتشار واسع لظاهرة الإرهاب بصوره العديدة تأتي إحدى أهم مسبباتها أن نفراً من الناس قد خاصم - بلا مبرر - مواطن الجمال الشعوري المتأصل في كل نفس بشرية ، وأن لا شئ في الكون تقريباً قد داعب خياله ولو قليلاً ، فغدا - من بعد هذا الخصام معتصماً بكل وسيلة خشنة أو جافة للتعبير عن معتقد أو فكرة ، ويبدو لي أن لا أحداً من هؤلاء النفر قد توقف يوماً أمام لوحة ، سوى ربما لوحة عذابات القبور ، وحسب تقديري المتواضع أن كل نزوع إلى الشر ، قد قابله بوجه من الوجوه تآكل مَلَكَة شعورية جميلة ، أو جفاف لحاسة فطرية رائعة ، فليكن نزوع أحدنا إلى شئ من ذلك مؤشراً ضابطاً على أنه قد (أو كاد) يتنكب الطريق أو على وشك الغرق في مجهول ، فلننهض من جديد ، ولنرسم عصر نهضة من جديد .

2015/01/25

الأوغاد .. مؤلفين وقراء !!

بقلم : ياسر حجاج

الأن عزيزي القارئ ، وقد إنتهيت من القراءة ومارست كل أنواع المرح مع نفسك ، والمزاح مع سطور كتابك ، فضلاً عن المؤلف وكل ما له علاقة بالكتاب ، فإنك حتماً توقفت بجدية - ولو قليلاً - لتتبع الأثر الذي تركه (فعل القراءة) في نفسك .

إن القراءة - حتى وإن كانت في كتاب ردئ الشكل أو سقيم المحتوى - من شأنها أن تعكس أثراً إيجابياً في نفسك وليس سلبياً ، فما صبرك على مطالعة بضع مئات أو حتى عشرات من الصفحات ، إلا لأنك كنت تبحث عن (أو تنتظر) شئ ما ، قاله المؤلف أم لم يقله ، وهذا - في ظني - فعل إيجابي في حد ذاته ، فإن وجدته فبها ونعمة ، وإن لم تجده ، فعلى الأقل قد عرفت الآن الطريقة التي تستطيع من خلالها إنفاق نقودك بصورة أفضل في المستقبل عند تسكعك أمام مكتبات بيع الكتب .

أما إذا لم تتوقف أبداً عند ما قرأته مهما بدا لك سلبياً أو محبطاً ، ففي الغالب لن تكون المشكلة لا في الكتاب ، ولا حتى في مؤلفه ، إنما المشكلة تكمن فيك أنت شخصياً ، الأمر الذي قد يتطلب منك العمل بجدية على ترتيب موعد مع أحد الإخصائيين النفسيين .

*****
الِكتاب .. أي كِتاب من شأنه أن يؤدي في محصلته النهائية إلى حثك على طرح الأسئلة ، ومحاورة المؤلف ولو بشكل صامت أحياناً فيما كتبه ، فإن تجاوزت مرحلة الصمت إلى مرحلة البوح وراسلت المؤلف مثلاُ كما يفعل بعض ظرفاء القراء ، فهذا في ظني قفزة هائلة جداً تُـنبئ عن شخصية واعية حقاً كان لديها من الوقت والإهتمام ما أرادت من خلالهما أن تروى بعض الظمأ ، أو تستزيد من الرواء .

صحيح أن أغلب المؤلفين لن يعيروا رسالتك ثمة إهتمام ، لأنهم أناس مهمومون ومشغلون جداً ، فإنك على الأقل تكون قد أرضيت ضمير (الناقد) داخلك ، ورَسَخت في ذهنك أكثر وأكثر الفكرة النمطية التي تراودك منذ سنين ، من أن قطاعاً كبيراً من المؤلفين ليسوا في الحقيقة سوى مجموعة من الأوغاد .

*****
هل وحدهم المؤلفين أوغاد ؟
لا .. الحقيقة أن كل مؤلف وغد يقابله عشرة من القراء الأوغاد على الأقل ، وفي تفصيل ذلك أقول أن الكتابة من حيث المبدأ عمل ينطوي على قدر كبير من المعاناة ليس هذا آوان تفصيلها ، ولكنها معاناة حقيقية حتى وإن كان المؤلف يتناول فيها سرداً عاماً وغير شخصياً ، كالقضايا الإجتماعية والتاريخية والسياسية وغيرها ، ذلك أن هذا السرد من الضروري وأنه قد مر على نفس المؤلف أولاً ، وأجال فيه خاطره بحنكة مفترضة ، بل وحياد تقتضية إعتبارات أخلاقية ومهنية ، ثم رأى في النهاية أنه قد بات لديه ما يقوله لقارئه.

بناء على ذلك ، يلزم التنويه وبصورة واضحة أن الإنطباعات الإيجابية التي قد تداعب أخيلتك عقب قراءتك لكتاب ما ، لا تعني بالضرورة أن هذا الكتاب إيجابي في ذاته ، أو أن المؤلف حتى قد كان موضوعياً بدرجة كافية ، لا .. كل ما هنالك أن ما قرأته من نصوص ربما لامست أو تطابقت مع إحدى قناعاتك المعرفية التي تتبناها ، فتسارع حين تجدها (وقد تكون محقاً) إلى إبداء رأياً إيجابيا جداً بشأن الكتاب أو مؤلفه ، وتنسى أن هذه النصوص - على بهاءها - ربما تكون قد شكلت صدمة ما لقطاع آخر من القراء ، فعين ما تراه أنت حقيقة ، هو ذاته عين ما يراه غيرك وهماً أو تلفيقاً ، ولربما كان كلاكما محقين .

فالقارئ (الطبيعي) من جهته يجب أن يُقدر أن ما يقرأه ليس من المفترض ، بل وليس من المطلوب أيضاً أن يتوافق مع كل أو بعض قناعاته أو أراءه ، فالكتابة تجربة إنسانية خاصة جداً ، وما وقع في خُلد الكاتب ليس من المنطقي أن يقع في خُلد القارئ بذات الدرجة ، ولعلي هنا أستعير فقرة من مقالة سابقة لي في سياق مشابه قلت فيها ( ذلك أننا إنما نرى الشئ بأعيننا نحن ، وليس بعين صاحبه ، ونتتبع أثره في نفوسنا نحن ، لا كما وقع في نفس صاحبه ، ونقسه بزوايانا نحن ، لا كما أراده صاحبه ) .

إن الضابط الحاكم في إطار الحكم على جودة كتاب ليس - في تقديري - سوى قدرتك كقارئ على تلمس صدق المؤلف فيما يرويه من عدمه ، وبصرف النظر القطعي عن ردود أفعالك التي قد يكون بعضها هزلياً تماماً ، إن إصرارك كقارئ على أن ترى دائماً جانباً من أراءك ، مواقفك ، صورتك ، مشاهد طفولتك ، مراتع صباك ، نزق شبابك ، وهوس رجولتك ، في سطور الكتاب الذي تقرأه ليس سوى هزل من العيار الثقيل ، لأن التجارب الإنسانية لها من الرحابة والسعة ، بحيث تستوعب تجاربك ، وتجارب غيرك ، أما إذا كنت لا تستوعب فكرة (التنوع) ، أو كانت لديك مشكلة بشأن (إحترام خصوصية الكاتب)  فيما أبداه ، فما عليك للخروج من هذا المأزق ، سوى أن تبادر أنت بالكتابة شخصياً ، ثم تخرج فتعرض ما كتبته على غيرك ، وعندئذ ستدرك أن المؤلفين الأوغاد قد زادوا واحداً كان إلى عهد قريب جداً قارئاً وغداً أيضاً .

2015/01/24

سيدي .. هل تتحدث الإنجليزية ؟




بقلم : ياسر حجاج

إذا قلت لك أن اللغة الفرنسية ليست من بين العشر لغات الأولى نمواً في العالم ، فلا بد أن هذا سيثير دهشتك ، لكن هذه هي الحقيقة ، وإذا قلت لك أن لكل متحدث أصلي بالإنجليزية هناك أربعة أو خمسة متحدثين بها غير أصليين في العالم ، فإن هذا أيضاً ربما أثار التساؤلات في نفسك حول أسباب النمو الهائل لهذه اللغة حول العالم ، هذا ربما ما أراد أن يوضحه الأمريكي / سكوت مونتجمري في كتابه المعنون :-


هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية ؟
اللغة الإتجلزية ومستقبل البحث العلمي

بدا لي الكتاب من الوهلة الأولى وكأنه كتاب متخصص بعض الشئ ، ورأيت أنه قد يكون مفيداً أكثر لأولئك النفر المهتمين بالبحث العلمي ، وكتابة أبحاثهم ونشرها باللغة الإنجليزية في المجلات والدوريات العلمية العالمية ، ولكن ما إن بدأت في تصفحه حتى إستبان لي كم كنت متسرعاً في نظرتي الأولية ، فالكتاب وإن كان يتحدث عن ذلك بالفعل إلا انه كان يحاول الإجابة عن سؤال واحد كبير ( ولِمَ الإنجليزية بالذات ؟ ) .

لعل فقرة صغيرة من الكتاب تحاول أن تضعك كقارئ على أول الطريق حيث (يلتقي منتج كوري ، في فندق بأثينا ، حيث المشتري البرازيلي ، لمجموعة أشياء سويسرية ، وهو لن يتفاوض فقط ، بل سيطلب العشاء من خدمة غرفته باللغة الإنجليزية ، وربما لا يكون هناك متحدث إنجليزي محلي واحد بالفندق ، لكن جميع المقيمين غير المحليين هناك يتواصلون فيما بينهم بالإنجليزية) . 

كان لدي إنطباع (نمطي) أن إنتشار الإنجليزية على نطاق واسع عبر الكوكب لم يكن إلا نتيجة طبيعية للسياسات التي إنتهجتها بريطانيا في الدول التي إحتلتها إبان الحقبة الإستعمارية ، وأنه ومع إنتهاء الحرب العالمية الثانية بإنتصار دول الحلفاء التي تضم إثنين من كبرى الدول ذات الإنجليزية الأصلية (امريكا وبريطانيا) ، فإن إنتشار هذه اللغة قد بلغ مدىً أوسع بالتأكيد ، وهذا وإن يكن صحيحاً ، إلا أنه ليس الشئ الصحيح الوحيد الذي بوسعك الإستناد إليه إن أردت الإجابة عن السؤال سالف الذكر ( ولما الإنجليزية بالذات ؟ ) .

يتحدث الكاتب هنا بأن نحو ملياري شخص في أكثر من 120 دولة حول العالم يتحدثون الإنجليزية بمستوىً مقبول من الطلاقة ، فهذه اللغة باتت تسيطر يصورة كاملة على التواصل الدولي في ميادين العلوم الطبيعية والطب ومجالات رحبة في الهندسة ، كما تعتمد التبادلات العلمية المشتركة على اللغة الإنجليزية ، سواء بين الشركات الأوروبية والأفريقية ، أم بين الشركات الأسيوية ، كما تُصنف براءات الإختراع على نحو شامل بالإنجليزية .

لقد كان مفاجئا لي أن أعرف من خلال هذا الكتاب أنه في العام 2009 وحده حصل الطلاب الأجانب وبخاصة القادمين من الهند والصين على ما لا يقل عن 33 % من إجمالي شهادات الدكتوراه والماجستير في المؤسسات الأمريكية في تخصصات العلوم المختلفة ، وحصلوا على 57 % من إجمالي هذه الشهادات في مجال الهندسة ، وها هو أحد طلاب الدكتوراه الصينيين في مجال الفيزياء يقول (إذا أردنا الحصول على وظيفة باحث هنا ، أو في اوروبا ، أو في أي شركة دولية ، أو حتى على وظيفة عالية المستوى في الصين ، علينا أن ننشر باللغة الإنجليزية ، حتى أن أفضل علماء الصين يفضلون ذلك ، فهم يرغبون في مخاطبة جمهور عالمي ، وهذا يعني اللغة الإنجليزية ) .

إذن فالإنجليزية أضحت لغة عالمية ، بل أنه وداخل الصين نفسها ، تجد أن عشرات الجامعات ، والمؤسسات العلمية هناك وأخصها أكاديمية العلوم الصينية تقدم مقررات علمية وهندسية بالإنجليزية للطلبة الأجانب والصينيين على حد سواء .

يقول الكاتب أن الإنجليزية باتت سريعة الإنتشار وبشكل منفصل عن تأثير بلد كالولايات المتحدة ، ذلك أن حقولاً معرفية ذات بعد دولي قد شهدت نموا مطرداً في استعمال الانجليزية ، ليس فقط في مجال السياحة والتجارة فحسب ، بل في اطار العلوم الاجتماعية والانسانية ، بل أكثر من ذلك فإن التبادلات (المراسلات) بين مديرى الانتاج في تايلند واندونيسيا مثلا تكون باللغة الإنجليزية  ، كما ان محرري الدوريات في كل من الارجنتين وفرنسا يستخدمون اللغة الانجليزية ، أي بصرف النظر عن كون الطرف الاخر كان أمريكيا أم لا ، كما يقول الكاتب انه من اللافت حقاً ووفق للإحصائيات الواردة من بلدان كثيرة حول العالم ، أن المرشحين لوظائف ويمتلكون مهارات أفضل في اللغة الانجليزية ، يمكنهم في الأغلب الحصول على رواتب أعلى بنسبة 30 % إلى 50 % من بقية المتقدمين ، وبصرف النظر أيضاً عما إذا كانت بلدانهم لها علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة أم لا .

وفي العام 2010 وحده أصبح العمل في (تعليم) اللغة الانجليزية نفسه (صناعة عالمية) بلغت 50 مليار دولار ، ويقع جزء بسيط منه تحت إمرة أو إدارة الشركات الأمريكية ، فقد أدت العولمة وشبكة الإنترنت إلى التوسع في استخدام اللغة الانجليزية على نحو أسرع وأوسع ما بين عامي 1995-2010 ، أي أكثر مما فعلته الولايات المتحدة ونفوذها الإقتصادي خلال العقود الأربعة الماضية ، ولم يعد نفوذ اللغة الإنجليزية يتركز في الولايات المتحدة أو بريطانيا ، فمعظم التواصل بهذه اللغة يحدث بين غير الناطقين بها أصلا ، وهذا ما سيتنامى لاحقا ، فقد أصبحت الإنجليزية شيئا مختلفا عن كونه (لغة أولى) أو (لغة ثانية) ، إنها الآن وسيلة عالمية للتواصل التى غدا استعمالها وتقدمها أعظم من النفوذ الأمريكي ذاته ، وأن لا شئ يمكن أن يوقف إنتشارها المستمر بحسبانها لغة عالمية على الأقل في المستقبل المنظور .

مع توسع اللغة الإنجليزية تعرضت آلاف اللغات المحلية للخطر وإنقرضت ، مما دفع بعض العلماء إلى إفتراض علاقة سببية بين الأمرين بشكل عام ، فقد كان التوسع العالمي للإنجليزية في مجال العلوم جاذباً على نحو لا يمكن تجنبه لدرجة من المقاومة والقلق  ، فعديد من اللغات الوطنية والمحلية لن تكون قادرة على التواصل مع الإنجليزية في مجال العلوم ، لاسيما مع المفردات العلمية والتعبير ، وبذلك سوف تموت هذه اللغات واللهجات في هذا المجال الحاسم .

جوزيف ناي
إن محاولة أخرى لفهم أسباب إنتشار اللغة الإنجليزية - حسب الكاتب - هي أن نتأمل ما يسمى (بالقوة الناعمة) الذي صاغه جوزيف ناي وهو عالم علاقات دولية ومساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ، والذي يشير إلى أن الدولة يمكنها أن تكسب التأثير ليس بالقوة فقط ، وإنما بالجاذبية من خلال أمور كالسياسة الفعالة مثلاً ، والمؤسسات الجيدة والثروة ، والإيدولوجيا ، لكن اللغة هي نوع آخر من عوامل الجاذبية ، نوع يلغي أي حدود وطنية ، فكثير من الأمم والشعوب الآن ترغب في التقليد والإستفادة من نجاح هذه اللغة . 

*****
هذه شذرات توقفت أمامها بينما أطالع الكتاب الذي بلغت منتصفه للآن ، والحقيقة أن القدر المتيقن منه في ظني ، أن هذه اللغة تنمو (بفيض) بالغ ، في مجالات عديدة حول العالم ، ويجب أن نكون في عالمنا العربي جزءاً من هذا الفيض بحال من الأحوال ، وذلك بتعلمها وتعليمها وتنمية مهاراتها المختلفة على أساس علمي ومنهجي ، دون الإسترخاء الدائم إلى فكرة (الترجمة) ، وإلا فإن ما يقوله الكاتب سيكون صحيحاً من حيث (أن الدولة التي تقرر أنها لن تُعلم الإنجليزية لشعبها هي دولة تسعى وراء العزلة المستعصية) .

ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن يكون الإهتمام باللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية ، التي يجب أن يتوجه لها الجهد الأكبر ربما ، بحسبانها لغة هوية ثقافية ودينية ، لا خلاف على أهميتها ، لا سيما في ظل التدهور الواضح في آليات التعامل بها (مخاطبة وكتابة) حتى بين أولئك الذين يُفترض بهم عناية أكثر بها ، كخريجي الجامعات وصنوف المتعلمين الآخرين ، ناهيك بالطبع عن قطاع من الصحفيين والإعلاميين الذين أرى لغتهم العربية بائسة في أفضل الأحوال .
 
في النهاية أجد هذا الكتاب رائعاً وموثوقاً للغاية ، فهو لم يصدر إلا منذ أقل من شهرين وتحديداً في أول ديسمبر 2014 الماضي عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) ، وبالتالي فإنه بوسعك الإعتماد على الإحصائيات والجداول الواردة به ، والتي تعالج موضوعاً كنت أحسبه جافاً أو متخصصاً في أفضل الأحوال ، فإذا به واحداً من أفضل ما قرأت خلال الشهور الأخيرة الماضية ، وعليه فإني أنصح بقراءته ، وإن يكن مترجماً .

على هامش الكتاب
اللغات المحكية العشر الأولى في العالم

1- المندرين (الصينية القياسية)
2- الأسبانية
3- الإنجليزية
4- الهندية
5- العربية
6- البرتغالية
7- البنغالية
8- الروسية
9- اليابانية
10- الألمانية

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة